الفصل التاسع عشر ( الجزء الثاني )

97 5 0
                                    

امسكت بكوبها الساخن وجلست بهدوئها المعتاد ، تتلذذ بتذوق سحاباته الدافئة ، بينما تنظر بشرود أمامها للسماء اللامعة بسُحب الشتاء الجميل ، ارتشفت عدة رشفات من الكوب ثم وضعته وهي تتأمل بعمق تحرك النجمات الصغيرة البعيدة ، تكّون بها أشكالاً وهمية ، كما كانت تفعل وهي صغيرة ، آه  ... كما كانت تفعل دوماً ، رحلة طويلة وقاسية ، بسفينة مهترئة وطاقم ممزق ، تُبحر بالمحيط الواسع ، تُجدف بلا هدف ، وتتحرك بلا اتجاه ، ليس هناك ما يصلُح للإبحار سوي قبطانها الشجاع الصبور ، ربما لم تحظِ السفينة بأشرعة قوية وركاب أشداء ، لكنه كان من العدل أن كان قائدها ، قوي ، ثابت كالجبال ، وعنيد كالصخر البحري المتحجر ، اخذت نفساً عميقاً ، تخلل بأوصالها مرسلاً رجفة هدوء دوماً تحتاجها ، امسكت بالكوب مرة أخري وهي تبحث بذاكرتها عن أية ذكري تُجيد تذكرها الآن حتي تبكي ليس إلا ..

لكن القدر كان أسرع منها ، فقد شهقت بأنفاس عالية وهي تسمع رنين هاتفها بجوارها ، كأنه قاطعها من أحد خلوات صلواتها الخاشعة ..

امسكت بالهاتف وهي تنظر بغضب لشاشته المضيئة باسمه ، ابتسمت قليلاً حتي تنتظم انفاسها ، ورفعت الهاتف واجابت " ماذا هناك  ؟ "

اتسعت ابتسامتها قليلاً وهي تستشعر نبرات صوته الغاضبة ، ابعدت الهاتف قليلاً عنها ثم اعادته وهي تجيب بلا مبالاة تتعمدها " اخفض صوتك وأنت تحادثني ... ثم ألم أخبرك ألا تعاود الاتصال بيّ ... أم أن عقلك الفارغ لا يستوعب كلماتي "

ابعدت الهاتف مرة أخري وهي تبتسم بشر غريب ، واجابت " قلت لك اخفض صوتك  ... وارجو ألا تعاود الاتصال بيّ مرة أخري "

ثم اغلقت الهاتف بسرعة قبل أن يصل لسمعها صوته الغاضب بجنون ، امسكت بالكوب مجدداً لكنها ابتسمت عندما سمعت صوت إعلان قدوم رسالة نصية منه ، رفعت الهاتف قليلاً وفتحت الرسالة وقرأت بصوت ضاحك " لقد تماديتِ كثيراً ... ماذا فعلت لكل هذا ... سأجن وأفقد عقلي بسببك ... هذه المرة المائة ربما التي أحاول فيها الاتصال بكِ اليوم ... اقسم أن أريكِ يا جيهان ... حسناً توقعي قدومي بأية لحظة  "

اغلقت الشاشة الكبيرة ، ووضعت الهاتف وهي تهز رأسها بضحك وتهمس بخفوت " ستنير أم الدنيا يا سيد محمد ..."

ثم ارتشفت باقي الكوب الساخن وهي تعود مرة أخري إلي عالمها المليء بالذكريات المؤلمة ، مارة بطريقها علي ندبات الزمن المحفورة بحنايا روحها بعمق وعنف مؤلمين ...

***

أتعلم ذاك المذاق بعد الفقدان ، أن تمر بعقلك فكرة اللاوجود ، أن تشعر بشيء يشبه تهشم الزجاج لكنه بالروح ، أن تجلس في غرفة نائية وعالية حد السماء ، ألا تجد حتي جدران الوهم لتشكو لها ، شعور أن تقترب لتحقيق حلم جميل يخالج فؤادك منذ زمن بعيد ، بينك وبينه خطوة واحدة ، فقط بضع السنتيميترات القليلة ، فقط سترفع يدك قليلاً لتلمسه وفجأة يتلاشى كالسراب ، يبتعد كأبخرة الدراجات ، سخونة مؤلمة تسري بجسدك ، وسط غيمات ديسمبر الممطرة ، ولا حتي الصراخ سيعيده ، ولا النحيب لباقي العمر ، لا التضحيات لا الممكن ولا المستحيل ، لا الهيّن ولا الصلب ، لا دواء ولا علل ، لا بداية ولا نهاية ، تمر عقارب الساعة كالجري في ممرات الموت ، الموت ... كلمة مُخيفة للحد الذي يجعلك تفقد صوابك ، وتفقد معه كل ما يُريح ، تُصبح الأسباب واهية وكاذبة ، كل ما قد يخفف ، لم يعد

رواية قشر البندق كاملة الجزئين _ إسراء رضا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن