المقدمة

817 6 1
                                    

المقدمة **


"لقد حان موعد إقلاع الطائرة ألن تتمنى لي التوفيق في رحلتي هذه"
نظر إليه أبيه الروحي العجوز وابتسم بحزن محاولاً تجاهل هذا الفزع القابع في قلبه :"أنك تعرف يا أسامة رأيي جيداً في هذه الرحلة فلا تنتظر مني أن أشجعك لما أنت مقدم عليه".
صدح صوت أسامة بلا خضوع لتلك اللمحة الخائفة من هذا الصوت العجوز :"لما لا تتركني أقوم بما علي فعله أنت أدرى الناس بدوافعي..لابد لي من جعلهم يدفعون ثمن تعاستي ".
اندفع صوت أبيه الخياري :" انتهت يا أسامة .. لا أريد فقدك أنت الأخر.. أريدك حياً ".
عقب وهو يقبض على أصابعه فكانتا قبضتين بيضاوين من الغضب :" هل هو كثير علي أن اجعلهم يدفعون ثمن تعاستي وحزني.. لما علينا نحن الحياة تعساء بعد فقدها !! .. بينما هم يحيون وكأن لا شيء قد حدث معهم ؟!!".
أمال الرجل الكبير ظهره للخلف بينما رأسه يرتفع بأنفه للسماء .. يواري حزنه الدفين تحت جفنيه :" سيأتي يوم ويدفعون ما عليهم من ديون على أعمالهم الشريرة .. لكن ليس شرطاً أن يكون السداد على يديك أسامة ".
أكد صوت الرجل الثلاثيني الشاب .. وهو يضرب قبضته اليمنى داخل راحته اليسرى :" بل على يدي يا بابا شلبي .. لن يكون ثأر غدير سوى على يدي ".
حمل حقيبته ليغادر مستدعياً أشباح الماضي التي كلفته الكثير من أيام حياته .. سوف يجعل النوم يجافيهم .. ويصلب الخوف داخل أعينهم .. لقد أتخذ قراره ..، ولا رجعة فيه .. سيكمل طريق غدير ورحلتها .. ليس أمامه سوى هذا الطريق الوحيد لينتقم ممن نالوا من زهرة حياتها .. فإلى الطائرة التي ستكون الرحلة اللازمة لدنيا الإنتقام ..
**************
سحب الرجل الكبير صورة من جواره مؤطرة بإطار خشبي فخم الشكل .. همس نحو تلك الشفتين السخيتين الابتسامة :" كم أنا خائف عليه غدير .. لقد ظلمتينا معاً بتركك لنا خلف هذا الحلم التعيس ".
ذات الخوف وتلك الرغبة القاتلة .. عاد يحدق في عيونها الجميلة .. ليتلظى قلبه في بحار الآسى والوجع .. همس داخله يحتضن الصورة :" كم افتقدك حبيبتي .. ليتني استطعت منعك في الماضي .. بل ليتني استطعت منع حبيبك الآن ؟!!".
يدرك أن الأيام ستصدر ساعات أكثر إيلاماً لربيبه ..
**************
بعد أسبوع ***
داخل بناية حديثة فخمة تطل واجهتهاعلى صفحة نهر النيل.. في أحد الطوابق الفوق متوسطة .. تجلس على مكتبها الفخم .. تعيد ترتيب أوراقها .. ترفع ساق فوق الأخرى .. ملابسها تناقض كليا تلك الوظيفة المالية الوقورة في أحد البنوك الإستثمارية الكبرى .. هذه الوظيفة التي ضحت من أجلها بالكثير من لحظات عمرها .. لكنها لا تشعرللآن بما تركته خلفها ..بنطالها الجينز الممزق والذي يبرز لون بشرتها المرمرية .. وتلك البلوزة الحريرية القصيرة التي تظهر خصرها النحيل.. تشعر بحريتها في هذا المكتب المنفرد وكأنها داخل منزلها.. فقواعد عملها لا يتم فيها الإحتكاك مع الجمهور هي تدرس ملفات الإئتمان والقروض فقط .. وتوصي بالواجب إتباعه..

أرتفعجسدها على حذاء مغلق عالي الكعبين يمنحها طولاً إضافياً.. فقد أنهت عملها لهذااليوم .. ثم بدأت تجمع أوراقها وتدفعها داخل حقيبتها.. جذبت سترتها الطويلةالخارجية ..أرتدتها .. ثم بدأت تخطو خارج مكتبها .. ارتفع رنين هاتفها بغتة .. مدتيدها داخل حقيبتها تبحث عن هاتفها في محاولة للوصول إليه خلال رجته المتزايدة ..لكنه عاندها وتعمد الصمت كلياً مما جعلها تقبض على فتحة حقيبتها تنظر داخلها ..وجدت أخيراً هدفها المنشود .. قبضت عليه .. وهي تغلق باب مكتبها .. تخطو خطواتواسعة برشاقة .. لا يكاد للآن يصدق أحد من العاملين أنها لا تملك بطاقة سحرية ليتمتعينها في هذا المنصب الرفيع .. حتى مع مؤهلاتها المميزة لكن ليس هكذا تدار الأمور.. لابد لها من وساطة لتصل لهذا المنصب وهي دون الثلاثون ..الجميع يظن فيها سوءاًربما بسبب جمالها المترفع أو بسبب إنفاقها البذخ على ملابسها وعطورها.. هو حتماًبسبب طريقة ملابسها .. لكن لكل منهم هاجس.. فجميعهم رفيعي المستوى تم إختيارهم بناءاً على بطاقات وساطة ..
بينما هي تشعر بالنظرات الحادة لكن لا يهمها سوى عملها ومكانتها الرفيعة .. يكفيهاأن عملها مميز كما أعتادت .. داخلها احتقار لكل من لايقيم وزن لمجهودها ..
عاد هاتفها يطلق رنينه الحاد ترافقه رجة في يدها .. مما جعلها تنتفض بغتة .. فليسمن المعتاد أن يرن هاتفها وهي في العمل .. العكس هو الصحيح عندما يرن هاتفا فيالمنزل في استفسارات عن ملفات قروض ما أو دراسات متعجلة ..
شاهدت الشاشة المضيئة للهاتف الفاخر الوردي اللون فهي دائما تحب كونها أنثى وتهتمبتفاصيلها الناعمة.. اندهاشة كبيرة حطت على عينيها تعلن عن صدمتها .. ضياء .. هذاهو الأسم الذي أضاء فوق شاشتها .. بعد الصدمة حلت لحظة التردد .. ما بين تفكيروتكفير .. تفكير أنه ربما عاد يستثنيها الفراق ويطالبها بالعودة لخطوبته.. وأرتداءدبلته مرة أخرى التي خلعتها من شهرين كاملين .. وتكفير أنه يعلمها بزيجته أو ربماخطوبته بعدما عثر على غيرها .. كشيء من رد الكرامة المبالغ فيه مثل أي شاب شرقيالإنتماء .. ما أن تتركه خطيبته يعلن البحث الحثيث عن زوجة جديدة يمارس عليهاإنتقامه ويعلن بها إنتصاره على تلك التي تركته .. تماماً مثلها بالضبط .. عندما تمقبولها بالوظيفة الجديدة وصار بينهما فارق كبير في كل شيء حتى الموافقة في وقتلقاؤهما .. وظل يتذمر .. خلعت تلك الدائرة الذهبية عن أصبعها معلنة له :"الحب لا يكفي أحياناً .. عملي مهم أيضاً ".
خمد الضوء مرة أخرى .. مما جعلها تبحث عن الهاتف الأول لتجده منه .. مرتان اتصلبها .. معلنا التعمد في اللقاء .. وقفت تناظر الهاتف هل ستجيب أم لا .. لا تعرفماذا تفعل؟!!..
فيختار إجبارها على اللقاء الحتمي عندما يعاود الرنين للمرة الثالثة .. فتحتالهاتف بضيق جلي في درجة صوتها :" نعم ضياء .. ثلاث مرات وكأن الدنيا قدانهارت حولك ".
تنصت لصوته المفعم في الإرتباك :" رؤى .. الدنيا انهارت عندك أنت وأنا فقطأجمع الركام ".
هتفت بصوت أجش يستفسر الغموض :" ماذا تريد بالضبط ؟!!.. هل إنهارت الدنيا لأنكستخطب مثلاً؟!!..أو لأنك ..".
صوته قاطعها بكل ما فيه من إضطراب :" لا.. فقط كنت أبحث عن طريقة سهلة أبلغكبها ".
وعاد الصمت يملأ المساحة بينهما عبر الآثير جالباً معه التوتر الشديد .. ترتفعطبقته السميكة بسمك الجدر ..ليقطعه مرة أخرى .. هامساً بحزن :" لقد سقطتوالدتك .. لقد جلبتها لمشفى**".
نعم .. أمها .. لم يعد لديها كلمة تضيفها ولا حتى إستفسار .. فالأهم هي تلك الأمالتي مادت بها الدنيا تحت أقدامها .. كلمته تعلن لها الفراق الحتمي .. قذفهابحجارة حادة مسننة داخل قلبها فجعله ينزف .. نزيف حاد داخل قلبها بلا توقف .. ربماقلبها مستمر في النبض رغم النزيف .. يكفيها أن أمها في المشفى ماتت فيها لحظاتكبريائها .. ماتت مع أمها .. كل ما تفكر فيه أمها وكيف تركتها هذا الصباح على شقاق.. أمها سقطت .. اليوم استطاعت بجبروتها تحطيم الكثير من المشاعر .. الحب وحده لايكفي .. كلمة شقتها نصفين منذ قيلت لها .. وظلت ترددها بلا حياء .. فقط تجرح بهاكل من يحاول إسداء النصح لها ..
القدر هو من سيدفع الفراق إلى إطلاق صفارة النهاية ... النهاية ؟!!.. ماالنهاية؟؟!!.. نهايتها أم نهاية أمها؟!!.. أو نهايتهما معاً؟!!..
تخطو بطريقة هستيرية قاطعة رواق الطابق الثاني عشر الذي تحتل غرفة من غرفه الكبيرة.. لم تجد المصعد فلم تنتظر عندما ضغطت عليه وجدته في الطابق الأول ولكنه صاعدافلم تنتظر لانه سيصعد ويكمل صعوده لأخر طابق والذي يفصلها عنه عشرة طوابق أخرى لن تنتظر تلك المسافة .. ظلت تهرول على الدرج سابحةفي دموعها .. أمها .. أمها .. أمها التي تجمدت رؤياها أمام عينيها اليوم في الصباح..
وضربها عقلها يدعم حصوات الذنب داخل قيود روحها .. تعترض أمها عليها :" لماذايا رؤى ؟!!.. تصرين أن يراك الناس بصورة سيئة ".
رفعت عيناها نحو الواقفة بابها تختال في عباءة منزلية محتشمة طويلة .. وشعرهاتجمعه تحت طرحة صغيرة تعقدها خلفاً.. ثم ابعدت عيناها نحو مرآتها مغمغمة :"فليظنوا ما يشاءون ؟!!.. يكفيني أن أعلم أني صواب ".
حركت أمها رأسها بضيق يمزق أقنية عينيها .. ثم تحدثت بقلق :" لا يا رؤى ..الناس ليس لها إلا الظاهر يا ابنتي .. يحكمون من خلال ما يرونه .. ولن نجلس نشرحلكل البشر أنك صواب .. يكفينا ما نالنا من ضرر منذ وفاة أبيك بعد الفضيحة التينالتنا بزواجه من الأخرى .. فلا تضرينا يا ابنتي ".
هجوم صاخب إقتلع كل هدوءها .. وصار يعربد في عروقها مع دماءها التي صارت تغلي فيتنور الحجيم .. مجرد ذكر أنها من تضر .. هتفت عاقدة ذراعية مدعية الهدوء :"الضرر كنت السبب فيه .. بضعفك أنت .. فلا تلوميني.. عندما أضرك يا سيدة فريدة سوفأبتعد كلياً عن هنا .. لن أفعل مثله اتركك من أجل راقصة ، وأعود باكية وتتقبلينيمثلما تقبلتيه .. فلا تضعيني في نفس الكفة معه فنحن لن نتساوي أبداً".
ألم مزق أحشاء الأم الواهنة :" نعم أعرف .. ستظلين تلوميني لأني أعدته لمنزله..".
قاطعت أمها بكل ما تملك من ضيق حارق لأطراف قلبها :" لم يعد منزله .. هومنزلنا نحن .. منذ تركنا وابتعد عنا .. حتى المنزل الجديد الذي كان سيكون لنا أخذهلأخرى .. فلا تقولي أنه منزله .. هذا منزلنا نحن ونحن من ندفع إيجاره للآن ..أنتفقط من كانت تعتبره رجل هذا المنزل".
ثم وهن صوتها خفوتاً بعبارة لا يمكن أن تنساها :" الحب وحده لا يكفي ".
هتفت أمها في غضب :" لا من قال هذا .. أهذا هو تقديرك للإشياء.. الحب يكفيويكفي ".
لم تستطيع كتم غيظها .. فتحدثت هامسة بخفوت موجع :" أذهبي وأسأليه هو .. عشتطوال عمرك تمنحين لدرجة المغفرة .. اهانك وتركك لراقصة تعري جسدها للسكارى ،لكنكغفرت له ما أن عاد .. ذهب بجميع أمواله وعاد فقيراً لتزداد الأفواه التي تحملتيها،ومع هذا لم تغضبين .. لم أكن أنا صاحبة المبدأ.. كان هو من قال لي الحب وحده لايكفي .. أتعرفين متى ؟!!".
كانت الأم تبحث عن مكان تواري فيه جراحها الغادرة من أطياف الزمان الغابر ..لتتشكلكل آلام طفلتها في هذه اللحظة .. كنصال حقيقية تضغط على قلبها تدميه .. مسكت كتفهاتضغط على موطن الألم الخفي .. بينما صغيرتها تضع أمامها الحقيقة كاملة :"بعدما عاد .. سألته لما ذهبت ونحن نحبك ؟!!.. فكانت إجابته الحب وحده لا يكفي ..نعم .. كان مجبر على البقاء معنا ..لأننا الحل الوحيد الذي بقي أمامه .. لم يكنيحبنا .. عاد فقط لأنه لا يجد حل أخر.. أنت أجبرته على البقاء ".
بينما ترتجف شفتا أمها كانت هي تكيل عليها بحجارة الكلمات:" كنت ضعيفة بلاكرامة .. بلا كبراياء .. اعدتيه ليظل رجل البيت .. ظل في حياتنا كل ما يفعلهيخيفنا غضبه فقط .. بلا كرامة ".
غمغمت الأم وهي تختار السقوط على المقعد القريب لتريح جسدها المنهك :" لا لملكن بلا كرامة .. كنت وفية والوفاء سيجازيني الله عليه".
وكانما أرادت أن تبدل موضوع الماضي لتذكرها بالمستقبل:"ضياء لم يكن يشببه".
حركت رأسها في ممانعة جلية وكفها في مقاطعة رافضة :" كلهم واحد .. ضياء أيضاًكان سيعلن لي الحب وحده لا يكفي .. لكني انتصرت أعلنتها أنا له ".
ثم تحركت قاطعة الغرفة بخطوات أشد رفضاً لمجرد الذكرى .. اللحظة المرتبطة بينأبيها وضياء لم تكن سوى حقيقة دامغة داخل عقلها كلاهما تركها لأن الحب لا يكفيه..نظرت لها أمها بهمس قانط :" ضياء ليس مثل أبيك ".
لم تكن تريد العودة لنقاط خلافية .. لم تكن ستتوسل أحدهما الحب .. غادرت غرفتها ثمالشقة كاملة .. تملك قرارها وحدها ليست في حاجة لرجل يقرر عنها أو حتى يعيقها ..فليست معاقة ..
افاقت لنفسها على هيئة أمها الذليلة المتوجعة .. وكيف تضغط على كتفها .. وملامحهاتنم عن تعب .. ضربت المقود براحتها مرات عديدة .. تلوم أبيها ووجوده في حياتها هوالذي جعلها تغضب أمها كلما حضرت سيرته في المكان أو حتى ذكر أسمه .. داخلها تتمنىان تكون وعكة أمها

داخل المشفى **
اللهفة والقلق في سباق مع خطواتها المثقلة رغم الهرولة التي تتحركان بهاقدميها ..نحو غرفة لم تكن تتخيل أمهاستكون فيها يوماً.. سقطت كسقوط الجمل الذي ناخ فجأة مع طول ساقيه عتدما ضربهالجزار في ركبته بسكين حاد..
أمام غرفة الرعاية المركزة .. لم تجد سواه تقدمت منه كملجأ وحيد :" ضياء ..أمي ؟!!".
انتبه لصوتها في وضعه المتجمد يركن بظهره على الجدار البارد وساقيه معقودة القدمينفي ثباته الطويل وكذلك عقدة يداه تنتهي امام جذعه .. رفع رأسه المطرق رافعاً عيناهصوب الصوت الملتاع .. حركته تلت صدمته وكأنه يراها لأول مرة .. غمغم بصوت آسيفوكأن أسمها منبع الأسف :" رؤى".
شحوب النظرات كان كافِ لتعلم أن أمها تعبت .. بينما هو يشرح لها :" اتصلت بيصباحاً قبل مغادرتي للعمل .. طلبت مني التوجة إليها . وفعلت ولكن عندما وصلت كانتبالفعل مرهقة .. جلست معي تلتقط كلمات مبعثرة لم تكن تحمل الترابط .. وبعدها سقطتفلم انتظر جلبتها هنا .. وبعدما استقر وضعها أتصلت بك ثم أتصلت ب" عصام راجي زوج أختك منال ".
سقط قلبها داخل قفصها الصدري .. ثم نظرت نحو باب الغرفة المنيع حتى لا يدرك شحوبها.. تلحظ نافذة زجاجية كبيرة تجاوره ..رجحت أنها تطل على داخل الرعاية ، فتحركت نحو النافذة الزجاجية تحدق لها علهاتجدها هامسة بيأس :" هل هنا هكذا مستقرة ؟!!".
لم تسقط عيناها على والدتها فقط .. عدة أسرة يحيط كل منها ستائر جلدية سميكة ..كادت تسقط خوفاً.. ثم هتفت به :" مابها أمي لتصل هنا ؟!!.. ماذا حدث بينكما؟!!".
نفخ زفيره الحارق .. وتحرك نحوها بهدوء مرتبك :" جلطة دموية .. الحمد للهجلبتها بسرعة ".
سألته بضيق :" هل قلت لها ما ضايقها ؟!!.. لماذا ذهبت إليها أصلاً.. ألم تكنقصة وانتهت ضياء ".
سدد لها نظراته .. يريد العلو فوق هذا الجدل العقيم ..فهي في وضع إستثنائي صعب ..لابد من السيطرة على صوته ليجادل بتعقل مقبول :"لقد حادثتني صباحاً.. فذهبتللعمل لأخذ أذن بساعتين وعندما وصلت بالفعل وجدتها في حالة منهكة .. كانت تتحركبصعوبة وبعد أن جلست كانت تختنق فأحضرتها هنا .. هذا كل ما اعرفه رؤى .. كما سبقوذكرت لك في الهاتف ".
حركت رأسها بفيض من غضب رافضة تلك الرواية :" لا أظن هذا .. أمي في ماذاتحتاجك ؟!!".
تحرك معتذراً :" ليس هذا وقته .. ولا مكانه .. صدقيني أنا أكثر شخص كانتتحتاج إليه .. لا حاجة لي للكذب أبداً وخاصة معك ".
بدأ يتحرك قاطعاً المكان هامساً:" سوف أكون في مقهى المشفى لو أردت شيئاً معكهاتفي ".
هتفت به بإستعلاء :" لا أريد منك شيئاً .. ولن أحتاجك .. يمكنك الذهاب لعملك".
عيناه الداكنتان إزدادت دكنة .. قبضات كفيه تتوالي في ضغطات محسوبة يحاول التماسك.. ثم أكد بلسان قوي الثبات :" لن أغادر إلا بخالتي كما كنت من أحضرها سأكونمن تستند عليه في خروجها من هنا بإمر الله.. فلا تحاولين ".
إضطرابها يزداد من وجوده .. نعم بقاءه يضعفها ،ويؤثر عليها لا تريد سوى إختفاءه عنعينيها .. كانت قد بدأت تشغل عقلها بعملها فقط ليحل هو ويحطم قيودها التي تفرضهاحول ذاتها في لحظة ضايع .. كم تمنت أن يواسيها ويربت على ظهرها بل يحتضنها ..فالموقف الذي هي فيه يقتلها ..
لكنها لن تمكنه من التدخل مرة اخرى في حياتها .. كفاها رجل واحد قلب حياتها لمشقةومكابدة ..
هتفت به بينما يتحرك مبتعداً:" من أقابل لأطمئن على أمي؟!! .. طالما لا أراهامن هنا ".
غمغم بصوت واضح :" الطبيب بالداخل سيخرج بعد إعادة الكشف عليها ".
أطرقت برأسها أرضاً .. عاود الإشفاق يضرب قلبه مترصداً.. مصراً على إحتجازه فيجدرها السميكة وجبال برودتها الثلجية :" ستكون بخير .. لا تقلقي ".
ابتسمت ربع ابتسامة .. ثم أعلنت ببرود :" وهل هكذا أطمئن ؟!!".
تحركت نحو ذات الجدار الذي كان يستند عليه .. لتقف بذات الهيئة .. وبنفس الشحوب ..
بينما هو يغادر المكان .. وصوت حشرجة الخالة فريدة يجتث أيام غضب كثيرة .. أيامكان يسأل ذاته بما أخطأ لتخلع دبلته وتضعها في كفه وتغادره .. ذاتها العبارة بني.. ذاتها .. عبارة شكلت حياتي ابنتي .. علمت اليوم فقط بها .. الحب فقط لا يكفي".
عاد ذات الوجع يغمد في صدره .. ثم صمت وهي تعلمه الماضي كله خمس أعوام كاملة ..عشن في كدح حتى تنسى ثلاث نساء وحيدات رجل خزلهن جميعاً .. رجل إستكثر رزقه الوفيرعلى اسرته وبناته وذهب خلف شياطين رغباته .. فعاش النزوة التي كانت هي القاتلة ..رجل عاد فقط مضطراً .. رجل لم يستحق هؤلاء النساء في حياته ..عاد بجسده ولم تعدروحه .. بكلمات قاسية حطم قلب صغيرته .. فجعلها لا تثق بأي رجل .. يلزمها أكثرمنحبه.. من حمايته .. واحتضانه لطفولتها الضائعة.. فهو لم يكن مثل أبيها .. ولن يكون..لكن لابد له من إقتحام تلك القوقعة الصلدة التي تحيط بها نفسها .. قوقعة أطرافهامن اللامبالة وهذا ما يجعل مهمته أصعب .. فمن عانت تحت مظلة الحب وحده لا يكفي كيفيقنعها بالعكس ؟!!.. وهي لا تثق في وجود الحب أساساً.

واكتملت [الجزء الخامس من سلسلة فراء ناعم ][ الليلة فصل جديد ]Where stories live. Discover now