الفصل الثاني

9.4K 302 13
                                    

مش تنسوا الفوت و الكومنت 😅😅

قبل عدة ساعات
خرجا من الشقة محبطين، البؤس مرتسم على ملامحهما، و عيونهما توضح مدى حزنهما و يأسهما..
إلا أن فارس لم يسمح لهذه الحالة بأن تسيطر عليهما كثيراً، فقال بمرح يخفي ورائه ما في قلبه:
"بقولك أيه أنا ميت جوع، تعالي ناكل قبل ماروّحك و أروح الشغل".
لتعترض روضة بوهن: "لا أنا عايزة أروّح".
ليرفع أكتافه بطريقة غريبة، و يغني: "متروحشي".
لم تتمالك نفسها، فانطلقت ضحكاتها، و إن كانت خرجت بائسة!
"ليك مزاج تهزر و تغني".
فهتف بابتسامة زائفة: "و منهزرش ليه يعني، هو حصل ايه؟
الشقة فيه بدالها ماية، المهم إنه احنا سوى".
تنهدت بقوة، ثم قالت بأسى: "ماية أيه بس، ده احنا بنتشحتف (نبحث عن) على واحدة".
ليقول بأمل: "يا ستي، بكرة ربنا يعدلها، و عش صغير يجمعنا، و كتاكيت حلوين يملوه".
لتعود و تصدر تنهيدة أخرى، مليئة بالمرارة و الحزن: "امتى بس؟
العمر بيجري، و احنا لسه زي ماحنا".
و هذا كان أكثر ما يخاف أن يسمعه، يخاف أن يأتي يوم و تمّل من حالهما، فتتركه!
و هو يعترف أنه عاشقاً أنانياً، يريدها رغم كل الظروف المحيطة بهما..
"عمر أيه اللي بيجري، أنت لسه صغير و جميل يا جميل".
ثم دفعها بخفة إلى إحدى الطاولات الموجودة على جانب الطريق، و قال:
"اقعدي استنيني هنا، هروح اجيب سندوتشات و اجي".
لتُسارع بالقول قبل أن يبتعد: "هاتلي من كل نوع واحد".
ليلتفت إليها، و يقول مُدعيّاً الصدمة: "هتاكلي ثلاث سندوتشات يا مفجوعة!"
فتزم شفتيها بطريقة طفولية، لا تتناسب مع سنوات عمرها السابعة و عشرين، و تقول بامتعاض:
"اهو اهضم موضوع الشقة العسل".
فيُبرطم بعدة كلمات وصلت إليها واضحة، و هو يتجه إلى مطعم الفلافل: "بتهضم بالأكل، الله يكون في عوني، شكلي هفلس قريّب".
أراحت روضة وجهها على كفها، عيناها تتبعاه، بينما عقلها شارداً..
لقد أتمت السابعة و العشرين، ثلاث سنوات تفصلها عن الثلاثين، و لا يبدو أن الفرج قريباً..
أنبّت نفسها بقسوة، فلتحمد الله على حالها، و أنها أفضل من كثير ممن حولها، أقربهم صديقتها أماني، و التي تُعاني من كل الجهات، بالإضافة إلى لقب عانس الذي يُلاحقها!
**********
عاد فارس بعد عدة دقائق، ليرى حبيبته على هذا الحال، و الحزن يتجّلى في عينيها البنيتين و تغضّن ملامحها الناعمة، ليدعو بتضّرع:
"يارب سهلها".
ألقى السندوتشات على الطاولة بقوة، و تذمر بمزاح:
"اتفضلي ياستي، مرتبي خلص علشان خاطرك".
لتلتقط السندوتش الساخن، و تلتهمه مُصدرة صوتاً متلذذاً، ثم تقول: "مرتبك خلص على سندوتشين فول و طعمية، يالهوي".
ليُشير إلى سندوتشي البطاطس، قائلاً: "متنسيش البطاطس يا حلوة".
لتتجاهل كلماته، و تتابع تلذذها بطعم السندوتشات، فيلتقط واحداً، و يلتهمه بعد أن يقول بسخرية:
"اللي يشوفك و أنتِ مستمتعة أوي كده يقول بتاكلي كباب و كفتة مش فول و طعمية".
فتُجيبه بلا مبالاة: "مبحبش الكباب و الكفتة".
ليُكملا طعامهما بصمت، و كلاهما شارد في أفكاره، لكنهما كان يصلا إلى نفس النقطة في النهاية..
كيف سيكون مستقبلهما؟
هل سيُعلن القدر قراره و يكون الفراق مصيرهما؟
**********
عودة إلى الوقت الحالي
دخل إلى بيته بوجوم، و مازال يسب نفسه على تهوره و ذهابه إلى تلك الحارة و جلوسه فيها و تخليه عن تدريبه!
حيّا والديه بهدوء ليس من سمته، ثم أخبرهم أنه مُتعب و يرغب في النوم، ليتركهم دون الاستماع إلى ردهم و يتجه إلى غرفته..
أغلق بابها و استند عليه، ثم فرك جبينه، و أغلق عينيه البنيتين بتفكير..
ماذا دهاه؟
منذ متى و هو يتصرف دون تفكير؟
تراءت أمامه عينيها السوداوتين بلمعتهما المميزة، ليشعر بالضعف، و يعود و يتساءل عما لمّ به!
تحرك ببطء ليستلقي على سريره، دون حتى أن ينزع حذاءه!
و عقله منشغل بتلك الفتاة و ما تفعله به، فلم يعد آدم جاسم الذي يعرفه منذ أن رآها!
ظهرت صورتها أمام عينيه مرة أخرى، لكن هذه المرة و هي تتهادى بإرهاق، و التعب ينبعث من كل ذرة في جسدها..
ليعود و يتساءل، تُرى ما سببه؟
و لِمَ جاءت مُتأخرة؟
أم أن هذا هو موعدها؟
فرك جبينه مرة أخرى، ليقول حاسماً قراره:
"لا كده مش هينفع، أحسن حل إني أقابلها و أكلمها تاني، علشان اعرف أيه اللي بيحصلي ده!"
**********
بعد يوم طويل قضته في العمل، و من ثم مع صديقتها في المشفى، و التي شعرت بالآم مُفاجئة، وصلت إلى شقة عمها البسيطة، ليصلها صوت زوجة عمها فور أن خطت قدماها للداخل:
"توك ماجيتي يا عينيا، كنتِ فين يا بت لغاية دلوقتي؟"
لتُجيبها بإرهاق: "كنت في الشغل يا خالتي".
لتضع زوجة عمها أصابعها على جانب جبينها، و تقول باستنكار:
"اسم الله اسم الله، و أنتِ كل يوم هترجعيلي نص الليل و تقوليلي كنت في الشغل!
لا يا عينيا أنا الكلام ده ميمشيش معايا".
أي منتصف ليل هذا، الساعة مازالت السابعة مساءً!
"و إن كنتِ يا حبيبتي شايفالك حاجة كده و لا كده، فالحلال أحسن، خليه ييجي يمكن عقدتك تنفك و نحسك يروح".
توسعت عينا أماني بصدمة، و قلبها يبكي بدلاً من الدموع دم على كلمات زوجة عمها..
اتهامها في شرفها..
و جرح أنوثتها..
و لكنها لا تملك القوة لمناقشتها، كما أنها مهما قالت لن تغيّر فكرة الأخرى عنها، لذا أجابتها باختصار قبل أن تتجه إلى غرفتها:
"واحدة صاحبتي كانت تعبانة و روحت معاها المستشفى".
و اتجهت إلى غرفتها فوراً قبل أن تسمع المزيد من الكلمات..
لتمصمص زوجة عمها شفتيها، و تقول باستهزاء:
"صحيح، أنا مخي راح فين، هي دي خلقة حد يبصلها!"
ثم نهضت مُتجهة إلى غرفة زوجها لتطمئن عليه.
**********
دخلت أماني غرفتها، لتجد أبنة عمها الصغيرة تفترش السرير بألعابها، مُصدرة أصواتاً مُزعجة..
لتتنهد بتعب و بوادر صداع تهاجمهما، فتسير نحو السرير لتستلقي عليه، ثم تطلب من الصغيرة:
"وطي صوتك يا نوجة علشان أنا تعبانة".
حدقت فيها الصغيرة بشفقة، و قالت بطاعة: "حاضر يا أبلة".
لتبتسم لها أماني بمحبة، و تغمض عينيها طالبة النوم..
لكن سُرعان ما وصلها إزعاج الصغيرة مرة أخرى بعد عدة دقائق، لتزفر أنفاسها بضيق، و مع ذلك لم تتحدث معها، فهي أولاً و أخيراً ضيفة في بيتها!
**********
صباح اليوم التالي
مرت روضة على أماني ليسيرا سوياً حتى تصل أماني إلى المصنع الذي تعمل فيه، و بعدها تتابع روضة طريقها إلى المدرسة التي تعمل فيها..
و في طريقهما، سألتها أماني بحزن: "يعني في الأخر مأجرتوهاش؟"
لتتنهد روضة بيأس مازال يتملكّها، و تُجيبها بحدة ظهرت في نبرتها رغماً عنها:
نأجر أيه بس يا أماني، دي بألف و ميتين (مائتين) جنيه، و مواصلات منها لشغلي أنا و فارس تقريباً خمسماية (خمسة مائة) كل شهر، يعني ألف و سبعماية (سبعة مائة) جنيه، و احنا الاثنين على بعض مرتبنا ألفين، يعني هيتبقى تلتماية (ثلاثة مائة) جنيه، هنعيش بيهم طول الشهر ازاي!"
لتزفر أنفاسها بقوة فور أن أنهت كلماتها..
تفهمّت أماني حدة صديقتها و غضبها، فلقد كان أملها بهذه الشقة كبيراً، و لكنها للأسف كانت كما سبقتها!
فحاولت التخفيف عنها قائلة: "متزعليش يا حبيبتي، ربنا كبير قادر ينهي معانتكما و يجمعكما".
التقت عينا روضة بعيني صديقتها، لتبثهما الكثير مما لم تفهمه الأخرى، فسألتها بارتياب:
"فيه أيه يا روضة؟"
لتُجيبها الأخرى بشرود، و نبرتها المترددة تفضح تخبّط مشاعرها: "مش عارفة يا أماني، خايفة".
لم تقاطعها أماني، بل تركت لها الفرصة للفصح عما بداخلها، لتُردف روضة بنفس نبرتها:
"خايفة ميكونش فارس من نصيبي، إنه ربنا يكون ييعمل فينا كل ده علشان يبعدنا عن بعض..
أنا بحبه.. بحبه أوي، و مش قادرة أتخيل حياتي من غيره، أو إني أكون لرجل تاني".
لم تفكر أماني كثيراً قبل أن تلقي كلماتها -المُقتنعة تمام الاقتناع بها-: "و ليه متقوليش إنه ربنا بيعمل كده علشان يختبر صبركما، أو إنه بيأخر زواجكما علشان يشيل عنكما مكروه..
ليه دايماً بتفكري في الوحش؟"
لتصمت قليلاً، قبل أن تتابع بحذر: "و بصي يا روضة، هقولك حاجة تحطيها حلقة في ودنك..
ربنا مبيعملش غير الخير لينا، يعني حتى لو بعد السنين دي كلها فارس مبقاش من نصيبك ثقي إنه ده خير و رحمة من ربنا..
سبحانه و تعالى قال (بسم الله الرحمن الرحيم
وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
صدق الله العظيم).
لتقول روضة: "و نعم بالله..
بس برضة".
ليُقاطع حديثهما ذاك الذي ظهر أمامهما، قائلاً بابتسامة جذابة:
"صباح الخير".
فتنظر له إحداهما بصدمة، و الأخرى بحيرة!
**********
منذ أن أشرقت الشمس مُبددة ظلام المدينة و هو يقف على مدخل الحارة التي تقطن فيها، مُنتظراً ظهورها بنفاذ صبر..
فما يشعر به ليس عادياً، لأول مرة تُسيطر فتاة على تفكيره بتلك الطريقة، لأول مرة يشعر بنبضات فؤاده مُضطربة!
هذه الفتاة تؤثر فيه بطريقة ما، و عليه أن يعلم أبعاد هذا التأثر، حتي يستطيع التصرّف!
رآها أخيراً، تخرج من الحارة مُتهادية في سيرها، تتحدث مع أخرى و الشفقة مُرتسمة على ملامحها..
و دون لحظة تردد، ترجّل من سيارته مُتجهاً إليها.
"صباح الخير".
ألقى التحيّة بابتسامته التي تميّزه و تزيده وسامة، و لكنه لم يتلقّى سوى الصمت!
رمق الفتاتين بارتياب، فبينما كانت إحداهما تنظر إليه بدهشة و عدم تصديق، و القلوب تلتمع في عينيها..
كانت الأخرى -و التي لا يهتم لسواها- تنظر إليه بحيرة، ما لبثت أن تحولت إلى عدم اهتمام، مما أثار ضيقه!
"أنتِ مش فاكراني و لا أيه؟"
ألقى سؤاله ببساطة، تُخالف نبضات قلبه العالية، و أمله في أن تنفي ذلك، و تخبره بأعلى صوتها أنها تتذكره و تفكر فيه كما يفكر فيها!
إلا أنها كانت على عكس ذلك!
فعندما وقف أمامها هي و صديقتها، ظنت أنه شخصاً ضائع يبحث عن مهتداه، فلم تُبالي به، و تركت أمر الرد عليه لصديقتها..
و لكن سؤاله فاجئها، و حفزّ قرون الاستشعار بداخلها، مُحاولة تذكر أين رأته من قبل، و لكنها لم تفلح في ذلك!
و ظهر هذا جليّاً على ملامحها، فتسّرب الإحباط إليه..
فكيف لها ألا تعرفه حتى و هو الذي لم ينفكّ عن التفكير فيها منذ أن رآها أول مرة؟
عيناها الحزينتان لم تُفارقان عقله، و ملامحها الرقيقة تلعب بخفقاته.
"ده آدم جاسم".
همست روضة لها، و هي تلكزها في جنبها..
و مع ذلك استغرقت عدة ثواني للتعرّف عليه، ففي المرة السابقة لم تتمعن في مظهره أو تركز في نبرة صوته..
ليقول هو بسخرية، استخدمها لتخفي إحباطه:
"قولتلك قبل كده إني آدم جاسم، و مش مشكلتي بقى إنك مش مثقفة و متعرفنيش".
لتستفزها كلمته بقوة (مش مثقفة) و كأن الثقافة مُرتبطة بكرة القدم!
تلك الرياضة عديمة الفائدة كما ترى، فهي ليست سوى دعوة للتعصّب و وسيلة لجلب الأمراض إلى الناس، فتستعجب ممن يتعلقون بها!
أليس لديهم عقلاً؟!
"و أعرفك ليه، تكونش الوزير و لا رئيس الجمهورية حضرتك؟"
و تحركت فور أن أنهت كلماتها من أمامه..
ليمسك ذراعها بتهور مانعاً إياها من الابتعاد، فتلتفت ناظرة إليه بشزر، مُحاولة تحرير ذراعها دون جدوى.
"سيبني".
انتبه إلى حركته، فأبعد يده عنها بتردد، خشية أن تتركه و تذهب!
و بالفعل تحركت هي من أمامه مرة أخرى فور أن حرر ذراعها..
ليعمل عقله سريعاً، و يتحرك ليقف أمامها، قاطعاً عليها الطريق..
تحركت خطوة لليمين، ليتخذ مثيلتها، و أخرى لليسار ليخطو مثلها، مانعاً إياها من التقدم.
لتقول بحنق: "و بعدين بقى، أنت عايز أيه يا جدع أنت".
ليقول بتهور من الواضح أنه يُلازمه هذا النهار: "عايزك".
لترتسم الصدمة على ملامحها، فيتدارك كلماته:
"أقصد لو ممكن نقعد شوية و نتكلم؟"
هي ليست غبية، و تدرك جيداً ما يرمي إليه!
فإما أنه يشعر بالملل و يريد التسلي مع واحدة، و بالتأكيد لا يوجد أفضل من فتاة فقيرة لا حول لها و لا قوة..
و إما أن غرضه شريف، و في هذه الحالة ستكون نهايته على يدها!
فمَن يقترب منها لابد و أن يُصاب بأذى!
لذا في كلا الحالتين عليها أن تبتعد و تتركه، ألا تمتثل لرغبته في الجلوس معها.
"آسفة بس أنا مش فاضية".
لتلتفت إلى صديقتها المُتجمدة في مكانها، تنظر إلى آدم ببلاهة مُضحكة.
"يلا يا روضة، أنتِ واقفة مكانك ليه؟"
لكن الفتاة لم ترد عليها، و لم تتحرك من مكانها حتى، غير مصدقة حتى الآن أنها واقفة أمام آدم جاسم، ذلك الحريف المُعجبة هي بلعبه، و لطالما تغزّلت في وسامته..
"اتحركي يا روضة".
انتفضت على صيحة صديقتها، لتنظر إليها بشزر، فالغبية تُضيّع على نفسها فرصة لا تعوّض!
اقتربت منها، لتهمس في أذنها بصوت وصل إلى آدم القريب منهما:
"ماتروحي و تشوفي عايز أيه".
لتحدجها أماني بنظرة جعلتها تبتلع لسانها، و تأومأ لها بالطاعة..
في حين قال آدم رافعاً حاجبيه: "ماتسمعي كلام صاحبتك، هو أنا هخطفك يعني!"
رفعت له نظراتها المليئة بالقوة و الإصرار، لتقول من بين أسنانها، مُشددة على كلماتها:
"نقعد بصفتنا أيه؟، أخويا.. قريبي.. خطيبي؟"
و مَن يعلم، ربما يكون يوماً أقرب لها من أنفاسها!
ألقى كلمات مُبهمة، تخفي الكثير بين طياتها:
"ماهو بعد قعدتنا هيتحدد كل حاجة".
و بذكائها فهمت ما يرمي إليه، و ترفضه هي رفضاً قاطعاً،
ًفقالت بتصميم:
"يُستحسن تشوفلك حد تاني تقعد معاه، أنا مبقعدش مع حد".
و أمسكت بكف روضة ساحبة إياها فور أن أنهت كلماتها، ليبتعدا سريعاً عنه، دون أن تعطيه فرصة أخرى للحديث أو التعبير.
"و بعدين في المجنونة دي بقى!"
صعد إلى سيارته، ليجد رنين هاتفه يتعالى، فيطرق على جبينه بعصبية، قائلاً بتذكر:
"يووه ده أنا اتأخرت على التمرين، أقول فيكِ أيه بس يا بت الحارة، بس ماشي يا أنا يا أنتِ، و مش هسيبك في حالك برضه".
تملّكه الإصرار و القوة على مواجهتها، فتحرك بسيارته مُسرعاً إلى النادي، واعداً أبنة الحارة بداخله على العودة في أقربح وقت.
**********
ظهور آدم جاسم في حياة صديقتها و محاولته للاقتراب منها أنساها الحزن و اليأس اللذان كانا يسيطران عليها، و جعلها تؤنب أماني بقوة: "ما هي حاجة من الأتنين، يا أما أنتِ هبلة؛ يا أما هبلة، مفيش ثالث..
بقى حد يرفض آدم جاسم يا بنتي!"
و على الرغم من اضطراب دقات قلبها بسبب ماحدث منذ قليل، إلا أنها تمالكت نفسها، و قهقهت بقوة على كلمات صديقتها، لتقول بمرح مصطنع:
"طب ما يمكن أكون هبلة".
ليشتعل الغضب في صدر روضة بسبب لا مبالاة صديقتها، و تضييعها لفرصة من أفضل الفرص من وجهة نظرها..
فقالت بحدة: "أنا مبهزرش دلوقتي، ممكن أعرف مرضتيش تقعدي معاه و تسمعيه ليه؟"
لتسمح أماني لحزنها المُسيطر على قلبها بالظهور على ملامحها، بينما تقول بحسرة:
"و هينوبني (سيحدث لي) أيه من القعاد معاه و هو إما عايز يتسلى و قرر يجرب نوع جديد؛ إما غرضه شريف و إنتِ عارفة إن ده مستحيل".
لتواجهها روضة بحدة: "و مستحيل ليه، و أنتِ ما شاء الله عليكِ جمال و أخلاق، و متعلمة و ست بيت شاطرة".
لتعترف أماني بما يؤلمها، يحطم حياتها و يجعلها تبتعد عن كل مَن تحبه، فقط لتطمئن أنه سيكون بخير!
"لأني نحس، عارفة يعني أيه نحس يا ست روضة و لا مش عارفة؟
أي حد بيفكر بس مجرد تفكير إنه يقرّب مني بينأذي، فالأحسن إني أفضل بعيدة عن الكل".
لتتأفف روضة بضيق، فصديقتها مقتنعة تمام الاقتناع أنها نذير شؤم، أو وجه نحس كما يُطلقوا سيدات الحارة عليها، و مهما فعلت لتقنعها بعكس ذلك تفشل، فعقلها كالحجر في صلابته!
"تاني، نحس تاني؟، احنا مش هنخلص من السيرة دي بقى!"
لتقول أماني بلا مبالاة ظاهرية: "ونخلص ليه طالما دي الحقيقة!"
لتسيطر روضة على أعصابها بقوة حتى لا تتهور في الحديث، فعلى الرغم مما تظهره أماني من لا مبالاة من وضعها و حديث الناس عنها، إلا أنها مُتيقنة أن صديقتها بداخلها تتأثر كثيراً بهذا.
"طب لما أنتِ نحس و كل اللي بيقرب منك بينأذي زي ما بتقولي، أنا ليه محصليش حاجة لغاية دلوقتي، و ماشية معاكِ اهوه زي القرد؟"
لتبتسم أماني بمرح لا تمتلكه في هذه اللحظة، و تقول: "الله، مش أنتِ طول عمرك بتقولي إنك عندي مناعة ضدي، و لا هي المناعة ضعفت خلاص".
و كأنها قدّمت لها هذه الكلمات على طبق من ذهب!
حيثّ حاصرتها روضة بقولها: "طب ما يمكن هو كمان يبقى عنده مناعة ضدك!"
هل يُعقل؟
هزت رأسها بعنف طاردة هذه الفكرة عن عقلها..
لتقول باقتناع: "لاء، هيتأذي زي اللي قبله".
لتعترض روضة بإصرار: "و احنا أيه اللي يعرفنا!
ده كله في علم الغيب".
حديث صديقتها مقنع تماماً، مقنع لدرجة أنه بدأ يجعل الأمل يتسلل إليها، الأمل في أن تكون حبيبة.. زوجة.. أم..
و لكن لا هذا مستحيل!
عاد عقلها للعمل، فقالت: "خلاص يا روضة بليز بلاش نتكلم في الموضوع ده".
لتصمت روضة مرغمة لرغبة صديقتها، و لكنها بداخلها تقسم أنها لن تصمت كثيراً، فلابد أن تتخلص صديقتها من تلك الهواجس.
**********
مساءً
في منزل عم أماني
تقف أمام المرآة ترمق نفسها ب.. إعجاب!
شعرها الأسود الكثيف يغطي نصف ظهرها، و عيناها السوداوتين بلمعتهما الحزينة إثر كل ما مرت به، غشتهما نظرة أخرى، نظرة أمل!
ارتجفت شفتيها المكتنزتين باعتراض، قبل أن تقتل أملها بكلماتها:
"إياكِ كلام روضة يأثر فيكِ، أوعي تتأملي في حاجة مستحيل تحصل، آدم جاسم ده لو عرف ماضيكِ عامل ازاي هيهرب و مش هتشوفي وشه تاني..
فمتعشميش نفسك (تتأملي) لاحسن تقعي على جدور رقبتكِ!"
نظرت إلى نفسها بالمرآة بقوة تبثها إلى داخلها، قوة لولاها لكانت انهارت منذ زمن، ليعود الجليد و يحيط بقلبها، فتذهب للنوم مطمئنة!
**********
صباح اليوم التالي
يقف في نفس المكان الذي وقف فيه اليوم الماضي.. ينتظرها، متناسياً كل الحديث الذي ألقته عليه أمس و رفضها له..
الغبية، لا تدرك أن رفضها ذاك لم يزده إلا إصراراً!
وجدها هذه المرة تخرج من الحارة لحالها، فأسرع ليقف في طريقها.
"صباح الخير".
تأففت بقوة حالما رأته، ألا يمل هذا الرجل؟!
تحركت متجاهلة إياه، ليقطع طريقها مرة أخرى.
"طيب حتى ردي الصباح".
تجاهلته للمرة الثانية، فعليها الاعتراف أنها تخشى التأثر به!
و لكن آدم لم ييأس، حيثُ قال: "طب حتى قوليلي أسمك أيه بس".
"و أنت هتعمل أيه بأسمي يعني؟"، سألته بنرفزة.
ليُجيبها ببرود مصطنع، و بداخله سعادة لأنها تبادله الحديث:
"عادي، مجرد فضول".
لترمقه بازدراء، قبل أن تتحرك مبتعدة عنه، متجاهلة إباه للمرة الثالثة..
و للمرة الثالثة أيضاً يقطع عليها الطريق، فسارعت بالقول: "اشتري نفسك و أبعد عن طريقي يا جدع أنت، لاحسن قسماً بالله لاخليك تندم".
ليضحك باستخفاف، قبل أن يقول: "اندم!
ليه هتعمليلي أيه؟
هتضربيني مثلاً!"
فتُجيبه بهدوء يُثير الريبة، لا يفصح عن نواياها: "لا طبعاً".
فيقول آدم بقوة: "عموماً يعني أنا مبخافش، فاعملي اللي أنتِ عايزاه عادي".
لتبتسم أماني بشيطانية، و تقول: "طيييييب".
ثم تفعل ما سبجعله يبتعد عن طريقها، و لن يقترب منها مرة أخرى!
انتهى الفصل، قراءة سعيدة

و كان القدر (كاملة)Where stories live. Discover now