في المزرعة

276 15 0
                                    

كنت انا ومحمد وشاجي في محطة وقود لسيارات ، قدم رجل بسيارته يطلب عاملا ليعينه في أعمال المزرعة .
بالنسبة لي لم تكن لدي ادنى فكرة عن تلك المزرعة ولكن بظروفي تلك كان العرض مغريا فقبلته بحماس ونفاذ صبر .
ركبت السيارة ومعي محمد ذاهبين الى تلك المزرعة ، فراح تفكيري يجول بين أمنياتي : من بين تلك الجداول ، والبساتين ، والظلال ، والخضرة اللتي تسر النظارين ، والماء البارد ، والهواء المنعش ، كنت اتخيل نفسي أعمل بجد دون كلل ، ثم اذهب واستظل تحت شجرة معطاء ، فأقطف ما دنى منها من ثمارها ...
ولكن قطع حبل امنياتي تلك كلام سائقنا ذاك قائلا : إذا ماسم هذا يا محمد ؟
نظر لي محمد منتظرا مني جواباً ، ولكن لم أُجب لأنه لم يكن لدي ادنى فكرة عن نفسي .
ولكن فاجأني محمد بجوابه قائلا : اسمه سلمان ، انه ورغم خجله عامل مجد .
قال السائق ضاحكا بسخرية : اتمنى ذلك ، لأن السعوديين غالبا لا يحبون الأعمال الشاقه .
ثم نظر إلي مبتسما وقال : ولكن الناس مختلفين أليس كذالك .
لم يعلق احد ، شعر بالإحراج عمّا قاله لذلك بدأ بالتعريف عن نفسه : انا كومار ، أعمل في المزرعة ، وأنا من يهتم بكل شيء فيها ، أوزع المهام على العمال و اشرف على عملهم ، هل تعلم لماذا انا اهتم بكل شيء ؟ ليس لأني قديم في هذا المجال ، بل لأني الأجود والأذكى ، وسترى ذلك بعينيك .
استمر سكوتنا ، فلم يكن هناك ما يستحق ان نقوله .
قال محمد : اسمع يا كومار ، نحتاج ان نشري بعض الأغراض لفهد .
قال كومار باستغراب : ومن فهد هذا ؟ ألم تقل ان اسمه سلمان ؟ .
التفت محمد إليه ثم قال وهو يضحك : يا إلهي ، يبدو اني كبرت ، نعم نعم اسمه سلمان .
وانا كذلك ضحكت على خطأه وعلى حقيقة اني لا اعرف اسمي حتى ، حقيقة تدعوا الى السخرية .
أخذني التفكير الى حالي ، فمتى يحين الوقت لأعرف من انا ؟ ومن أكون ؟ ومن هم اهلي ؟ وأين هم ؟ ولماذا تركوني مغطى بالجروح في مكان بعيد عن الحياة ....
واستمرت تساؤلاتي حتى وصلنا الى السوق ، اشترى محمد لي بدلتين وثوب رسمي وملابس داخلية .
ركبنا السيارة ذاهبين الى المزرعة .
ونحن في الطريق ، قال كومار : محمد ، لما اشتريت له كل شيء ؟ اين اهله ؟
قال محمد : اهله ؟! هل تسأل عن أهله ؟
نظر كومار وهو متعجب فقال : نعم !
هنا انا احسست بمرفق محمد يضربني فنظرت إليه ، نظر إلي واشار بيده أنه علي البكاء .
فتظاهرت بالبكاء ، ضم محمد رأسي قال مجيبا : ليس لديه اهل ، أباه كان فقيرا معدما لا أهل له .
لم يكن جواب محمد مقنعاً كفاية لكومار ولكنه لم يعلق واكتفى بالسكوت .
وصلنا الى المزرعة . كانت مسورة بجدار كبير من الجهة الأماميه ، والبوابة الرئيسية كانت كبيرة جدا ومهيبه ، ولكن لم ندخل المزرعة من البوابة تلك بل مررنا بها وانعطفنا يمينا وسرنا حتى وصلنا الى باب حديدي قديم الطراز .
نزل كومار وسبقنا إليه ، فتح الباب ودخل فتبعناه بالدخول .
واجهنا ممر ليس بطويل ، على جانبه الأيمن والأيسر غرف ، وفي نهاية الممر باب .
مشينا في ذاك الممر وكان كومار يعرفني على سكني الجديد قائلا : هذه الغرف فيها عمال المزرعه ، هناك قوانين يجب ان تحترمها سنخبرك عنها في وقتها .
توقفنا عند احد الغرف ، طرق كومار الباب ثم فتحه ودخل ، واضح انه لم يكن هناك احد في الداخل ، فدخلت من بعده لأندهش من القذارة اللتي يعيشون بها ، فبالرغم من وجود خزانة ملابس الا ان ملابسهم مرمية على الأرض ، ورائحة الغرفة نتنة .
وسط اندهاشي على حال هذا المكان قال كومار : هذا هو سريرك ، وهذه الجهة من الخزانه مكان لملابسك ، وعلى هذا الرف تستطيع وضع كل ما تملك . ثم ابتسم وقال بسخرية : اعتقد ان المكان لن يكفي لكل اغراضك .
نظرت له ثم قلت : اين الحمام ؟
اجاب : في نهاية الممر على اليسار .
بعد ذلك خرج من الغرفة وبقيت انا ومحمد ننظر الى حال هذه الغرفة . فقلت : هل تظن اني استطيع البقاء هنا ؟
اجاب : هل تريد العودة الى ذاك المسجد ؟
قلت بفزع : لا ، هذا المكان أحبُ لي .
قال : اسمع يا بني ، انتبه لنفسك وفكر في كل شيء تهيم في فعله ، ولا تنسى انك لست وحدك ، ادع ربك فإنه قريب .
نظرت إليه ثم قلت : لماذا تساعدني ؟ ما اللذي يدفعك للوقوف الى جانبي ؟.
اجاب : احتسب الأجر يا ولدي .
اقنعني جوابه ولكن ليس كثير .
اخذت ملابسي وبدأت ارتبها في خزنتي ، ثم اخذت بدلة وذهبت الى الحمام لأستحم .
بعد خروجي من الحمام وأنا أمشي في الممر ذاهبا الى الغرفة ، فُتح الباب الخلفي للممر ، نظرت إليه فإذا بأشعة الشمس في الخارج تحجب الرؤية ، قال : هل انت العامل الجديد ؟
قلت : نعم انه انا ، ماذا تريد ؟.
قال : هيا ، كومار يريدك الان .
استعجلت في وضع ملابسي على سريري لأنها متسخة جدا ، ثم فتحت النافذة ليتجدد الهواء ، بعد ذلك خرجت على عجل من الباب الخلفي ، فتحته فتفاجأت بالمنظر ...
كان في المزرعة بوابة رئيسية ينطلق منها طريق رئيسي يصل الى ڤيلا سكنية ، على اطراف ذاك الطريق كان نخل صف بشكل انيق ومرتب ، ومن يمين ويسار ذاك الطريق خلف النخل كانت الخضروات مزروعة بشتى انواعها مقسمة الى مربعات ، في كل مربع نوع من الخضار ، وفي اقصى اليمين كان سكن العمال ، وكنت انا هناك قد خرجت انظر في بديع خلق الرحمن ، وكيف يسخر الإنسان ليعمل كل هذا .
كان العمال منتشرين في كل مكان فيها يعملون .
قطع تأملي صوت كومار قادم إلي وهو يقول : نعم انها جميلة جدا ، اني استمتع في العمل هنا ، وانت ستستمتع ان شاء الله .
قلت وانا لازلت انظر الى المزرعة : نعم ، اعتقد ذلك.
قال : تعال معي .
مشينا بالتجاه الڤيلا ، كان يتكلم وأنا مازلت انظر في كل اتجاه في المزرعة ، فوقع ناظري على الجهة الجانبية للڤيلا ، وبالتحديد إلى نافذة كانت مفتوحة وبنت كانت تنظر من خلالها ، بان منها عينيها وشيء من شعرها .
امعنت النظر ، فنظرت تلك العيون إلي ، زادت نبضات قلبي من الرهبه ، فأخذني الفضول لأعرف من صاحبة النظرات البريئة تلك ؟
فجأة ، مسك كومار يدي فنظرت إليه ، ثم قال : ألم تسمع ما قلته لك ؟!
قلت : أنا اسف .
أعدت النظر بسرعة إلى تلك النافذة ، فوجدتها مغلقة .
قال كومار : اسمع .
نظرت إليه وقلت : أنا معك .
قال : تلك البركة في الخلف هي مصدر الماء اللذي يُسقى به الزرع ، مهمتك ان تنظم دخول الماء الى كل مربع ، فهناك بعض الأنواع من الزرع يحتاج الى ماء كثير والبعض يضره الماء الكثير .
فقلت سائلا : وكيف لي ان اعرف ؟
اجاب : تعال معي سأشرح لك كل شيء .
أسهم في شرح كل شيء واتضح لي ما علي فعله كل صباح .
في الوقت اللذي كان كومار يجولي بي في أرجاء المزرعة ، كان العمال يحصدون ما انتجته الأرض ، كنت انظر الى كمية الصناديق اللتي تعبأ واذكر الله وانا اقول : وهلّ لصاحب المزرعة ان يشعر بالعناء في هذه الحياة ؟
بعد الغروب ، وتحديدا بعد صلاة المغرب ، تجمع العمال على الطريق الرئيسي وقد انتهوا من جمع المحصول ووضعوه في صندوق شاحنة .
جاء رجل مسن  يتكئ على عصى ، انحنى ظهره من الكبر ، لحيته الكثيفة بيضاء ، والتجاعيد بانت على وجهه ، وعلى رأسه شماغ أحمر رديء ، ويرتدي ثوب بالِ ، من منظره تشعر بقلة اهتمامه بنفسه وشكله .
حين قدومه وقف الجميع عن العمل ، تقدم كومار وبدأ بالحديث عن المحصول .
اثناء النقاش ، كنت انظر الى الڤيلا وقد زهت بأنوار صفراء وبيضاء في الظلام ، وكذلك الطريق الرئيسي كانت انارته عالية .
كانت عيناي على النوافذ انتظر صاحبة العيون البريئة .
نادى كومار : سلمان ، تقدم ، ابو أحمد يريد التعرف عليك .
تقدمت وانا انظر إلى أبو أحمد باستغراب متسائلا في نفسي : هل هذا هو مالك المزرعة والڤيلا ؟
يا إلهي ، لما هو بهذا الحال ؟
تقدمت ، ولمست في عينيه التساؤل نفسه ، وهو على حق .
لما أنا وبهذا العمر ابحث عن عمل كهذا ؟

فهل سيقبل بي عامل في مزرعته ؟
وهل ستقنعه قصة اني فقير معدم ؟
ومن صاحبة العيون البريئة تلك ؟

فرصة للعيش Where stories live. Discover now