المقدمة

161 18 1
                                    


اللّيل حَل وَالضجيجُ قَل، وَباتَ جَميعُ الخَلقِ يحتسي النَوم ليَرتاحَ من شقاءِ أربع وَعشرينَ ساعَة، لَكن، ليسَ الجَميعُ حَرفيِا كَذلكَ، فهنَاكَ مَن صاحبه الأرق وَجالسَه السَّهرُ، إثرَ لَوعَةٍ وَأشَواقٍ أوَ أحزان أَو تفكير مفرَطٍ أَو ألَم أو أيًَّا يكن.

وَعَلىَ سبيلِ ذلكَ نَتوَجّه بأحدَاثنَا الأولَىَ نَحوَ بيتٍ بأربعة طَوَابقَ، ليسَ قَصرًا وَلَيسَ بيتًا عاديًا بنَفس الوَقت، أبيَض ذو طرازٍ فَخم عريقٍ وَبهِ مَا ثَمُنَ وَرَقَى من أثاثٍ.

يَجلسُ في إحدى غُرَفهِ الواسَعة رَجُلٌ خَمسينِيّ مَعروفٌ فيِ مَنطقتهِ وَلَهُ نفوذٌ وَسلطَةٌ في أحد الفروعٍ لشركَةٍ كَبيرَةٍ مختَصّة في بيع وشراء السَيّارات، غارقٌ بينَ مُجَلّداتٍ وأوراقٍ وَوَثائقَ شَتّى، يَحتسيِ القهوَةَ في هدوءٍ رغمَ تأخرِ الوَقتِ، ثم مَن يَمنعُ المخلصينَ في عَملهم وَالمهووسينَ بهِ، من أن يَهتَمّوا؟

دَخَلت عليهِ زَوجَتهُ وَرَاحَت تَجلسُ مرتخية على الكَنبةِ المجَاورَة لمَكتبهِ، ثُمَّ قالت معاتبة إيّاه بعدَ ملاحظتها لتركيزهِ مَعهَا:«مَا كَانَ عليكَ الصرَاخُ هكذا عَلىَ بدر! لِمَ دَومًا تكبر وتعظم المشاكل بهذا الشكل؟ لَم يَكن سوَى خطأ بسيط، مَاذا لَو حَدث مَاهو أكبر، كَيف ستتعامل وَيتعامل هوَ معك وَ نتَ تزرع فيه الرهبَة والردع عَن المواجهة؟ بحقكَ لُمَ تنفعل عليه هَكَذا دَومًا، فهَذا يضره أكثر مما ينفعه، فهو ما يزال مراهقا وفي فترة حساسة كما تعلم، بربكَ يا إبرَاهيمُ افهم قليلاً! راعِهِ، علّمه، وَجّهه، لا أن تَصرخَ وَتهجمَ بكل ذلكَ الغضب عليهِ».

رَمَقهَا زَوجهَا بجفاءٍ وَتَحَدّث بغضبٍ: «لاَ دَخلَ لكِ واهتمّي بشؤونك! هذا الأمر خاص بيني وَبينه، لا شأنَ لكِ، ثمّ كَفىَ فلسفَة عَلىَ رأسيِ أصبتني بالصداع
وَلا تعيديِ التدخل ثانيَةً خيرٌ لكِ، ها أنا قد حذرتك».

صَمَتت فاطمَةُ لجبروت وَغطرسَة زَوجهَا، كَانت تتوقع ردّا على هذا النحو لَكن ليسَ بهاتهِ القسوَة، قامَت من مَضجَعهَا وَخَرجَت دونَ أن تنبس بحرف، فمثلُ هَكَذا شَخصٍ بالنسبَة لهاَ غير جَديرٍ بالمنَاقشَة وَالتفاهم.

وَرَاحَت قاصدَةً صالَةَ المَعيشَةِ لتَلاحظ أنَّ ابنهَا الأوسطَ غيهَب لَم يَنَم بعد، زَفرت الهواء بضيقٍ فانتبه الأخيرُ لذلكَ وَقالَ لهَا: «مَا بكِ يا أمّي، أهنَاكَ مَا يضايقكِ يَا جنَّةَ الأرضِ؟»

إبتسمَت السَيّدَة فاطمَة الزَهرَاء بدفء معبرَةً عَمّا يخالجهَا سرًا: "مَن غيرُ غيهَب يَشفي غليلَ قلبي بعدَكَ يا رَب، اللهم احفَظ ابنيِ ".

ثمّ جَهَرت بالقَولِ: «أنَا بخَير يا ولدي، إنّهُ وَالدكَ وَأفعالهُ كَالعادَة».

شعر غيهَب بالتَعبِ يتغلغل بين أحرفِ كَلماتِ أمه فنَهَضَ من مَضجَعهِ مقبلاً راحتَهَا وَقاَل:« يا أمّي، مَن تَرَبّى عَلىَ شَيْءٍ وَشَبّ، شَابَ عليهِ، تلكَ طباع أبي التي نشأ عليها وَنهض، بالطَبعِ سيكون لهَا تأثير وَسَيقومُ باتباعهَا معَ أبناءهِ كَمَا يفعل الآنَ، مَا يَفعله مَعَ بَدر صَحيح لَكن بطَريقَةٍ سيئَة جدِا، لمَا برأيك؟ لأنّه تربَى على هذا النحو، كَذلكَ فجَميعنا كَانت بداياتنَا في التَكَون بهاته الطريقة، فقط نحن الإخوَة الأكبر كنَا نواجه أبي وَنَفرض ذواتنا في أوقات الجد، بينَمَا بدر يكتفي بالإنصياع والصَمت كالغبي، هوَ يستحق مَا يحدث لهُ، دعيه يتعلَم كَيف يطلب حقه بيده وكيف يواجه وكيف يتصدى و يرد، لم يعد صغيرا ليُتَكَلم عوضِا عنه أو يُدافع عليهِ، صحيح أنه حَساس وَكتوم لكن ذلك لا يمنعه من أن يبني
شَخصيَة قويَة وَيعتمد عَلى نفسه وَيحل بهَا مَشاكلهُ، جَميعنَا من غير استثناء كَان أبي في البدايَةًِ يعنفنا لفظيا كَمَا يفعل مع بدر الآن ويزرع فينا أفكَار شرسة عَلىَ عقل لازال في طور النمو لكن الفرق بيننا و بين بدر أننا قلبنا الأمر لصالحنا بالرفض تارة والرد تارة والنقاش تارة أخرى، رغم أن ضريبة ذلك كَانت جُدّ باهضَة الثمن مَع نرجسي كَوالدي، وَمَع ذلك أنظري لفرق معاملته لنا وله، إنّه كبير، لمَا؟ لأننا نحن من أراد ذلكَ. عليه أن يبني نَفسه بنَفسهِ، عليه أن يَتقوَى وَحده، وأن لا يحشر نَفسه في زاويَة منعزلة وأن يفتح عينه للعالَم، تكَلمي مَعه يا أمّي، إنّه وَالده، ليسَ بوَحشٍ، يمكنه فعل ذلك».

نَظرت فاطمَةُ في عين ابنهَا وَ قالت ماسحَةً عَلىَ ظهرهِ برفق: « تَفكيركَ دَومًا مغايرٌ بشَكلٍ مبهرٍ، دمتَ ليِ أجمَلَ النعمَِ يا غالي ».

ابتسمَ غيهَب لكَلمَاتِ أمهِ وَردّ:
«آمِين يَا رَب»؛ ثمّ استرسلَ بالقول ممازحًا: « أَكيد سَيكونُ تفكيريِ مميزًا كَالعادَة، ليسَ بالأمر الجيدِ، أوليس؟»

ضَحِكَتِ الأمّ بخفَّةٍ عَلىَ غرور ابنهَا الذي لَم وَلَن يزولَ إطلاقاً وأَومَأت بهدوء لترد:
«طبعًا أهناَكَ شَك؟»

الأبلقWhere stories live. Discover now