الثاني والعشرين

1.6K 174 2
                                    

ـ بص بقى بلا آلة زمن بلا بتتجان، فكك مني يا نوح.
هكذا صاحت أسيل في وجه نوح بعدما عادوا من عِند تلك السيدة؛ فهي طوال الطريق كانت تفكر في حديث السيدة، ولكن كفى مغامرات، يكفي ما حدث في الفترة الماضية بسبب التهور.
وقبل أن صعد أسيل لشقتها ودعتها كريمة لكي تستريح قليلًا، كان نوح ترجل خلفها للشقة، ترك الباب مفتوح ورهل خلفها وهو يصيح عليها قائلًا:
ـ يعني هي جت على دي يا أسيل؟ وبعدين ما كل المصايب التانية أنا اللي كنت هروح فيها، خايفة من إيه بقى؟
ضحكت بسخرية، أستدارت له ثم هتفت ساخرة:
ـ ده على أساس أني كنت بسيبك في مصيبتك يعني؟ مكنتش بفضل أكل في نفسي وألف حوالين نفسي عشان اخرجك من اللي دخلتك فيه، أروح اوديك صحرا تاني عشان المرة دي حد فينا يموت خالص ونخلص!
ـ وإيه بس اللي هيموتنا؟
هكذا سأل ببساطة، بينما الأخرى كانت على وشك أن تنقض عليه بسبب الغيظ! عقدت جبينها متذمرة ثم صاحت:
ـ يمكن عشان أم الحجر ده في جبل في قلب الصحرا! يعني ممكن يطلع علينا وحش ياكلنا ونخلص.
ـ اسمعي بس، أكيد الصحرا دي أمان يعني، وأحنا هنعمل حسابنا، متخفيش والله.
هكذا كان يحاول يقنعها! بينما هي ففُتحت فاها غير قادرة على الرد عليه من الأساس! كل ما فعلته أنها رفعت يدها وهي تقبض عليها بشده لعلها تسيطر على حالها؛ لكنها فشلت! دفعته في إتجاه الباب وهي تهتف بغيظ:
ـ صح متأمنة، هيكونوا سامين التعابين والتعالب اللي فيها صح، أتكل على الله يا نوح الله ما يذيئك!
كان وصل للباب بسبب دفعها له، أستدار لها وهو يحاول أن يترجاها من جديد:
ـ يا أسيل هي المرة دي وبس يا أسيل، أخر مرة يا ست أنتِ!
صرخ بأخر كلمة، لكنها كانت غلقت الباب في وجهه! نظر للباب بيأس ثم ترجل نحو الدرج وصعد لغرفته.
بينما هي فكانت شاردة؛ فهم على بعد خطوة واحدة فقط، ولكن مهلًا، هل هي حقًا ترفض أن تذهب لتلك الصحرا لأنها منطقة خطرة بالفعل؟ أم لأنها لا تريد أن نوح يعود لعالمه ويتركها؟
الأمر يسيطر على رأسها، هي تعلم جيدًا إنها على أتم الأستعداد للدخول في أي مغامرة جديدة، ولكنها غير مستعدة لكي تخسر نوح! ولكن ما ذنب نوح في مشاعرها؟ هي التي حبته، ولكن هو؟ لا تعلم! من الممكن أن يكون يحب أحد في عالمه من الأساس! بالتأكيد لم يفكر فيها بأي شكل، هي تساعده فقط، هكذا بدأت أن تفكر، وحقًا كان تفكير منطقي، وأستقر بها الأمر أنها تأخذ هاتفها وتبدأ في عملية البحث عن تلك الصحرا؛ فهو ليس له ذنب إنها حبته، وواجبها نحوه أن تساعده للنهاية؛ حتى لو كانت ضريبة تلك المساعدة هي وجع قلبها!
                        *******************
ـ يا ليلى هتروحي فين؟ بقولك جاين بليل.
كانت ليلى في غرفتها تصفف شعرها لكي تخرج، سمعت من رهف تلك الكلمات، نظرت لها وهي تلتقط حقيبتها ثم هتفت:
ـ يا بنتي مش هتأخر، هي ساعة وهجيلك.
نهت كلماتها وهي تطبع قبلة على جبينها وتخرج من الغرفة ثم تركت المنزل بأكمله قبل أن تراها والداتها وتعطلها عن معاد مقابلتها.
أتصل بها سفيان وطلب أن تأتي لكي يتناولون سويًا الغداء، لم تصدق حالها، قلبها كان يحلق في السماء، نست غضبها منه، ونست كل شيء سيء كانت تحاول أن تخزنه له داخل قلبها!
فقط قالت لحالها إنه يريدها، وهي ستكون سعيدة بمقابلته؛ إذن لمَ لا؟
أرتدت تشيرت من اللون الأصفر وسروال جينز واسع وكوتشي أبيض وحقيبة يد صغيرة بيضاء، وكانت ترفع شعرها للأعلى، حقًا كانت جميلة مثل الزهرا في فصل الربيع.
خمسة عشر دقائق وكانت داخل المقهى، عندما رأها رفع لها يده لكي تراه، ابتسمت له وترجلت نحوه، بعد السلامات والتحيّة كانت تسأله دون مقدمات:
ـ هو في حاجة يا سفيان؟ حصل حاجة يعني؟
حُرج من سؤالها، تنحنح وهو يحك في ذقنه ثم أردف:
ـ لا عادي، أصل أنتِ خدتي أجازة من ساعة من جينا من مشوار نوح ده، ومش بشوفك، يعني بصراحة بحس أني مفتقدك وكده؛ فقولت نتقابل انهاردة ونتغدا سوا.
كانت يتحدث بصدق؛ فهي منذ أنتهاءها من أمر نوح وهي قررت أن تبعد قليلًا عن أعيون سفيان، وبالفعل أخذت أجازة لمدة أسبوعين من حبيب وأصبحت تجلس في منزلها، لا تعلم هذا التصرف كان صواب أم ليس له اهمية من الأساس!
ولكن انظروا! فبعدها عنه جعله يفتقدها، وأيضًا هو الذي بادر في البحث عنها والأقتراب منها!
نظرت له وهي تشعر أن صوت دقات قلبها ظاهرة للجميع، تمالكت حالها، فقط ابتسمت له برفق وقالت:
ـ طب كويس طلعت فارقة في الشركة أهو، وحد حس بغيابي.
ـ هو الحقيقة مكنتش أعرف أني هفتقدك كده، حقيقي حاسس أن يومي ناقص بيكِ.
هُنا وتذكرت أمر هام، تذكرت حديثه عن أسيل؛ ولكن مهلًا؛ فأسيل عادت العمل منذ أيام هي ونوح، معنى ذلك أن تلك الفتاة التي كان يحبها أو حتى معجب بها كانت أمام عينه، إذن لماذا كان يفتقدها هي بالخصوص؟
وفي ثوانٍ كانت تخرّج صوت تفكيرها على هيئة كلمات وهي تهتف وتقول:
ـ مع أن أسيل رجعت الشغل وكده، المفروض يبني متحسش بالأفتقاد ده!
ثم ضحكت! قالت جملتها بسخرية مؤلمة، كان يعلم جيدًا إنها محقه، فحقًا إذا كان يحب أسيل كما كان يظن؛ فإذن لماذا يفتقد ليلى؟ والسؤال الأهم؛ لماذا لم يفتقد أسيل عندما كانت غائبة عنه؟ هل لأن وجود ليلى كان يُغنيّه عنها؟ أم هو الذي حلل مشاعره إتجاه أسيل في الأساس بطريقة خاطئة؟
على أي حال؛ فهو وقف ضجيج رأسه عندما أردف قائلًا:
ـ بصي عايز أقولك حاجة، اللي قولتي ده هو اللي أنا كنت بفكر فيه من ساعة ما رنيت عليكِ وقولتلك عايز أقابلك، مكنتش لاقي تبرير ليا وكده غير أني فعلًا عايز أشوفك، يمكن لما أسيل كانت وخده أجازة مكنتش بتيجي على بالي زي ما حصل معاكِ! وده خلاني أفكر أني أتسرعت لما حكيتلك عن مشاعري إتجاه أسيل، أكتشفت أني ولا بحبها ولا حاجة، يمكن كنت معجب بيها عشان هي كانت قدامي طول الوقت، يعني بنت جميلة وذكية ومؤدبة دمها خفيف، ليه لا؟ لكن مكنتش مشاعر بجد يا ليلى، يمكن عشان كده كلمتك وقولتلك متقوللهاش أي حاجة من اللي قولتهولك، عشان عرفت أني مش واثق في كلامي أصلًا!
شعرت أنها حرجته! نظرت لبعيد ثم قالت:
ـ أنا مش قصدي حاجة، ما علينا يعني المهم متتسعرش تاني في التصريح عن مشاعرك كده، مش بالساهل هو!
هكذا هتفت ببساطة، لم تنتبه لحديثها، وضعت يدها على فمها سريعًا وهي تنظر له ببراءة، هل حرجته للمرة التي لا تعلم عددها في هذه المقابلة؟ ضحك عليها ثم قال:
ـ ماشي يا ستي، تاكلي إيه بقى؟
مسكت بطاقة الطعام وقالت وهي تنظر لها:
ـ أي حاجة، عايزين بس ناكل بسرعة عشان رهف جايلها عريس وقلبالنا البيت، أول مرة توافق تقابل حد!
ضؤّق عيناه ثم سأل:
ـ أزاي ده؟
ـ ده موضوع طويل.
ابتسم لها برفق وهتف:
ـ أحكيلي عادي مستعد اسمعك.
وهكذا جذبوا أطراف الحديث سويًا.
                        ******************
ولكن في مكانٍ مختلف، كان زين يجلس مع ليان ويامن؛ فهو أعتاد في الفترة الأخيرة أن يزورهم بستمرار، حقًا فهو حب شعور الدفيء وجو الأسرة وسطهم، ويتمنى أن يُعجِل في زيجته لكي يتسرب بداخله ذلك الشعور، ولكنه وقتها سيكون الشعور مضاعف بالتأكيد!
كانوا جميعهم يجلسون في ردهة المنزل، أمامهم أكواب من العصير الفارغة، ويشاهدون فلمًا عِرض حديثًا على أحدى المنصات.
كان يامن يجلس على الأريكة ويحاوط ليان من كتفيها، وزين يجلس على الكرسي بجوارهم كل تارة وأخرى يشاكسهم ثم يعودوا بنظرهم للتلفاز مرة أخرى.
وأثناء هذه الجلسة العائلية الدافئة أستدار لهم زين وهتف قائلًا:
ًـ هو أنا قولتلكم أني أجلت الفرح مع بحر؟
عقد يامن جبينه بتعجب ثم هتف متسائلًا:
ـ ليه يا حمار؟
ابتسم له نصف ابتسامة وأردف:
ـ عندي أمل نوح يجي يحضر الفرح، كفاية إنه محضرش فرح أخته يا يامن.
ومع ذكر نوح زحفت الدموع على خديّ ليان سريعًا دون أن تشعر، نظرت لهم سريعًا ثم هتفت بصوت مبحوح:
ـ هو هيجي يا زين، أكيد نوح هيرجع صح؟
ـ أيوا بإذن الله، نسيتي إن أخر مرة قالنا خلاص فاضل خطوة وحدة، وأنا متفائل بجد.
هكذا هتف زين بأمل ظاهر في نبرة صوته، ضمها يامن لأحضانه وقال:
ـ بطلي عياط، تيجي نجرب نتصل بيه؟
أعتدلت في جلستها سريعًا وهتفت:
ـ أيوا يلا.
وبالفعل ألتقط الساعة من على المنتضدة أمامه وأجرى لنوح مكالمة هاتفية من خلال الساعة.
دقائق وجاءه الرد، هتفوا سريعًا في نفسٍ واحد باسم نوح، ابتسم لهم بثقل وهو يلوح لهم ثم هتف:
ـ عاملين إيه؟
هتفت ليان سريعًا وهي تمسح دموعها:
ـ إيه يا حبيبي مالك؟ متضايق ليه؟
نظر لهم ثم أشاح بوجهه بعيدًا وهو يهتف بتعب:
ـ زهقت يا ليان، زهقت، كل شوية بتتعقد.
ـ حصل إيه بس؟
ـ فاهمنا يا نوح، يمكن نعرف نساعدك.
هكذا هتفت ليان ويليها زين.
كوب رأسه بين يداه ثم أردف:
ًـ الحجر اللي هيشغل الآلة في جبل في قلب الصحرا، وأسيل مش راضية، خايفة أننا نروح!
ـ خايفة ليه؟
هكذا سأل يامن.
تنهد نوح وقال:
ـ عشان المنطقة خطر يا يامن، هيكون ليه.
نظرت له ليان ثم هتفت:
ـ حاول معاها يا نوح، أو... أو هاتها وأنا أترجاها.
أومأ لها ثم هتف قائلًا:
ـ أنا هحاول معاها تاني يا ليان، هقفل دلوقت محتاج أنام شوية.
ختم كلماته وهو يلوح لهم ثم غلق المكالمة.
أعتصر قلب ليان ألمًا على أخيها، أخذها يامن في أحضانه وهو يهمس لها قائلًا:
ـ يا ليان هتوافق، متخفيش كل الصعب عدى!
ـ وبعدين بقى ما كفاية نكد! أي رأيكم نتغدا كلنا برا ويكون معانا بحر وتمارا؟
أعتدلت يامن في جلسته وأيّده قائلًا:
ـ فكرة حلوة، خلاص بكرا لينا طالعه، ونتصل بنوح ونشوفه عمل إيه، ولو الموضوع فضل معقد نضغط أحنا عليه لحد ما يخلينا نكلم أسيل.
خرجت ليان من أحضانه، مسحت وجهها بكف يدها مثل الأطفال وهتفت برضا عض الشيء بسبب كلماته قائلةً:
ـ هتوافق صح يا يامن؟
ـ بإذن الله يا حببتي، بإذن الله، اللي خلاها تروح معاه مكان خطر تبع الجيش وتروح العباسية وتعرض نفسها للخطر يخليها توافق على أخر خطوة، ولا إيه؟
هكذا قال، وهكذا أقتنعت، أومأت له بإنه محق ثم ألتقطت جهاز تحكم التلفاز وغيّر القناة لقناة أخرى عليها مسرحية من التراث القديم، ولم تكن غير مسريحة مدرسة المشاغبين، تلك المسرحية التي مهما مر عليها الزمن بقت كما هي في قلوب الجميع.

رحلة عبر الزمنWo Geschichten leben. Entdecke jetzt