الخامس: فوق غيمة.

4 2 0
                                    

هي فوق غيمة، أعلى نقطة لا تلامس السماء وهي فيها. عيناها تلامسان الطيور المرتحلة إلى البعيد، تحس بريشها يلاطفهما حتى خلت السماء منها، لا أحد سواها والنجم الذي بدأ يصحو في اللبِّ بين زرقة وحمرة، والشمس الآفلة ما عادت هناك، كل هذا ولم تشعر بالوحدة بعد، ربما يعوز ذلك لكونها في أقرب نقطة إلى السماء وتوهم نفسها أنها فيها وهي لم تكن، فمن فيها لا يذوق طعم الهواء، ويضيق صدره ويفقد جسده طعم الدفء، فمن فيها هم على أعتاب الموت، التي هي أقرب نقطة إليه.

كذبة السلام التي كانت فيها بدأت تتآكل، ليس لأن السماء ذابت، أو أن النجوم هرعت بعيدًا عنها، لكنها سمعت صوت العفريت تقول:
-جررت منهم النور، لم تَذَري شيءً منها، لم تُبقي، وترجين سلامًا..

جالت عينا 'شَدْوَة' في المكان، تلفت رأسها لتبحث عن الكابوس، ولم تجده، وملمس الغيمة قشعرها وبعث في نفسها الخوف والرعب. صُبِغَ في صدرها استقباح السماء. اتكأت على يديها لتقوم، وما إن بلغ رأسها أعلى ارتفاعٍ حتى ابتلعتها الغيمة، وسُحب بساط علاء الدين منها، يتركها تسقط من عليائها، وصرصر الريح تسمعها في أذنيها تصفر وتصرخ تقول أن السماء لن تكون أرضًا لها. أحاطت ذراعيها برأسها تلهث البكوة والخوفَ.

استيقظت شاهقة على سريرها تتمسك باللحاف تأخذ الأنفاس بقوة. تركض جارية إليها وتطل برأسها فوقها، تسألها ما إن كانت بخير، وإذ تقع عينا 'شَدْوَة' عليها تتوقف شدة دخول الهواء إلى صدرها، وتلمس أمانًا قد فقدته؛ فتبكي، ووجها يعتصره الألم، يقطر منها. ترجو ألا ترحل عن سريرها، ألا تجد طريقًا إليها مجددًا، تلك السيقان الخضراء، والأصوات الغريبة والرائحة الكريهة والدهن المتدلي، والأسنان المتفرقة المعقوفة.

تبتعد الجارية عن رأسها إلى منتصف الغرفة، وتعلن بفرحٍ شديد أنها قد استيقظت من سباتها ليسمعها حارسان مدججان وقفا خلف الباب البعيد في الغرفة الملحقة، وتعود تطل فوقها لتهدئها بينما ينادى في الرواق على غلامٍ لينقل الخبر إلى الوالي وزوجه.

تُصفَعُ درفةُ الباب بالحائط. الوالي يرمل الطريق إليها دون أن يقطع النظر عنها مرتجفًا وتهتز زينته معه. يقعد على حافة السرير طاويًّا ساقًا ليقابلها جالسةً يتمايل الوهن على وجهها. تقف والدتها خلفه، شامخة، لا تميل عليها، بل لم تركض إليها كما فعل هو، هذا الفارق الشاسع بينهما جعلها تضع حواجزَ مختلفة لكل منهما.
تفرد ذراعيها لتحتضن والدها لكنها تتبادل عبارات التطييب والاطمئنان مع والدتها التي سرعان ما ابتعدت لتقعد على مصطبة النافذة مشروعة الدرفةِ دون فتح الحاجز الخشبي ذي النقوش التي يدخل منها ضوء الشمس، كانت تلك هي المشربية.

يسرح شعرها بيده، يبعده عن وجهها لخلف أذنها تارة، ويعيدها في أخرى يتلمس فيها خداها الطريان. في دقائق طوال فتح ثغره وأغلقه لأكثر من مرة جاهلًا بالصحيح الذي عليه أن يقوله. حتى تنهد وأغمض عينيه مستقرًا على أن يقول:
-أقلقتِنا، فضضتِ مضاجعنا، أنت تعلمين كم من العزة أحملها في قلبي لك، رحيلك يأخذني كلِّي نحو قيعان الجحيم.

السقوط من الأرضजहाँ कहानियाँ रहती हैं। अभी खोजें