الفصل الخامس: خطوة

37 3 0
                                    

أمسك أرواقه بيسراه المزينة بساعة فضية تلمع كنظاراته على انعكاس نور الشمس بينما احتضنت يمناه قهوته الصباحية الساخنة، كانت عسليتاه تلتهم بنهم ما خطّ بين السطور، تراجع بظهره للخلف وسحب الهواء مركزا نظراته ناحية زجاج النافذة ليبصر زرقة السماء وقبل أن يذهب بعينيه ناحية الملفات جفل على طرق باب مكتبه ودخول السكرتيرة التي تلفظت بصوت هادىء: « سيد زين الإجتماع على وشك أن يبدأ. »

وجوابا عليها اكتفى الشاب بهزة بالرأس وأطلق تنهيدة طويلة ينفس بها عن توتره وأخذ يلعب بأصابعه على سطح مكتبه الأملس، فهذا اليوم لعله يكون أهم يوم في حياته، أعدّ له العدة قبل أن تطأ قدماه شركة والده، نهض معدلا ربطة عنقه ورسم ابتسامته الساحرة على ثغره والتي غالبا ما تنجح في جذب احترام الآخرين و جعلهم يفترضون أنه شخص واثق من نفسه - وهو فعلا كذلك - دفع الباب وترجل مرحّباً بالحضور، تحمحم والده الذي يجلس متوسطا قاعة الإجتماعات وتلفظ بنبرة يملؤها الفخر:

« يشرفني أن أعرفكم على نجلي وذراعي الأيمن زين، لقد درس تخصص الهندسة الصناعية ويمتلك شهادة ماجستير، وحضرتكم على دراية تامّة بأهمية وإلزامية هذا التخصص في مجال السيارات من تخطيط إلى تصميم وتصنيع، لذلك ارتأيت أن أجعله شريكا ومسؤولا مباشرا على كل أعمالي في فرنسا، لثقتي العالية بقدراته الفريدة.»

هز أغلبهم رؤوسهم بالموافقة مركزين أنظارهم على زين مفتعلين ابتسامة صامتة، توتر قليلا لكن ما إن لمح معالم أبيه الفخور حتى تبدد ذلك الشعور  بالتوتر وحلت محله ابتسامة فخر هو الآخر، التفت إلى يمينه على صوت رجل أشقر الشعر يمد يده لمصافحته وقد رقصت على ثغره ابتسامة مشرقة :« يسرني أن أكون شريكا لرجل مثابر مثلك يا سيد زين .»قال كلماته هذه  باللغة الفرنسية فرد عليه زين بنفس اللغة:

« لي الشرف. »

سار زين بخطوات واثقة نحو مكتبه مبتسما  في غبطة لكن ذلك تبدد على حين غرة حينما عصفت به ذكريات الماضي البعيد، لقد كان والده يغرقه بالكتب التثقيفية وكتب إدارة الوقت، ولايزال صدى كتاب أغنى رجل في بابل يصدح في مخه مع أن سنه عندئذ لم يتجاوز الخامسة عشر، إذ كانت غرفته تعج بالأجهزة اللوحية التي كان يمضي فيها وقتا لا بأس به لتعلم المعلوماتية واللغات، عندما بلغ مكتبه دلف إليه مسترخيا على الأريكة وجعل رأسه يتدلى على حافتها، أسدل ستار عينيه مستذكرا أيام الماضي المرير، وكم غمره الأسى وكم اعتصر رقبته كلما تذكر أنه قد أصيب بلعنة الغرور وكل هذا لأن أباه أفرط في مدحه أمام اخوته ولم يدخر جهدا في تذكيرهم أن يصبحوا مثله ويتخذوه قدوة، أعاد شعره البندقي للخلف وأمسك جبينه خافضا رأسه، إنه يدرك في قرارة نفسه أنه هو شخصيا من اختار أن ينهج هذا الدرب ولم يجبره أحد على ذلك، قرر ذلك بكامل إرادته، كان حلم الهندسة هو ما يطارده منذ الصغر، قرر ذلك حين تكشف الضباب عن عينيه، لم يكن أبدا  ليخضع لشيء يناقض رغباته الحقيقية حتى لو كان هذا ما يحلم به والديه، هذه حياته هو، صراعاته هو، ثماره هو، تخصه وحده بكل ما تحمل، تساءل وقتها، لو أنه عارض بشتى الوسائل أن يصبح رجل أعمال، ماذا ستكون ردة فعل أبيه يا ترى ؟  عندئذ ابتسم ابتسامة حمقاء وتلفظ بشيء أقرب للهمس« بالتأكيد سينتهي بي الأمر كحال بدر. »

الأبلقWhere stories live. Discover now