الفصل السابع

7.7K 260 10
                                    

صباح اليوم التالي
أحكمت حجابها حول وجهها جيداً، ثم ذهبت ملتقطة حقيبتها و.. هاتفها..
فتحته، لترى العديد و العديد من المكالمات، و كلها من شخص واحد (آدم) لتتجاهلها، و تخرج من الغرفة، بل من الشقة، متجهة إلى عملها..
سارت ترد على تحيات الجيران ببرود و ملامح جليدية لا تكشف دواخلها، حتى خرجت من الحارة..
تعالى رنين هاتفها، فنظرت إلى شاشته بارتباك، لتزفر أنفاسها بارتياح عندما وجدت أن المتصلة روضة!
"أيوه يا روضة".
ردت بنبرة ميتة.
ليصلها صوت صديقتها: "أنتِ فين يا بنتي، بقالي ساعة مستنياكِ".
خرجت أماني إلى الطريق العام، بينما ترد عليها: "أنا قربت أوصل للمصنع أهوه".
فتقول روضة باستنكار: "توصلي فين؟!
معدتيش عليّا ليه طيب علشان نمشي سوى زي كل يوم؟"
فقالت أماني بشرود: "معلش، أنا عايزة امشي لوحدي النهاردة".
استرعت نبرتها البائسة انتباه روضة، فسألتها بقلق: "أماني أنتِ كويسة؟
فيه حاجة حصلت؟"
لتطمئنها أماني بقولها: "كويسة يا حبيبتي متقلقيش..
هشوفك بالليل إن شاء الله، روحي أنتِ بس علشان متتأخريش على مدرستك".
لم تقتنع روضة بكلماتها، و لكنها أجّلت الحديث فيما يحدث مع صديقتها حتى تراها، فالحديث على الهاتف لن يأتي بفائدة.
"طيب يا حبيبتي، أشوفك بالليل إن شاء الله..
مع السلامة".
أغلقت أماني الهاتف مع صديقتها لتلتفت حولها.. باحثة عنه!
لا تنكر أن سبب من أسباب عدم مرورها على روضة كما يحدث يومياً هو رغبتها في عدم وجود أي شخص عندما تتحدث معه، حتى لا تقع تحت الضغط، خاصة و روضة من أكثر المشجعين لها في خوّض التجربة مع آدم..
شعرت بخيبة الأمل عندما لم تراه، حيثُ كانت تتوقع وقوفه في انتظارها من الصباح الباكر لمعرفة سبب غلقها لهاتفها..
لتأنب نفسها بعنف: "أنتِ زعلانة ليه؟!
ده كويس إنه فهم لوحده و نفد بجلده بدل ما كنتِ تتبعي علشان تتخلصي منه".
و أقنعت نفسها بهذه الكلمات طوال الطريق!
**********
ضرب جبينه بعنف لاعناً النوم الذي ضيّع عليه موعد خروجها إلى العمل..
قاد سيارته بسرعة غير مبالي بالطريق المزدحم، ليصل إلى مدخل الحارة الذي تقطن فيها في وقت قياسي..
ركزّ نظراته عليه داعياً أن تكون تأخرت في الذهاب إلى عملها، فلابد له من الحديث معها و معرفة سبب عدم ردها عليه أمس، فمستحيل أن يكون الأمر مقتصر على نفاذ شحن الهاتف!
انتبه إلى خروج روضة من الحارة.. لحالها، فأسرع إليها قائلاً:
"صباح الخير".
تفاجئت روضة بوجود آدم أمامها في هذا الوقت، و إيقافه لها للحديث معها!
"صباح النور..
ازيك يا كابتن؟"
"الحمد لله"، أجابها باختصار.
ثم سارع بسؤالها.. دون حتى أن يسأل عن حالها: "هي أماني فين؟"
لتعقد روضة حاجبيها بعدم فهم، و تُجيبه: "أماني في الشغل..
خير فيه حاجة؟"
مسح آدم على شعره بعصبية، و قال بنبرة خرجت حادة رغماً عنه: "و الله مانا عارف فيه أيه..
من امبارح و أنا بتصل بيها، اداني في الأول جرس و بعدين التليفون اتقفل، و لغاية دلوقتي مردتش عليّا".
ارتفعا حاجبي روضة مفكرة، لتتراءى أمامها أحداث الأمس و ما فعلته أماني بسبب إصابة آدم، فتفهم سبب عدم ردها عليه!
و من دون تردد أخبرته بكل ما حدث، ليجز آدم على أسنانه بحنق، صائحاً:
"هي البت دي غبية و لا أيه؟
يعني هو ده أول ماتش اقع فيه!
ده أنا حتى قومت بعدها على طول، أومال لو كنت اتصبت أسبوع و لا اتنين كانت عملت أيه؟
و على الرغم من أن الحماقة لا تصف ما فعلته أماني أمس، إلا أن روضة شعرت بالغضب من حديث آدم عنها، فقالت بتوضيح:
"أماني عمرها ماتفرجت على ماتش و متعرفش أيه اللي بيحصل فيه..
هي حكمت على الموضوع من ناحية حياتها و اللي عاشته".
لكن آدم لم يفهم كل ذلك، مؤمناً أن كل شئ قضاء و قدر.
فقال بعصبية: "عاشت أيه بس، ده غباء".
لتزفر روضة أنفاسها بنفاذ صبر، و تقول منبهة إياه: "ياريت تراعي إنك بتشتم صاحبتي!"
رفع آدم حاجبيه مدركاً عدم رضى الفتاة عن حديثه عن أماني، و مع ذلك لم يتراجع عن كلماته، بل سألها:
"يعني بذمتك هي مش غبية؟"
لتعض روضة شفتيها بحرج، و تهمس لنفسها: "دي غبية و ستين غبية كمان..
بس هنعمل أيه القدر خلاها يا عيني خايفة من دبان (ذباب) وشها (وجهها)".
ثم ارتفع صوتها: "طيب حضرتك عايز أيه دلوقتي؟
علشان أنا اتأخرت على شغلي".
ليتنفس آدم بقوة مفكراً، ثم يسألها: "إلا صحيح، أنا لغاية دلوقتي معرفش هي بتشتغل فين!"
**********
"أماني المدير عايزك".
التفتت أماني إلى المشرفة على عملها بارتياب، فليس من المعتاد أن يطلبها المدير إلى مكتبه، و أي تعديل على عملها أو أمر كان يوجّه لها عن طريق المشرفة.
"عايزني أنا!
ليه خير؟"
رفعت المشرفة أكتافها بعدم معرفة، و قالت: "مش عارفة، هو طالبك في مكتبه دلوقتي".
تركت أماني قطعة القماش التي في يدها لتتجه إلى مكتب رئيسها، و مع كل خطوة تخطوها الآف الأسئلة تهاجم عقلها..
تُرى لما يريدها؟
هل سيطردها أم ماذا؟
وصلت إلى مكتبه لتطرق الباب بتردد، ثم تفتحه بعد أن سمعت أمره بالدخول..
دخلت مطرقة الرأس، دقات قلبها متسارعة بخوف، فإن صدقت ظنونها و طردها ستكون نهايتها، فهذا العمل الذي تعامد عليه عائلة عمها.
"تعالي يا أماني..
كابتن آدم مصّر إنك تمشي دلوقتي و مش راضي يستنى لما تخلصي شغل..
و أنا وافقت علشان خاطره بس".
رفعت أماني رأسها بحدة فور أن استمعت إلى كلمات رئيسها، لتجد آدم أمامها، جالساً. واضعاً قدماً على الأخرى بغرور، و نظراته الغاضبة مثبتة عليها..
"أيه اللي جاب المجنون ده هنا؟"
هتفت بداخلها بحيرة.
لتنتبه بعدها إلى كلمات رئيسها: "هو أنتِ عندك شغل كتير النهاردة؟"
لتهتف أماني بصرامة: "أيوه يا فندم، بس حضرتك متقلقش، أنا مش همشي غير لما أخلص....".
لينهض آدم بحدة و يقترب منها ليمسكها من ذراعها برفق، حتى لا يشك المدير في شئ..
و يلتفت إليه قائلاً بابتسامة سمجة: "شكراً جداً لحضرتك، و هي إن شاء الله هتكون هنا بكرة في ميعادها".
كادت أماني أن تعترض على مايفعله، إلا أنه ضغط على ذراعها بقوة و نظر إليها بتحذير، فابتلعت اعتراضها مرغمة..
و وصلتها كلمات رئيسها: "و لا يهمك يا كابتن، و مستنيين الكاس إن شاء الله".
ليبتسم له آدم، و يتمتم بـ (إن شاء الله) قبل أن يسحب أماني معه إلى خارج المصنع.
**********
"سيبني بقى، أيدي وجعتني".
لم يرد عليها آدم، بل لم يلتفت لها حتى..
فقالت له أماني و هو يسحبها إلى خارج المصنع: "استنى أنا شنطتي جوا".
تركها متأففاً، ليلتفت إليها.. رافعاً سبابته بتحذير: "دقيقتين بالظبط و الاقيكِ قدامي..
و قسماً بالله يا أماني لو عملتي حركة غبية من حركاتكِ ماهيحصل كويس".
لتنظر له أماني بشزر، و تتحرك من أمامه مطرقة الأرض بقدميها بقوة.
ليبتسم آدم على حركتها، و يتجه إلى سيارته..
فتح هاتفه ليتصل بوالده، و يخبره أن أماني على استعداد لمقابلته الآن، فاتفقا على المقابلة في إحدى الكافيهات بعد ساعة..
أغلق الخط راضياً على ما فعله، فإن كان ترك الأمر لها كانت ستعترض و تراوغ، خاصةً بعد ما حدث أمس..
رآها تخرج من المصنع و تلتفت باحثة عنه بحيرة، فأطلق بوق سيارته منبهاً إياها، لتتحرك باتجاهه..
عزم على السيطرة على أعصابه، مذكّراً نفسه أنها لم تفعل ما فعلته إلا من خوفها عليه، لذا عليه أن يكون رحيماً بها..
ارتفع حاجبيه بدهشة و هو يراها تقف بجانب السيارة مكتفة ذراعيها..
فمال بجزعه العلوي ليفتح شباك السيارة، و يسألها: "ما تركبي واقفة عندك ليه؟"
فترمقه بنصف عين، و تقول ببرود: "و أنت فاكر إني هركب معاك العربية عادي كده؟"
ليتعالى صوته، ناسياً كل السيطرة على النفس التي كان يرغب في التحلي بها: "اللهم طوّلك يا روح..
يا بنت الناس متعصبنيش، أنا فيّا اللي مكفيني منك لغاية دلوقتي".
لتقول بعناد.. دون أن تنظر إليه: "و أنا مستحيل أركب معاك..
فاتفضل قول الكلمتين اللي عندك و اتكل (توكل) على الله".
قبض آدم كفه بقوة، هامساً بداخله: "اهدى.. اهدى، دي بتعمل كل ده علشان تطفشك، لسه اللي حصل امبارح مأثر عليها".
بينما نظرت إليه أماني بطرف عينيها، تترجاه بداخلها أن يغادر و لا يضغط عليها أكثر، فيكفي أنها باتت تتألم لأنها تبعده عنها.
"هو إنتِ ركبتي تاكسي قبل كده؟"
التفتت إليه رافعة حاجبيها بدهشة، لتسأله: "و أيه لازمة السؤال ده؟"
ليقول بعناد: "جاوبي الأول".
هزت رأسها بارتياب، قائلة: "أيوه طبعاً، فيه أوقات كتير اضطريت فيها إني أركبه، مع إني بكره ده".
ليرفع آدم كتفيه ببساطة، و يقول: "خلاص اعتبري العربية تاكسي و أنا السواق".
"نعم".
تعالت صيحتها المستنكرة.
ليقول آدم مؤكداً: "زي ماسمعتي كده".
ثم ينظر إلى ساعته، و يتابع: "و ياريت بسرعة بقى علشان منتأخرش على بابا".
رددت وراءه بغباء: "بابا!
بابا أيه؟"
ليبتسم لها آدم، و يقول بسعادة يخفي ورائها توتره من هذا اللقاء: "أيوه بابا طلب إنه يقابلك و يتعرّف عليكِ قبل مانيجي و نتقدم رسمي".
لتبتسم هي الأخرى، لكن ابتسامتها كانت مختلفة، مليئة بالغموض و.. المرارة!
ليدرك آدم ماتفكر فيه، و لكنه فضّل ألا يتحدث معها إلا عندما تهدأ تماماً!
"مش يلا بقى؟"
و كما توقع، صعدت أماني إلى سيارته دون مناقشة، لتجلس على المقعد الخلفي!
**********
صمت حلّ على السيارة، استعادت فيه أماني هدوءها و وجهها الجليدي.. اللامبالي، حتى تستطيع مواجهة والد آدم كما ينبغي..
بينما آدم ينظر لها بين دقيقة و أخرى من المرآة، يتوقع ما تخطط له، و يفكر في طريقة تمنعها عن تنفيذه دون استفزاز عنادها!
"يعني مسألتنيش عرفت عنوان شغلك ازاي؟"
لتلوي أماني شفتيها بعدم رضى، و تقول بإدراك: "و مين غيرها اللي بقيت توقف معاك ضدي!
بس و الله لأوريها".
ليضحك آدم على نبرتها و توعدها، ثم يقول مستلطفاً: "و توريها ليه بس، ده كل اللي بتعمله علشان تكوني مبسوطة".
فتزمّ أماني شفتيها، و تقول بحزن حرصت على عدم ظهوره في نبرتها: "ده على أساس إني معاك هكون سعيدة!"
ليرفع آدم حاجبيه باستنكار، و يسألها: "أنتِ عندك شك في كده؟"
لتشرد أماني مفكرة أنها لن تذوق السعادة معه، و ستظل تحيا في خوف أن يصيبه مكروه بسببها، و بعدها ربما ستحزن طوال عمرها!
صفّ آدم سيارته بجانب الكافيه الذي اتفق مع والده أن يتقابلا فيه، ليلتفت إلى أماني، قائلاً:
"بصي بقى، عايزك زي الشطورة كده تقعدي قدام بابا ساكتة، و تجاوبيه على أد السؤال لاحسن غباءك يطلع و تبوظي الدنيا".
لتبتسم له أماني بوداعة، و تقول بنبرة بريئة: "متخافش".
أثار هدوئها ريبته، فقال: "لا ده أنا أخاف و أخاف و أخاف".
ثم يتابع بإصرار: "بصي، لو أنتِ عنديّة (عنيدة) فأنا أعند منك مليون مرة، و بابا بقى بملايين، و على فكرة هو عارف قصتك كلها".
ظهرت الصدمة على أماني، فيتابع آدم برضى: "طبعاً أومال أنتِ فاكرة أيه؟
ده أنا حكتله كل اللي قالتهولي روضة بالمللي، يعني جو الكآبة و وش النحس و ابعد أبنك عنّي لاحسن يموت، ده كله مش هينفع معاه، أصله هو اللي محفظني القرآن من و أنا اد كده اهوه".
و قرّب كفيه من بعضهما إشارة إلى صغر سنه.
ثم أردف: "فلو عايزة تطفشيه منك ممكن تشوفي حل تاني..
أقولك ادخليله بدور البت اللي ميهمهاش حد و قوليله إن أخلاقك زفت، بس ساعتها برضه خطتك هتبوظ..
لأنه هياخدك بالأحضان و يقولك حبيبتي يا مرات أبني، أنا كنت مستنيكِ من زمان علشان تربيه".
و أرفق جملته و هو يضم ذراعيه إلى أحضانه، لتقهق أماني عالياً دون أن تشعر، سارقة نظراته.
"ربنا مايحرمني من الضحكة و لا صاحبتها".
عضّت شفتيها السفلى بخجل، و وجهها قد اصطبغ باللون الأحمر.
ليغني آدم و هو يطرق بأصابعه المقوّد بخفة:
"ياللي الشمس الدنيا تطلع لما تطلع ضحكة منك..
حسّي بالناس الغلابة اللي زيي بعد أذنك..
بطلي تحلوّي أكتر، و اوعي وشك يوم يكشر..
و اضحكي دايماً يا سكر، ياللي سابقة بجد سنك..
اضحكي خليني اضحك، ضحكتك بترد روحي..
ربنا وحده اللي يعلم، بعشقك ازاي يا روحي".
التقت نظراتهما من خلال مرآة السيارة، لتفغر أماني فاهها بذهول، و صوته يتسلل إلى أعماقها.
"صوتي حلو صح؟
شوفتي بقى إني متعدد المواهب، و لسى ماخفى أعظم..
بس المخفي بقى ممنوع يظهر دلوقتي؛علشان الرقابة".
و غمزها بعينه بوقاحة.
ليشتعل جسد أماني من الخجل، و تسرع للترجّل من السيارة.
فلحقها آدم، و هو يقول: "استني استني على فين؟
الكافيه اهوه".
و صاحبت كلماته إشارة من يده إلى مكان الكافيه.
لتلتفت إليه أماني بحيرة، و قد أنستها أفعاله سبب مجيئهما إلى هنا و مقابلتها لوالده..
فاستغل آدم حيرتها وسحبها إلى الداخل، هامساً بداخله:
"الله عليك يا دومة..
اهي كده هتقعد قدام الحج زي القطة الوديعة و لا هتهش و لا هتنش، و المقابلة هتمر على خير إن شاء الله".
سارا معاً حتى وصلا إلى جاسم، و الذي نهض فور أن رآهما، متفحصاً أماني بدقة.
"صباح الفل على أحسن أب بالدنيا".
نظر جاسم إلى ولده بطرف عينه، و قال بمشاكسة: "و هو أنا بقيت النهاردة أحسن أب يعني؟"
ليمسح آدم على شعره بإحراج، و يقول: "جرى أيه يا حج، أنت هتضيع هيبتي قدامها على طول كده و لا أيه؟"
فيربت والده على كتفه، و يقول بمرح: "لا يا كابتن ازاي؟
اتفضل هوّينا بقى علشان هيبتك متضعش".
كانت أماني تنظر إليهما مبتسمة بحيرة، تراهما يتحدثان و يتمازحان و كأنها واحدة من عائلتهما.
و مع ذلك ازداد إصرارها على الابتعاد عن آدم، حتى لا تختفي هذه الابتسامة من على وجه والده!
في حين أن آدم رمق والده بعدم رضى، إلا أن لسانه لم يقوى على الاعتراض، مدركاً أن والده لن يسمح له بالجلوس معهما طالما يريد ذلك.
"طيب أنا هستناكم برا".
ليلتفت إلى أماني بارتياب، خائفاً من أن تقوم بأي فعل أحمق..
فيميل على والده، و يهمس برجاء: "بس يا بابا هو حصل حوار كده امبارح..
فيعني لو قالت حاجة كده و لا كده معجبتكش عديها، و أنا هتحاسب معاها بعد كده".
رفع والده حاجبيه دون رضى، فيتابع آدم برجاء: "علشان خاطري يا بابا استحمل أي حاجة تقولها..
و أنا هفهمك كل حاجة بالليل".
ليأومأ له والده بالموافقة، فيتسّرب بعد الارتياح لآدم، و لكنه لم ينسى رمق أماني بتحذير قبل أن يخرج من الكافيه.
**********
"تحبي تشربي أيه؟"
توترت أماني عندما وجّه جاسم لها الحديث، فردت بارتباك: "لا شكراً، مش عايزة حاجة".
ثم تأخذ نفساً قوياً مستدعية به كل قوتها، لتسأله: "لو ممكن أعرف حضرتك طلبت تقابلني ليه؟"
فيرد والد آدم بينما يشير إلى النادل ليحضر و يأخذ طلبهما: "و أنتِ مستعجلة على أيه؟
هنتكلم في كل حاجة متقلقيش".
و على الرغم من رغبة أماني في الابتعاد عن آدم من الأساس، إلا أن دقات قلبها تسارعت قلقاً من نبرة الرجل، و ازدادت بكلماته:
"قوليلي أنتِ طيب، تتوقعي أنا طلبت أقابلك ليه؟"
سألها جاسم بفضول، رغبة منه في اكتشاف دواخلها و معرفة شخصيتها.
لتفكر أماني بمنطقية لأول مرة في هذا الصباح، تحديداً من بعد مقابلة آدم..
لِمَ جاسم سيطلب مقابلتها على الرغم من أنه علِم بقصتها كاملة؟
ظهر الحزن في نبرتها و هي تقول: "أنا مقدرّة طبعاً إنك مستحيل تخلي أبنك ياخد واحدة زيي، بس صدقني أنا عملت كل اللي في ايديا علشان ابعده، لكن هو مبيبطلش جري ورايا، فالحل بقى عند حضرتك، أنا مفيش حاجة أقدر أعملها أكتر".
ليبتسم جاسم بغموض، و يقول: "كويس جداً، ده أنتِ واضح إنك مش هتتعبيني خالص".
ابتلعت أماني غصة مليئة بالمرارة في حلقها، و أطرقت برأسها، لتعض على شفتيها فتمنع دموعها من الهبوط، قاتلة أمل كان يتسّرب إليها على استحياء.. أن تكون لآدم!
لتهمس لنفسها بسخرية: "و أنتِ كنتِ فاكرة أيه؟
هياخدك بالأحضان زي ما آدم كان بيتريق عليكِ!
فوقي بقى، مفيش حد هيقبل إنه يعيش في خوف علشان خاطرك".
ثم رفعت رأسها إليه بإصرار ازداد أكثر مما كان، محييّة نفسها لأنها أول مَن اتخذت قرار الابتعاد و لم تحرج نفسها مع الرجل، على الرغم من أن قلبها كان يحتضر حزناً!
"شوف حضرتك عايز أيه و أنا مستعدة أعمله".
ليقول جاسم بصدق: "أنا مش عايز غير سعادة أبني..
حتى لو سعادته دي.. معاكِ!"
لتتوسع حدقتي أماني بصدمة، غير مصدقة كلماته!
**********
في منزل روضة
دخلت الغرفة الصغيرة المخصصة للضيوف، حاملة صينية موضوع عليها كوبين من الشاي..
وضعتها على الطاولة، لتجلس بجانب خطيبها، و تسأله بفضول:
"هاه وصلت لأيه؟"
ليعطيها فارس بعض الأموال، قائلاً: "بصي يا ستي، دول بتوع الغسالة و السخان، تمام؟"
لتضعهم روضة على الجانب، و تقول: "تمام".
فيلتقط فارس عدة أوراق نقدية أخرى، و يقول: "و دول بقى لأوضة النوم و المطبخ، أنا اتفقت مع النجار امبارح، و وعدني إنه هيكرمني..
يبقى كده باقي أيه؟"
التفتت إليها فارس و هو يقول أخر كلماته، ليجدها تنظر إليه ببلاهة، و ابتسامة واسعة ترتسم على ملامحها.
"فيه أيه يا بت مالك؟"
لتجيبه روضة ضاحكة: "مش مصدقة".
و لم يكن بحاجة لسؤالها عما تقصد، فحتى هو لا يصدق للآن أنهما سيتزوجا بعد فترة خطبة فاقت الثلاث سنوات.
ليقول بسعادة: "لا صدقي، و أخيراً هنبقى سوى و يجمعنا بيت واحد".
لتتساقط دموع روضة من السعادة، و تقول: "تعرف يا فارس، ربنا ده حلو أوي، و كريم أوي أوي..
يعني في الوقت اللي كنت بدأت أفقد فيه الأمل، و احس إنه خلاص مش هنكون لبعض، يروح هو يفتحها علينا من أوسع أبوابه، و يرزقنا في وقت قصير أوي بحاجات كتير أوي أوي، كنا نحسب إننا هنحتاج سنين تانية كتير علشان نحققها".
ليقترب فارس منها بجسده حتى كاد أن يلامسها، فيقبض على كفه بقوة حتى لا يمسح دموعها، فللآن هي لم تصبح له رسمياً.
"ده علشان أنتِ عمرك ما بطلتي تدعيله، عمرك ما يأستي من رحمته أو شكيتي في كرمه..
و بعدين بقى امسحي دموعك دي، هو احنا في الحزن هنعيط و في الفرح كما هنعيط!"
لتمسح روضة دموعها بطفولية، و ترتسم ابتسامة فاتنة على وجهها الخمري، و تقول:
"لا مش هعيط اهوه".
"ايوه كده".
قالها ثم عاد لإحصاء الأموال و توزيعها على ما ينقصهما، و روضة تشاركه بحماس، غير مصدقة أن أقل من شهرين تفصلها عن بدء حياة جديدة!
**********
في الكافيه
"حضرتك قولت أيه؟"
سألت أماني والد آدم بعدم تصديق.
ليكرر الرجل بابتسامة صافية: "قولت إن أنا متهمنيش في الدنيا دي غير سعادة آدم..
وطالما هو شايف إن سعادته دي معاكِ فأنا مقدرش اقف في طريقه".
انتفض قلب أماني و هي ترى كل الحواجز التي تعوقها عن الاقتراب من آدم تتلاشى، سوى الحاجز الذي تضعه هي!
"هو تقريباً آدم محكاش لحضرتك عن كل حاجة في حياتي..
أنا.. أنا أي حد بيقرب مني.. بيموت".
تحدثت أماني بنبرة مرتعشة، ليخفت صوتها عند الكلمة الأخيرة (بيموت).
لم يعلق جاسم على كلماتها، حيثُ كان يريدها أن تتحدث هي عن نفسها، لتكون كل الأمور أمامه واضحة!
فأطرقت أماني برأسها، و بدأت تقصّ حكايتها بهمس، و دموعها تتساقط تدريجياً و جروحها تُفتح من جديد.
"و بعد ما خطيبي السابق عمل الحادثة بأيام، زرته في المستشفى زي ماتعودت في أول أيام إصابته، راحوا أهله هزقوني و طردوني..
و أمه دعت عليّا، قالتلي ربنا ياخدك زي مانحستي أبني و خليتيه و لا هو عايش و لا ميت".
تأثر جاسم بقصتها، و ازداد تأثره و نبرتها الحزينة تتسّرب إلى قلبه و دموعها تلمس روحه، فتسيطر عليه رغبة لتعويض هذه الفتاة و تبديل حزنها فرحاً.
"بس الواد آدم ده طلع خلبوص صحيح، ذوقه حلو أوي".
لترمقه أماني ببلاهة، لا تعلم أنطق ما قاله حقاً، أم هي مَن سمعت خطأ؟!
"هو حضرتك قولت أيه؟"
ليبتسم لها جاسم بشفقة، و يقول: "قولت إن آدم ذوقه حلو، و شكلي كده هبتدي أغير منه".
لتضحك أماني بعدم تصديق، ثم تقول بتلعثم: "تقريباً حضرتك لسه مستوعبتش اللي أنا قولته".
ليميل والد آدم بجزعه مستنداً على الطاولة بذراعيه، و يقول بإيمان: "بصي يا بنتي، كل حاجة بتحصل لنا قضاء و قدر، من و احنا في بطون أمهاتنا و حياتنا دي مكتوبة، يعني لو آدم كان مكتوبله إنه يموت و هو عمره خمس سنين كان مات، مع إنك ساعتها مكنتيش تعرفيه، و لو مكتوبله يموت و هو عمره تلاتين (ثلاثون) سنة و أنتِ خطيبته و لا مراته فهيموت برضه، مش علشان أنتِ اللي نحستيه، لاء، علشان ربنا كاتبله كده".
وضعت أماني كفها على قلبها تشعر أنه سيتوقف عن النبض، و دموعها ترطبّ وجنتيها مشاركة إياها حيرتها مما يحدث..
تشعر أنها في حلم.. حلم جميل، ستستيقظ منه في أي لحظة لتجد والد آدم يعنّفها و يطلب منها الخروج من حياة أبنه.
لتنتفض على كلمات آدم: "أيه ده يا بابا؟، هو أنت قاعد معاها علشان تعيطها (تبكي)".
لتلتفت إليه أماني، و تقول و هي تمسح دموعها: "لا أنا مش بعيط".
فيتألم قلب آدم عليها، و يلتفت إلى والده بعتاب.
فيقول جاسم بابتسامة: "متخافش يا كابتن، بس هي شكلها حساسة شوية..
المهم عايزين نحدد معاد علشان نروح نخطبها لك، و لا أنت مش عايز!"
لتتوسع عيني آدم باستنكار، و يُسارع بالقول: "مش عايز أيه، ده أنا لو بأيدي أروح اخطبها دلوقتي".
فتتعالى ضحكات جاسم على حماس أبنه، قبل أن يقول: "لا النهاردة أيه، احنا نزورهم بكرة المغرب إن شاء الله".
ثم يلتفت إلى أماني، و يسألها: "أيه رأيك يا أماني؟
مناسب الميعاد ده ليكِ؟"
لترمقه أماني باستجداء، و كأنها تستأذنه في الاقتراب من آدم!
**********
في منزل آدم
جالس في صالة منزله، يهز قدمه و يفرقع أصابعه بتوتر، عيناه مثبتة على غرفة نوم والديه، و التي أخذ فيها والده والدته منذ قليل ليقنعها بزواجه من أماني.
"يارب، أنا مش عارف أنا حبيت البت دي امتى و ازاي، بس أنا حاسس إني مش هقدر أعيش من غيرها..
يارب ماما توافق عليها و متحطنيش في اختيار بينهم".
دعى بخضوع، متمنياً من كل قلبه أن ينجح والده في مهمته.
**********
داخل غرفة والدي آدم
توسعت عينا والدته بصدمة، صائحة باستنكار: "أنت بتقول أيه يا حج؟
آدم عايز يتجوز مين؟!"

و كان القدر (كاملة)Where stories live. Discover now