العاشر: آريان.

5 1 0
                                    

كان هناك فتى يتجول في قريته كل بكرة، يحمل بيده قطعة مختلفة من الأرض في كل مرة، غصنًا، وردة، حجرًا أو تربة طينية أعجب بملمسها. حينما يعود إلى بيته الذي كان كوخًا ذا سقفٍ من قشٍّ كانت والدته تستقبله بيدين حنونتين، تمسح بقطعة قماشٍ عنه الأوساخ التي طالته خارج البيت.

اعتاد أن يجتمع بأصدقائه عند بئر في الضواحي في حين، وفي آخر يبقى وحيدًا يحفر الأرض، أو يتدلى جذعه فوق البئر ويرطن فيه بصوت نشز، أو رقيق نَعِم حتى يأتي بالغٌ بحماره المحمل بالأوعية متفاوتة الأحجام يملأها بالماء، وهو يراقبه حتى ينتهي دون أن يساعده، وإن طلب سيتعذر بكونه طفلًا صغيرًا، فكيف يحمل شيءً ثقيلًا كقربة ماء؟!

اعتاد الانتظار قليلًا دون أن يصيبه الملل، لكنه اليوم انتظر حتى أصابه ذلك. كان وحيدًا تمامًا، ولم يستطع أي مما اعتاد عليه أن يهدهد عقله ليغفل عن مضي الوقت البطيء؛ فاندفع خلف رغبته بالتغيير. يتوغل خارج الأماكن التي اعتاد اللعب فيها مع رفاقه. غاب جسده بين شجر الصنوبر والسنديان اللائي تحتضنهن الشجيرات المزهرة حتى تلاشى عن سمعه تغريد العصافير، وأزيز الحشرات، دخل جادةً صامتة لم يكن فيها أي كائن. حشرجة دهسه على الحشائش واضحة. وبالرغم من أن الأرض مستقيمة كما يرى في عينيه كان قد شعر بأنه يصعد مرتفعًا فكاد يميل إلى السقوط على ظهره في كثير من الأحيان.

لمح عن يمينه كوخًا بارزًا، فانعطف وأزاح شجيرة التوت عن طريقه. أبهره مظهره المميز، منحوت بشكل شاذ. غمرته حماسة مفاجئة، هو لربما وحيدٌ هنا، أمام اكتشاف جديد لا يعرفه أصدقاءه، امتلأ قلبه تمامًا وانتفخ. سيتفاخر بمغامرته أمامهم.

دنا بخطا حذرة، وقال:
-مرحبًا، أيوجد أحدٌ هنا؟
كرر نداءه وانتظر إجابة لم تصله أبدًا، حتى مع استدارة كاملة حول الكوخ.

تجول حول التِراس الممتد إلى العتبة. لمس كرسي متأرجحًا تركت وسادة مزخرفة فوقه، وطاولةً أمامه سترها غطاء أطرافه من الدانتيل. أخيرًا وقف أمام الباب وطرقه ثلاثًا، وعند الأخيرة حاد عنه إذ انفرج فرجة لم يطل منها أحد عليه. استشف أنه كان مفتوحًا بالفعل. فدلف وهو يتلفت ويردد سؤاله عاليًا.

-أمن أحد هناك؟

كان الكوخ من الداخل غرفة واسعة بدرج خالي الحواجز يؤدي إلى السقيفة، وغير ذلك كان خاليًا تمامًا، لا مدفئة، لا مطبخ، لا باب يؤدي إلى مخزن أرضي، والشمس حتى لا تستطيع أن تدخله من النافذة الوحيدة التي رمل إليها ووجد ظلال الأشجار تقابل عينيه.

تمتم: لا أحد يعيش هنا. فرت بسمة، وتقفاز في طريقه لصعود الدرجات. وجد السقيفة شديدة الظلمة، فزفر أفُا رنانة وعاود النزول. قرر أنه حين يعود إلى منزله سيجلب معه شعلة. خرج من الكوخ إذ كان وسط التِراس الواسع بقعة سيجت بسياج حديدي أضيفت عليه بعض الزخارف. تمتم: ربَما كانت لإشعال النار. فقد كانت ممتلئة بخشب عالي الجودة، أمعن النظر فيها لفترة، وفجأة أمامه اشتعلت نارٌ عظيمة، وحلَّ ليلٌ دامس من حوله؛ فزع واهتز جسده يتلفت كثيرًا ولا يزيح عينيه بالكامل عن النار التي بلغت السماء ثم انخفضت أكثر وأكثر بسرعة. أنفاسه ضاقت، وقفز يركض بعيدًا عن التِراس إلى ظلمة الديجور الغريب، حلَّ الليل في غمضة عين. تخدش ثيابه الأغصان، وتخرج منه نياحة العجز إذ علق بين الأجْمَة الكثيفة.

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Dec 02, 2023 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

السقوط من الأرضWhere stories live. Discover now