الفصل الأول: سُلطة

83 17 9
                                    

في مَركز مِصر، وفي مُنتصف القَاهِرة، اشتدَّ الصرحُ الشاهق بغرور وكأن ما حوله من بنيان ليسوا سوا جُرذان في حَضرةِ أسدٍ، ولا يُمكنكَ لومه على غروره، فهو يُتدلل بالزينة والرُسوماتِ ، ويكسوا حجارة ذلك البُنيان الطلاء الأبيض المُرصع ببعض الآياتِ القُرآنية الذهبية اللون، وَ أَهم ما كُتب على مدخل هذا الصرح العَظيم ، وعلى الباب الخشبي العملاق "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ.."

نَعم ، هذا الصرح الأسدي لم يكن سوى المَحكمة.

هذا هو المكان الذي يلجأ إليه الجميع، ويتساوى به الناس، ليس لأموالكَ قيمة هناك إن كان للفقير حقٌ عليكَ، الصرحُ الذي يحقق الميزان و يَعدل ، ولا مجال للتهاون فيه ، سواءاً اكُنت ظالماً، أم مظلوماً.

صرحٌ كهذا كان يحتاج لِمن يمتلك نفس الصِفات التي يحملها ، وحتى أكثر!

يحتاجُ رجلاً، حكيماً، عاقلاً، يزن الكلمة ولا يضعها في غير موقعها، وكيف لا يحمل تِلك الصفات وهو سينصِفُ ويُلقي بالحكم بكل ثقة وبدون تراجع؟!

يَطرُق حذائه الجلدي الثمين على البلاط بقوة غير مراعياً للزمان الذي حارب كُل قطعة مر عليها، وعلى عرض منكبيه هُناك المعطف الثقيل ذو الفرو الأحمر الفارسي، والذي يجعل من الأعمى يجزم أن من أمامه ليس أقل من أي رجل ذو سيط وسُلطة في هذه البلاد.

«مَحكَمة..!»

فورما صرخ الحاجِب الواقف على باب قاعة المحكمة الكبير، فُتح الباب مُظهراً المكان الذي هو بالنسبة الى الكثيرين حياة وموت، وبالنسبة إلى صاحب الفرو الأحمر هو مُجرد لعبة، لُعبتهُ المُفضلة.

كُلما مرَّ على واحد من الحاضرين بينما يمشي بينهم، كان الحاضرون ينحنون إليه إحتراماً، بل وقسراً عن إرادتهم، لا يجرؤون رفع عينيهم للتطلع إليه قبل أن يُكمل طريقه إلى مُنتصف القاعة ، حيثُ مجلسه الموقر، وكان هو يتلذَذُ برؤية هذا الخضوع له، لمجرد مشية بسيطة وخطواتٍ ضئيلة، كان كُل انحناء من كُل شخص موجود يُرضي غروره.

توقفَت قدماه أمام المجلس الأرضي التصميم، القاعة رغم كبرها وأهميتها إلا أنه لا يُوجد أي كُرسي عالٍ عن مستوى الأرض، إلا كرسيٌ واحد، وهو كرسي القاضي.

 في الواقع ليس هناك أي شيء يعلوه، وكأنهم يُذكرون أنفسهم مهما كان موقعه في هذه القاعة، سواءاً كُنتَ الظالم أم المظلوم، نهايَتُك في الأرض فلا تَتكبر..ولعل تلك الفكرة لم تصل للقاضي، أو رُبما وصلت له ولكنه لم يكترثَ لها.

صدع صوتَهُ الجهور في المكان بغلاظة وثقة 

«بِسم الله نفتتح جَلسَةُ اليوم .. الأول من مُحرم..المَحكمة النظامية.»

رفع مِعطفَهُ الثمين ليتربع على المجلس العالي بكل وقار، ثانياً احدى قدماه إلى الأعلى ومسنداً عليها كف يده المُرصع بالخواتِم النبيلة، وخاتَمه الخاص كذلك.

رخُّ البرديWhere stories live. Discover now