الثالث: الحوت عند كهف الأمنيات.

7 1 0
                                    


دخل الوالي 'أُسَيْدُ ابن قَيْظٍ' حجرته وهو ينفث النيران واللهب. هروبُ مجرمٍ من قبضته دون عقاب هو دليلٌ واضحٌ على الضعف الذي يتفشى في قلعته. وقف عن يمين مدخلٍ سترته الخرزات، ليأخذ أنفاسًا لتهدئة نفسه، لا يستطيع أن يقابل ابنته بوجه عابس أو بأحداث مروعة، كان عليه أن يترك كل سوء العالم عند العتبة حين يدخل عليها. ابتسم ليبعد الخيوط بيديه وهو يقول:
-لقد عدت يا قُرَّة عيني.

رآها ملفوفة بالغطاء، فاقترب منها هامسًا:
-نائمة.

تمرُّ تهويدة في رأس 'لَيَال' لم تكن إلَّا تكرارًا ل "أنتَ تستطيع فعلها أيضًا" منذ غادرت 'شَدْوَة' بنجاح دون أن تكشف. تقمصته كله، فلمَّ قد لا يستطيع هو أيضًا؟ لمَّ لا يأخذ مكانها هذا لقليلٍ من الوقت؟ استجمع شجاعته التي دسها في نفسه وابتلع ريقه قبل أن يقول:
-لستُ نائمة.

-لَيالْ!

دهشةُ والده كانت عظيمة وشديدة، واندفع فورًا عليه لينتزع الغطاء عنه انتزاعًا كأنه ملتصق بجلده القذر حتى جلس وبان رأسه بشعرٍ مبعثر، يقابل الوالي بعينين متسعتين كالتي ينظر بهما إليه، أو لم تكن مثلهما، فقد بدتا كأنها استبدلت بجمرتين.

-أين 'شَدْوَة'؟

قد زرع الوالي شيء من التهديد في نبرة سؤاله. وظلَّ 'لَيالْ' ينظر في عينيه يبحث فيهما عن شيء فقده ولم يملكه منهما، وطال صمته الذي لم يجعل إلا الخوف والغضب يعشعشان في قلب 'ابن قَيظٍ' الذي بطش بيده المخدة التي كان يتوسدها ابنه وصرخ بصوت من الجحيم:
-أجبني الآن!!

ارتجف الصغير كالورقة، وأنكس رأسه سريعًا. لم يجد ريقًا يبتلعه ليرطب حلقه الذي خدشته أيدي بناتِ صدره؛ أغمض عينيه وبصعوبة قال:
-قالت أنها ستعود.

-ألا تعلم أين هي؟!

بسرعة نفى برأسه شادًّا من إغلاق عينيه، بالرغم من كونه يعلم إلى أين اتجهت متجاهلة اللعبة التي اقترحتها وخسر هو فيها. هشاشة 'لَيَالْ' باتت بارزة، يكاد بها يهدم ما تبقى من العالم من حوله كما حدث مع نفسه التي تشققت.

ابتعد الوالي إذ لم يجد أي فائدة من البقاء واقفًا أمامه. وصرخ مناديًا بصوت جهوري:
-أيَّها الحراس!! أيها الحراس!!

جثا 'لَيَالْ' على عجلة وهو يلهث بكوته التي تخرج غير قويمة، ولم يستطع التحرر من الأغلال التي أحاطته بها 'شَدْوَة' فظل يصارع وهو يقول:
-جلالة الوالي! جلالة الوالي أرجوك!! أرجوك فأنا لم أفعل شيءً!!

لم يكن الوالي قد خرج ليأمر بحبسه أو تعذيبه، لكن رأس 'لَيَالْ' لم يتخيل أقل من ذلك بما أنه تسبب بأذى طفيف لابنته المفضلة، وإن كان هو ابنه أيضًا فهو لا يعتقد أنه تحت ذات الظل معها.

تحرر من الغطاء، وإثره سقط أرضًا تزامنًا مع عودة الوالي، لكنه لم يقترب منه واكتفى بالوقوف عند المدخل ناظرًا إليه بعينين باردتين كأن به وباء.

-ألا تعلم أين من الممكن أن تكون؟

تبعثرت نظرات 'لَيالْ' في الأرجاء للحظات، قبل أن يغلقها ويقرر الاعتراف، يقول بسرعة بشكل تختلط فيه الحروف ببعضها:
-هي.. هي في بعض الأحايين تُخبئ حقيبة هروب في الحقل، وفي أحايين أخرى تدسها في الحفرة التي تخرج عبرها من القلعة.

سمع قعر نعال الوالي تقترب حتى باتت أمامه تمامًا، فجعل ينهش شفتيه ويشدد من إغلاق عينيه مستعدًا لأي ضربة قد تأتيه، لكن عكس ذلك قد حدث. جلس القرفصاء أمامه وسأله هامسًا:
-وإلى أين تهرب؟

فتح 'لَيال' عينيه متفاجئًا، كان مستعدًا ليرى وجهًا لينًا هادئًا، لكنه كان مظلمًا جدًّا عكس نبرته التي زرعت الأمل فيه، فقفز قلبه ووَاتته حازوقة؛ أغلق فيهه بيديه وأشاح عينيه عنه ليقول عبرهما بكلمات متعثرة:
-هي.. هي تذهب لتلتقي بأصدقائها عند الجرف المطل على بحرِ السماوات.

السقوط من الأرضحيث تعيش القصص. اكتشف الآن