الثامن: جدران توجب الصمت.

4 1 0
                                    

خائفة طوال اليوم، لم تسمح ليدٍ أن تسرح شعرها؛ تنتصب وتتلفت فزعة، يطول عنقها كلما أنكست رأسها متذكرة أحداث الحلم، وتنتقض لتسأل بثغرٍ راجف:
-ما كان ذلك؟!

تجيبها الجارية بأنها الريحُ العاصفة. وكما جرت عادتها الجديدة لم يدخل شيءٌ إلى ثغرها حتى تأتي والدتها لتدللها وتغرف بيديها لتطعمها، كأن هناكَ شيءً في كفها يجعل الطعام مستساغًا وإن كان أكثر طبقٍ تكرهه.
حلِّ الليلُ ولم يأتِ والدها، ولا ابن التاجر الذي انتظرته في لهفة بعد إذ أمرت الجارية بإحضاره عصرًا؛ فقد عاد الأخير إلى منزله مبكرًا، والوالي انشغل بأمرٍ بدأ يستفحل حولَ مِجَن. اعتقدت أنها لن تقدر على النوم الليلة، إلا أن يدَ حسناء واستكمال قصة الشابِّ قد تواطأ عليها فغفت، وفي لبِّ الظلمة عاشت تصرخ كأنها في جوفِ حلمٍ حيِّ يتكرر ويتكرر ولا يكفُّ يعاد إلا مكبرًّا على كل زاوية من زواياه المغطاة بالدماء والصرخات، لأنها أبت أن تقتل والدها القاعد على الأريكة، خشيت أن تكون قتلت التاجر وذلك ما حال دون ظهوره، وسيحول دون حياة والدها كذلك.

رأت الحزن الذي عاشه الشابُّ وعايشته أضعاف أضعافه، فجثت على الصخور الناتئة من أطلال مِجَنَ لا تقدر على التعبير عن ما استفحل وتعاظم في نفسها، لم تكد تشعر بانغراسها في ركبتيها إذ نقلت إلى المجلس أمام والدها. فور أن لمحت أطراف ثوبه وردائه، سألت في فتور:
-أسيبقى حيًّا إن استيقظت؟

لم يجبها الصوت، فارتجفت نفسها، وبكت وهي تصيح:
-إذًا فليأخذني العذاب ألف مرة!! فليأخذني العذاب ألف مرة!!

زلزل المكان إثر ثورتها الأشبه بالجنون، فأصبح معتمًا واستيقظت كالغريق دون أن تقتله. فورما لمحت أضواء الشموع تنير خلف ستائر سريرها ارتجفت رجفة شديدة مع كفها عن السعال.

لم تستطع حِملَ ما اعتقدته، أحست بأن الإيمان يطعن في جوفها ويستلب منها كل نور تحاول إسعاف نفسها به؛ فقامت، وأمسكت الشمعة التي بالقرب من السرير، وسارت تعرج خوفًا من الألم إلى المشربية لتحرقها، فورَ ما ازدادت النيران وتكاثف الدخان، سعلت وأسرعت تأتي بغطاء السرير لتطفئه به إذ بلغت الألسنة المنتصف قطريا. تركت الغطاء يفترش الأرض، ودفعت الخشب الهش حتى تشكلت فتحة خرجت منها كصغير غزالٍ خرج من رحم والدته.

سارت تتخفى بظلمة المكان وقلة المشاعل المضاءة، وبأذرع الشجيرات في الحديقة الحجرية حتى وصلت إلى غاب الصنوبر. الجذوع ضخمة جدًا كأنها بألف عام.
تصل إلى أعظم شجرة، التي تسمى بأم الغاب، عند جانبها فتحة قد أزيح الحجر الكبير عنها وترك بجانبه، لم تعط لذلك أهمية، تنزل السلالم حتى بلغت نفقًا يمتد طويلًا أمامها، لم يُخفها وحشته أو ظلمته، كانت لا ترى إلى أمرًا واحدًا يجعلها تنسى التفكير في صغائر الأمور في حضرته.

خرجت من فتحة أخرى بتسلق سلمٍ خشبي، وحين أطلت منها وجلست على حوافها أسلمت لشيء يسير من الراحة حتى تكمل سير المسافة الشاسعة التي بقيت لها، وفيها كانت تكاد تشهق بكوة جسيمة، لا لهثات خفيفة من سير طويل.

السقوط من الأرضWhere stories live. Discover now