الفصل السّابع: قناع المكيدة

9 2 0
                                    

سرت محكمة التاجر الفاسد كما خطط لها صالح، فقد قام من مضجعه وحضرها على كرسيّ المرض بوجه شاحب وإصرار يرفع له القبعات، وبالنسبة للمتفرجين الغير عارفين بالأمر، ظنوا بأنه متمسك بوظيفة، فهو لا ينفك يمنحها عقله بل وجسده كذلك، طوال مدة مرضه سرت إشاعة في الأرجاء مفادها أن منصب القاضي وكرسيه الموقر مسكون بلعنة ما، فكل من تقلده انتهى مطافه ميتًا قبل أوانه.

فقبل القاضي مراد، توفيّ قاضيان بأمراضٍ مجهولة حيرت الحكماء في تلك الأنحاء، إلا أن القاضي مراد قد طال حكمه، إذ أنه لم يمت إلا وقد غزى الشيب شعره وفرحت مقلتاه برؤية ابنته متزينة بزينة العرائس، وحضر عرسها كاملًا بصحته وعافية لا مثيل لها على الاقل لمن بعمره، وأرسلها إلى عش الزوجية بحفاوة وعرس قد جعل المدينة كلها تتزين بالأفراح والزغاريد.

إلا أن ذلك لم يدم، فبعد زواج ابنته بثلاث أيام قد مرض ووافته المنية، أتت وفاته فجأة وأثرت على ابنته والمحيطين به، بل أن المدينة بأكملها قد حزنت على وفاته، ثم ها هو زوجها وبعد أن خلف حماه في منصبه قد أصابه المرض، لدرجة أن المحيطين به ظنوا أنه يقف على باب الفُراق الآن .

وقبل النطق بالحكم وإعفاء التاجر الفاسد وإعلان محكمة كبش الفداء، المحاسب المسكين الذي وظفه التاجر قبل المحكمة بأشهر والذي وعده بأنه سيغرق عائلته بالأموال مقابل اعترافه بالتهمة وتقبل العقاب الذي سيعينه القاضي، طأطأ رأسه ووقف منحني الكتفين والظهر متقبلًا قدره المكتوب، أو بالأحرى مسلمًا نفسه لسلطان المال وسطوته وفساد أصحاب المناصب والجاه.

فُتح باب المحكمة الخشبي الضخم على أوسعه، للناظرين لا شيء ظاهر بانجلاء ضفتيه، لكن صالح يراه واقفًا أمامه ونظرة التوعد تعتلي وجهه، شعر بأن ألاعيبه ستبدأ لذلك قرر أن يسرع وتيرة المحكمة وينهي الأمر قبل أن يتصرف الآخر.

وقف بخيلاءٍ وأعلن:
« أعلن أن التاجر بريء، لكن محاسبه ليس كذلك، لذلك سوف ألقاكم بعد أيامٍ معدودة لنناقش مسألته»

أومأ إلى الحاجب وأتبع بصوت مجلجل حازم:
« أيها الحاجب! لننهي المحكمة الآن»

وقف الأخير ونفض عن عباءته وأصلح هندامه وصرخ قائلًا:
« انصراف».

غادر الجمع الحاضر وخلت القاعة من البشر فيما عدا الحاجب والقاضي وكاتب العدل، كذلك تلك الهيئة التي لا تزال تقف في مكانها تبحلق في شخصٍ واحد، لا يزيح بؤبؤ عينيه عنه، يستطيع الشعور بغضبه الذي يرسله مصحوبًا بتحديقاته، شعر بأن أحدهم يحيط بيده على كتفه وكان كاتب العدل عليّ والذي قال والوقار يصاحب كلماته:
« ألن تغادر يا باشا؟»

أدار صالحٌ رأسه إلى جانبه الأيمن حيث يقف كاتب العدل وقال:
« يمكنكما الانصراف إلى مشاغلكما، سوف أغادر القاعة بعد هنيئة.»
غادر الحاجب على مضض دون أن ينبس بحرف، فبالرغم من مرضه إلا أن كلماته لا تزال كنصل السيف، ولا يريد سماع شيء يغرس في قلبه ويحزنه لذلك رمل إلى خارج المحكمة وقماش عباءته يحفُّ قدميه، وعند وصوله إلى باب المحكمة شعر بالقشعريرة لم يعلم السبب الذي دفعه لأن يشعر بذلك، أيقن من أن المكان مسكون، فهو يستشعر وجود الأطياف أينما حلت.

رخُّ البرديWaar verhalen tot leven komen. Ontdek het nu