الـفـصـل الـأول ¦ يـومًـا مـا

701 56 193
                                    

في بقعة خالية من البشر، جلس لوكا يتأمل البحر أمامه، يُدندن ما دوّنه توًا في كشكوله الخاص بينما تلعب أنامله بأوتار الجيتار الخشبي العتيق لتُشكِّل مقطوعة تلعب بأوتار قلب سامِعها.

بدى على وجهه الخلاب الشحوب والإعياء، عيناه الغائران يحتبسا بداخلهما كيان لشخص جردته الحياة من روحه مُنذ زمن.

السواد الذي اكتسح أسفل جفنه يدل على نُدرة الراحة التي يلوذ بها، ربما لأنه يسهر على كتابة أغانيه حتى يطمئن على استيقاظ الشمس، وللمصداقية أحيانًا ما يستكمل سهرته عقب طلوعها.
فكه الحاد يتحرك في تناغم وتفاحة آدم تتراقص على ألحان صاحبها الذي امتلك مزيج لطيف من صوت الحوريات مع مغني ثلاثيني شغوف.
ينتقل من شطر لآخر بانسيابية واندماج كأنه الشيء الوحيد الذي يُمكِّنه من التواصل مع روحه الضائعة والتماس الرحمة منها.

الهواء يتضارب في الدروع الكثيفة المُتربعة على جفنيه وخصلات شعره التي اكتسبت اللون البني النقي، الشمس المتعامدة عليه منحته لونًا كستنائيًا لا يمل المرء من مراقبته بل وتطمع أنامله في التعمق بين طياتها.

قميصه الشتوى الأسود وبنطاله الأفحم يهونان عليه النسيم البارد وأما عن حذائه فقد تجرد منه ليشعر بالرمال بين أصابع قدميه تُرسل له شعور دافئ مُحبب.

«يا له من وسيم!»

«أأهذي؟ أم أنني أرى إلهًا إغريقيًا؟!»

أزعج تلك اللوحة الفنية المُتحرِكة بعض الضجيج ليتضح أنه همس بعض الفتيات.
استقام لوك بتوتر واضطراب، شرع في الابتعاد عنهن كفريسة تسعى لتفادي حتفها، صدره يعلو ويهبط من شدة توتره.

ظلّ يسير بخوف غير مُبَرَّر حتى وجد أمامه كوخ خشبي مُهترئ، سار مُقتَرِبًا منه بحذر حتى وصل أمامه مُباشرةً.

بنيته الهندسية توحي بأنه كوخ عتيق لم يُستَخدم لسنوات، رفع يده بتردد وشرع في دفع الباب برِفق فأصدر صريرًا خفيفًا حتى انفتح على مِصراعيه كاشِفًا عمّا يحتويه.

في الواقع لم يحتوى على أي شيء بتاتًا كان أشبه بمكعبًا خشبيا به شرفة تستنزف معظم مساحة الجدار لا زجاج يغطيها، من الغريب أن لوكا أُعجب بالمكان لكن على الرغم من ذلك ملامحه الجامدة الباردة لم تتحرك إنشًا كأنه تمثال جامد، أنحنى كي يدلف بداخل الكوخ إثر طول قامته.
أخذ مجلسًا أمام تلك الشرفة التي تُعد أجمل ما وُجد في المكان.. تُرى من قد يهمل مكان كهذا؟! وضع جيتاره بين أحضانه ودفتره فوق أرضية الكوخ، قبل أن يستكمل ترانيمه العذبة ألقى نظرة أخيرة على الشرفة.
تتراقص أمواج البحر على صوته العذب المُصاحَب للنغمات وليدة تلامس أنامله بأوتار الجيتار.
تهُبّ الرياح مُضفية لمسات ساحرة مُصطَحِبة معها رائحة البحر الهائم بدفء صوت لوكا فتدافعت ذكرياته وهاجت مشاعره لتُطلِق سراحهما أغنيته ساحِبةً معها روحه العالقة بين كلماتها.
قاطع رنين الهاتف أبديته الصغيرة التي تلاحمت فيها روحه مع السلام للمرة الأولى ليسحبه لوكا خارج جيبه، ألقى نظرة على الهاتف وكانت حبيبته «فيوليت» فلم يزده ملاقاة حدقتاه لاسمها فرحًا بل بدى وكأنها شخص يدين له بأموال.
نقر على زر الإجابة قبل أن يُسكن الهاتف فوق أُذنه التي تهوى تجنب ضجيج العالم.

«مرحبًا عزيزي» حتى أن لهفتها لسماع صوته لم تُنير شيئًا بداخله

«مرحبًا»

«كيف حالك؟ لمَ لا تتصل بي؟ كنتُ قلقة للغاية لوكا.»

«أنا بخير» أجاب بعدم اكتراث، ليس وكأنه لا يهتم بها، هو فقط لا يعرف كيف يُظهِر العكس.

«كيف كان يومك؟ أتستمتع بجولتك؟» سألته بلهفة آمِلةً أن يتحدث بأريحية معها لكن خاب ظنها حين أتاها رده.

«نعم» نبسها بنبرة جامِدة لا توحي بشيء.

«اشتقتُ لكَ» أردفت هي بنبرة تغزوها العاطِفة، يكاد يجزم أن حدقتيها على وشك إفراغ ما بهما من عَبرات لم يعرف يومًا كيف يُبعِدهم عن وجنتيها.

«سأغلق الآن، وداعًا» أردف بسرعة ثم أنهى المُكالمة دون سماع ردها حتى.

انزلقت يده بداخل جيبه ليُعيد الهاتف ويتنهد بحزن.
إلى متى ستتحمله فيوليت بحاله ذاك، يُجزِم أنها ستيأس وترحل كما فعل الجميع.

نفض تلك الأفكار عن ذهنه، تناول دفتره الثمين الأعزّ إلى قلبه وقلمه المُلازِم الدائِم له ثم رمى ببصره نحو البحر، كانت الشمس على وشك الغروب مانحة للسماء ألوان بنفسجية مُتدرجة.
تنهد لوهلة قبل أن يكتب بخط عريض وعده المُعتاد لنفسه الذي بات يُشكك في تحققه، لكنه سيكتبه مجددًا ومجددًا، إما أن يحفظ وعده لنفسه أو سيظل يكتبه حتى تجف الدماء في عروقه

«يومًا ما»

Mer ¦ مـيـرWhere stories live. Discover now