مقدّمة

343 23 7
                                    

عَبَر القوس الترابي الجسد والمُزخرف بالأشكال الهندسية ليدلُفَ إلى غرفةٍ ذات أثاثٍ خشبيٍّ مصقول، حصائرٌ مخمليّةٌ فُرشت على الأرضية الرخامية والتي صُبغت بلون الملوك والسلاطين، لون الجمرة الملتهبة، بزخارفٍ سوداء مطعمة بالذهب في بعض البُقع.

  اتخذ مكانه وسَط المجلس، متوشِحًا بالجلباب المطرز بأبهى النقوش وجلدهُ الحريري يَرِفُ لأبسط نسمة هواءٍ تتسرب من النوافذ ذات الزجاج الملون بفسيفساء بهية.

عَقب ذلك دخول ضيوفٍ من علية القوم، رحَّب بهم صاحب البيتِ المَخملي بحرارة ، جلسوا وبدأت أحاديثهم في التدفق دون هوادة وارتفعت معها أصوات ضحكاتهم.

ولجت الخادمة ودون أن تنبس بكلمة بدأت تصفُّ مختلف أصناف الطعام على طاولة توسطت الجمع، ألحقتها بأباريق ممتلئة بالشراب المختلف.

حمحم من يترأس الجلسة فأطبق الجميع أفواههم، على غرار العادة تلمّس الإحترام والرهبة على وجوههم، مما دفعه إلى نفخ صدره ورفع كتفيه عاليًا مغترًّا بما آلت إليه الأوضاع، فبعد كل شيء، هَو الأسَدُ هنا..

أومأ لتحية ضيوفه ثم أعلن وبصوتٍ ملؤه الفخر:
« هذه الوليمة على شرف تنصيبي كقاضٍ على محكمة المظالم، تفضلوا وتناولوا أشهى الأطعمة، فاليوم نحتفل على ضفاف الأنس والفرحة ونودع ما سبق، فاليوم نبدأ عَهد جديد.. عهدي أنا ..!»
شدد على آخر جملة كمن يصرِّح بمجريات المستقبل بطريقة بغلظة صوته وثقته التي تجعل من أمامه لا يجرؤون على الأعتراض حتى.

هنّأه الحضور وشكرهم على مباركاتهم، استمرّ حديثهم وتنوعت المواضيع فيما بينهم، حتى اعتلت تقاسيم وجه صاحب البيت إيحاءات غريبة، فالذي يمعن النظر سيلاحظ جحوظ عينيه، وجهه الذي تجمدت تقاسيمه بطريقة غريبة، تجعد حاجباه، وزمّ شفتيه، تنقلت خرزتيّ عينيه يمينًا ويسارًا، اضطربت لغة جسده وظهرت حبيباتُ العرق اللامعة أعلى جبينه الأسمر، خدّاه اللذان كانآ متوردان نتيجة الضحك المتواصل والشعور بالدفء والتخمة قد فرّت الألوان منهما ، واعتلى وجهه صُفرة الشمس بوضوحِها.

استدار ببطء ليواجه مصدر الفحيح المتدفق من خلفه، فالذي ولج أذنيه لم يكن بالزائر الحميد ولا الصوت المستساغ، مشابه لصوتٍ قد ألفه، ما التقطته أذنيه مطابق لصوت العزيز الذي قد وضع التراب فوقه وحزن على فراقه ثلاث ليالٍ ونصف، أمامه وقد تجلت صورته قابعًا هناك كما قد رأته عيناه آخر مرة قبل الدفن، حلقات سوداء تحاوط عينيه، بشرته البيضاء بلون السوسن إلا أن الفرق بين العزيز وهذا الغريب شيء واحد، وهي رائحته..

نسيـمُ الموت يُحيط بالغريب، ذات الرائحة التي كانت تحيط بعزيزه قبل أيام معدودة.

«وعدتني بأن تصلح يا صالح..»
صدح صوت العجوز وطاف الأرجاء ولكن كما يبدوا فإنه لم يدخل سوى أذن المرتجف، أصبح كشجرة هزيلة تجاهد للبقاء واقفة أمام رياح إعصارٍ فتاك، تدفعها وتهزّها حتى تقتلعها.

رخُّ البرديWhere stories live. Discover now