{4}

554 76 32
                                    

•••

السويد.
العاصمة ستوكهولم.

كلنا نشعر بالحزن، هذا أمر ثابت ولكن طرقنا لممارسة الحزن مختلفة، هنالك من يتلقى خبر موت قريب له بالبكاء الهيستري وهنالك من تراه يضحك ويمزح بعدها كما لو أنه لم يحدث شيء، أحيانًا يذهب حتى للسينما ويمارس حياته بطريقة طبيعية دون وقتٍ مستقطعٍ للحزن...بل لا يبدو عليه التأثر إطلاقًا... الواقع، في الغالب إن هذا الشخص ينهار وخوفًا من أن يذوب دماغه تحت وطئة هذه الأحزان فهو يقوم بحماية نفسه بإنكارها. برفضها تمامًا ونبذ تلك الحقيقة كما لو أنها لم تحدث.

كان هذا هو الحال بالنسبة للسيد ريتشارد مورالس.

فُتح باب الغرفة ليلتفت ناحيته...

" سيد ريتشارد من هذا الذي هرَّب لك حاسوبك المحمول؟ ألم نخبرك بأن عليك أن لا تجهد نفسك؟"

قالت الممرضة اليافعة ذات الشعر الأشقر القصير وهي تضع بجواره صينية طعام وتبدلها بأخرى فارغة.

- أنتم تنون قتلي بالملل، قلبي هو المريض وليس دماغي.

لم تملك إلا أن تبتسم وهي تقول:
" سيد ريتشارد قلبك ودماغك متصلان ببعضهما البعض رجاءً أعطهما قسطًا من الراحة."
تنهد بقلة حيلة ليجيب:
- ليتني أستطيع ذلك ولكن لدي ابنان لا يعتمد عليهما. أحدهما أصر على البقاء في أمريكا لإدارة شركته الخاصة والآخر يدعي أنه يدرس الطب الجنائي وهو لا يفعل شيئًا سوى التحدث مع الجثث. إلهي ليتني أنجبت فتاةً.

تدرجت حينها ملامح الممرضة من المرح إلى القلق، فوقفت تطالعه دون أن تدري ماذا تقول. منذ فترة وهي تشعر بأن هنالك خطب ما في تصرفات السيد ريتشارد والآن فهمت. يبدو أنه منذ أستيقظ من الغيبوبة وهو في حالة إنكار تامة لكل ما حدث قبلها.
تنهدت لتتصنع البهجة وهي تقول:
" على الأقل لكي لا أصادر هذا الحاسب عليك أن تأكل جيدًا. خصوصًا التفاح فأنت تهمل تناول الفواكه."

حينما كشر ناحيتها بتذمر وضعت يديها فوق خصرها لتردف بتهديد:
" أتود أن أبلغ السيدة موراليس بهذا؟ "

انحنى السيد ريتشارد وتناول التفاحة من الصينية ليأخذ قضمة مع ابتسامة صغيرة كإجابة لسؤالها. قهقت وهي تستدير لتغادر وقد حرصت أن يسمعها وهي تضيف:

" من الجيد أنك لم تنجب أي فتيات وإلا لاضطررت لتناول تفاحتين بدلًا عن واحدة."

دور عينيه ثم عاد للإندماج مع شاشة حاسبه، عكست الشاشة السوداء صورته فوقها، شعر داكن تخللته خطوط من الشيب الرمادي، لحية عمرها أيام، عينان خضراوين كالعقيق غرقتا في أخاديد سوداء...كان زابلًا كشجرة لم تسقى منذ الأزل. لم يفهم لماذا لكن تلك الغصة في قلبه لم تتزحزح...فمنذ أستيقظ من الغيبوبة وهو يشعر بأن هنالك سكين مغروزة في منتصف قلبه تمامًا وأن هنالك أحد يقوم بتحريكها كل تارةٍ وأخرى.
بدا له أنه كلما حاول فهم مصدر ألمه المجهول هذا حتى انتهى بحائط مسدود، حائطٍ كلما رفع رأسه ليبصر نهايته ظل إرتفاعه يزداد...
أغلق شاشة الحاسب وأخذ نفسًا عميقًا.

Two Graves. Too Late For Hope.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن