الثاني: ضوء أزرق.

22 2 6
                                    

تستيقظ على سرير خالي من الدمى. تهرع للجلوس وتتفحص بيديها سطحه في هلع. وتدريجيا بضوء المصباح المتدلي من السقف تلتقط عيناها صور من الغرفة الفاخرة كثيرة الأثاث والأشياء حتى كادت تشعر بضيق مساحتها رغم وسعها وتباعد أطرافها. ينخفض قلقها إذ أمِنَت أنها في غرفة والدها، وأن دُماها بالتأكيد سليمة، وإن لم تكن، ستُقطَعُ رقبة. وبذِكرها للإعدام في نفسها تذكرت الجارية المستلقي رأسها وسط بركة من الدماء، والأصوات الغريبة التي كادت تأكل رأسها؛ فينتفخ شيء في لُبِّها يشعرها بالاشمئزاز والخوف.

كانت تؤمن أن كل الأساطير المخيفة أكاذيب اخترقها القوم ليضعوا الأغلال ويمنعوا الأطفال من المغامرة، للوصول إلى الحافة لتمني الأماني، وحتى هذه اللحظة لم يزرها شكٌّ يهز يقينها. دائمًا ما كانت صورة الكبار في رأسها أنهم أناسٌ يكرهون الأماني ويصفعون أفواه الأطفال التي تنطق بأحلام وضحكات غزيرة.

ابتلعت ريقها وتراجعت متوجسة مما حولها، حتى الْتَحَمَ دُبُرها بظهر السرير. ضوء الشمس غائبٌ عن هذه الغرفة إذ لا ثغرات لتدخل منها مما زاد من سوء حالتها. الظلام، والظلال يقودان إلى ذات المكان.

تبعد يد الوالي الخرزات التي تستر المدخل ويحني رأسه ليدخل، وإذ يرى حال ابنته يهتز قلبه ويهرع إليها. تترك عنها تجمدها فور رؤيته وترتدي البكاء. تزحف في جثوها الراجف إليه. تمد ذراعيها إذ دنا ليلتقط جسدها الصغير في عناقٍ قوي. يسير بها حول الغرفة متنهدًا تارة، ومتمتمًا بالحمد تارة أخرى. وكانت تلك لها تهويدة عظيمة. يكفيها حضوره، وإسناد خدها لمَنكبه الواسع بينما تتدلى ذراعها عند نحره.

ضخمٌ يجعلها تعلو عاليًا بعيدًا عن الأيادي التي تمتد من الأرض كثيرة الظلال، طريٌّ لين كسحابة بيضاء ترتحل وحيدة في السماء وحتى إن أخفت الشمس عنها في طريقها فهي تبقى مضيئة في لبُّ الليل كالسراج. تلك هي أوصاف والدها 'أُسَيْدٍ ابن قَيْظٍ' ذي اليدين الخشنتين اللتان يمسح بهما على رأسها ولا تشعر بأي خدوشٍ تطالها منها.

تتنهد كلَّ ما شعرت به تلك اللحظة. تقرِّب وجهها من عنقه وتقول:
-لقد كنتُ خائفة.

يُقبل صِدغها طويلًا. يتمنى أن ينتزع ما رأته من رأسها بذلك، أن تغيب عينيها في السماء والحدائق التي ينشئها لأجلها، فهي خُلِقَت بينها ولأجلها. وتدريجيًا يتسرب الغضب منه، لا يستطيع احتواءه وهو يتلهف كل التلهف للإمساك بالمجرم. همس بعينين من الجمر:
-لا بأس عليكِ الآن وأنتِ بين يدي، سأقبض على الجاني وأذيقه أشد العذاب.

فتحت عينيها في جزع، رنين الجملة في أذنيها لم يكن محببًا ككل مرة، أخافها هذا التهديد كثيرًا، جعلها تعاود الارتجاف في أشد مواطن الأرض أمانًا لنفسها. ذراعاها تدفعان جذعها ليعلو؛ رأسها يقابل رأس والدها الذي أمعن فيها متفاجئًا.

السقوط من الأرضحيث تعيش القصص. اكتشف الآن