الفصل الخامس: تنقيب منتصف الليل

18 4 0
                                    

أحال مسألة الزخرمي لقاضٍ آخر وعكف داخل أسوار منزله طلبًا للراحة نتيجة مرضه، أحالته الصدمة صريعًا للحمى والرشاح، كيف للرشاح أن يصيبه وشمس الصيف لا تزال تسيطر على صفحة السماء، والحرُّ يطبق على الأجواء بقبضة فولاذية تاركًا الناس يتجولون بحثًا عن نسمة باردة ومياه منعشة تقيهم الصهد الذي ترسله ذات الأشعة الصفراء الذهبية!

ما حلّ به ذلك اليوم وما لحقه ترك أهل المحكمة وأهل منزله في حيرة، فأعراض الحمى تركته يهلوس ويهذي بأحاديث غريبة، فذات صبيحة يخاطب المرحوم حماه، وذات مساءٍ يطالب أمه المتوفية بأن تحميه من بطش شبحٍ يطارده.

نعيمة المسكينة أرسلت في طلب أمهر الأطباء، وأرسلت أسماء لتشتري الأعشاب الطبية الغالية الثمن والتي يصفونها له، حرصت على راحته بل وتلبية طلباته الغريبة المختلفة، لم تغادره قط بل بقيت ترعاه وتلازمه في كافة أوقاتها.

عفى عنه المرض ووقف على قدميه بعد مرور أسبوعين من الحمى والرشاح وما صاحبهما من أعراضٍ غريبة، وأول شيء فعله هو الذهاب إلى الشيخ مباشرة، والذي أمطره بطرق غريبة لوقاية نفسه من بطش الشبح.

تعليق رزمٍ من نبات الحلتيت الجاف بالجوار من نوافذ مكتبه، رصف الملح الخشن على حواف النوافذ وعلى عتبة باب مكتبه، وعندما سألته نعيمة عن السبب الذي يدفعه إلى أفعاله نهرها صارخًا: « ما أفعله لا يخصك في شيء، ابتعدي فأنا مشغول بتحصين المكتب من شرور الموتى».

لكن وبالرغم من كل أفعاله لا يزال الشبح يطلُّ له عن بعد ويفزعه، حتى طفح كيله وانطلق إلى مجلس الشيخ والشرار يتطاير من عيناه.

« أتتلاعب بي يا هذا؟» لم ينتظر حتى يحييه الشيخ، ولا حتى أن يقدم له الإذن بالدخول إلى منزله، بل وصرخ في وجهه في اللحظة التي فتح فيها الباب الخشبي العتيق ووقعت عيناه على وجه الشيخ والابتسامة الواسعة التي تعتلي ثغره، والأخير أشار إليه بالدخول على مضض دون أن ينبس بحرف، بل واستمع إلى شكوى صالح بصبرٍ ظاهر على محياه..

تابع صالح الصراخ قائلًا: « أخبرتني بأنه سينصرف إذا ما كسرت العظمة، لكنه داهمني بصداع فتاك أثناء المحكمة، وأما العظمة فقد لوح بها أمامي داخل غرفتي بل وكاد أن يهشم بها رأسي هذا، حطم المرآة إلى أشلاء أمام مقلتي هاتين، لم يتوقف هنا بل وجعلني أضحوكة أمام شعبي و الدولة العثمانية بأكملها».

دلَّك الشيخ فكّه وثم مرر أنامله الشاحبة على لحيته الشيباء المسرّحة، مما هو ظاهر فهو يهتم بنظافتها وتسريحها بانتظام وذلك بالنضارة الظاهرة عليها، قال بعد أن أشار إلى صالح بالجلوس والذي جلس كفريسة لأفعى مجلجلة نومته وجعلته يجلس تلقائيًّا: « ألم أخبرك بأنها روحٌ ذات هيئة قاتمة، ناقمة عليك ولن تتزحزح بسهولة حتى تحصل على مبتغاها منك؟ لذلك يجب عليك أن تنفذ ما أمليه عليك بدقة وحرص حتى تكلّل جهودنا بالنجاح وذلك بالتأكيد من توفيق من المولى سبحانه» أعقب كلماته بتسبيحاتٍ تتدفق من فاهه وهو يمسك بالمسبحة ويحرك خرزاتها بأصابعه، كذلك صالحٌ الذي شاركه في التسبيح والاستغفار والدعاء.

رخُّ البرديWhere stories live. Discover now