الفصل الثاني

26.6K 425 4
                                    

في مكان اخر داخل سرايا الجبالي .....
دخلت شمس الي احد الغرف الصغيرة نسبيا والتي هي غرفتها منذ وفاة والدها بعد ان رفضت السكن في الملحق الخاص بعائلتها التي ذهبت بلا عودة .....
هذه الغرفة اصبحت ملجأها الوحيد في هذا المنزل الواسع بأثاثها البسيط من فراش ومكتب وخزانة ملابس ومقعد وتلك الحقيبة الخاصة بالسفر والتي حملت فيها ملابسها وبعض الأشياء الغاية علي قلبها الباقية كذكري من عائلة اصبحت في خبر كان ....
بخطوات ثقيلة تقدمت من خزانة الملابس تحمل ثوبا قطنيا واسعا بأكمام طويلة ولون ابيض تنتشر عليه الورود الزرقاء قربته من انفها تستنشق رائحة والدتها فيه ودموعها التي كتمتها داخلها امام الجميع سالت بصمت صانعة اخاديد من الكحل الأسود ابدلت ملابسها بهذا الثوب ليحتضن جسدها فيعطيها بعض الدفء الخادع كأن والدتها تضمها....
تمددت علي فراشها بتعب وارهاق تحتضن نفسها وعقلها يعيد اليها مشهد مر عليه يومين ونصف بالضبط......
مشهد لوالدها ملقي علي الأرض بينما الدماء تسيل من جسده مكونة بركة من الدماء...
دماء لوثت جلبابه الرمادي عند القلب وهي تقف بعيدا بقلب خافق تنظر الي والدتها القريبة منها التي تمسك السلاح بيدها المرتجفة وعينيها متسعتان كما ابنتها وكلتاهما تنتفض قبل ان تفقد الوعي بجوار جثة والها واخر ما التقطه انفها هو رائحة الدماء.....
وعلي الرغم من انها مجرد ذكري الأن لازال جسدها يرتجف بعنف  كما لو كانت ورقة في مهب الريح وقلبها يخفق كأنما لازالت عالقة هناك حيث الموت يطوف فاردا جناحيه  ......
اغمضت عينيها بقوه وقد ترقرقت الدموع فيهما واحتشد الألم علي أطرافهما لكنها اقسمت.... اقسمت بأنها ابدا لن تبكي......
ليس عليه...
ليس بعد ما فعله....
والدتها التي ذهبت بعيدا منبوذة كأنها الثعلب الذي قتل الحمل الوديع وهو ابعد ما يكون عن حمل او وديع فقط والدتها هي من تستحق دموعها....
وتستحق ان تبقي  صامده لأجلها .....
استقامت عائدة الي خزانة الملابس احضرت حجاب رقيق تحجبت به واخرجت وشاح صوفي ناعم كان المفضل لوالدتها فرشته علي الأرض ووقفت تستعد للصلاة...
صلاة بكت فيها مع كل سجود تدعوا الله ان يحمي والدتها...
ان تكون بخير في المكان الذي هربت اليه...
تدعوه ان يجمعهما يوما...
تدعوه ان يعطيها القوة لأنها اضعف مما تحاول اظهاره...
حينما انهم الصلاة حملت وشاح والدتها تعيده الي الخزانة مع الحجاب وقد تسلل شعور بالأمان الي قلبها لكن الحزن لازال يؤرجحها علي اجنحته والألم يتردد كصدى في صدرها يمزقه.....
اغمضت عينيها تكتم المزيد من الدموع التي تود الهبوط لتعطيها بعض الراحة....
لكنها قررت  ستكون اقوي من القوة بحد ذاتها لن تسمح للألم او الحزن و الضعف بالسيطرة عليها ستحمي نفسها ستكون السند الذي ضاع منها  ......
سوف ترفع رأسها بشموخ فهي عالية...
هي شمس....
فتحت عينيها فجأة و بقوه وقد تحجرت الدموع فيهما تماما حتي اصبحت عيناها تلمع كما لو كانت ماسات براقة بينما نظرات العزم والتحدي والقسوة تطل منهما بوضوح جلي وهي تقسم انها ستكون بخير ولسوف ترمم روحها بنفسها سوف تحقق ما وعدت والدتها به .....
سوف تكون فخرا لوالدتها كما كانت تتمني....
دقات هادئه وناعمه علي باب غرفتها اخرجتها من شرودها واعادت الضيق اليها انها تتمني العزلة .....
وقت لنفسها وقت بلا تصنع...
ازداد غضبها وضيقها حينما دخلت صاحبة الدقات و لم تنتظر إذن للدخول مما جعلها تنظر اليها شذرا وعينيها تقابل المحيا الهادئ الناعم لإبنة عمها عبد الله الرقيقة مها  .....
دوما كانت مها اقرب صديقاتها حتي العام الماضي فقد ابتعدت عنها عن قصد.....
فقد تغيرت الكثير من الأشياء في هذا العام  ....
لكن مها لم تيئس من محاولة اعادت الود بينهما وها هي تلتصق بها منذ وفاة والدها وكل ما تفعله هو البكاء كأن الفقيد هو والدها هي....
مها الصغيرة الحساسة التي تبكي بقوة و حزن كأنها طفلة....
مها التي هي النقيض منها فهي شابة بروح طفولية بينما شمس هي جسد فتي وروح شائخة.....
نظراتها كانت تخبر مها بوضوح انها لا تريد اي زيارات ولكن مها تجاهلت نظراتها واقتربت منها تضمها تحاول ارسال بعض الدفء الي شمس والكثير من المواساة فهي  تعلم جيدا ما تخبئه شمس داخل قلبها الصغير وما تخفيه خلف حجرية عينيها تعلم كم هي متعبه .....
وكيف لا تعلم وكيف لا تشعر بها.... 
اليست شمس توؤمها التي لم تكن تفترق عنها ابدا....
  اليست كاتمة اسرارها وصديقتها الصدوق......
اليست شمس.... 
وهذا يكفي ليجعل قلبها يحترق خوفاً مما هو قادم  ..........
فشمس منذ عام كامل تختلف يوما بعد يوم حتي اصبحت كصنم بشري او شبح..
شبح غير مرأي لكن غضبه كالطوفان القادر علي تحطيم كل شيء...
لقد ضاعت شمس...
لكنها سوف تكون بجوارها مهما حدث بإرادتها او بدونها...
اخرجتها شمس من شرودها وافكارها بصوتها الخالي من الحياة بارد كشظايا زجاج منثور علي الثلوج...
:- خلاص يا مها بجي...بطلي نواح انا منجصاش صداع  ...... لو عاوز تنوحي نوحي بعيد عني اياك منجصاكيش انتي كمان نجصة بلاوي يا اختي.... روحي شوفي وراكي ايه .
ابتعدت مها عنها متقبلة كلماتها القاسية وهي تعلم انها تريد الانفراد بنفسها...
تنهدت مها بضيق ثم قالت بحزن عليها اكثر من حزنها منها...
:-انا الي جولت اجي اطيب خاطرك يا شمس .....دا انتي اختي وصاحبتي والي موعاش علي غيرها.... انتي الي من دمي يا شمس مجدرش اغيب وجت ما تحتاجيني... بس انا مجدرة الي انتي فيه... انا مش هزعل منك انتي خيتي الي هستناها تجي ترمي همومها في حضني زي زمان ...  هروح دلوكت لكن هجيكي تاني .....
:- ملكيش صالح بيا يا مها انا لا عاوزة حد يواسيني ولا احزنون ابعدي عن خلجتي السعادي وسيبيني في حالي شاكرين افضالك يا اختي ومتجيش تاني ويلا اخرجي بره انا عاوزه انام منجصاش هم فوج همي .....
ارتسم الحزن مضاعفا علي وجه مها من طريقة ابنة عمها القاسية لكنها قالت بتسامح...
:- مهجيش يا شمس...  هستناكي تجيني لما تحتاجيني.. وهفضل جمبك وجت ما تحتاجيني...
انهت مها كلماتها ثم خرجت بصمت من الغرفة مغلقة الباب خلفها تاركة شمس مستلقية علي الفراش يحيطها الحزن مخلوطا مع الذكريات السوداء والشعور بالإختناق وهي تري حياتها قد انقلبت مئة وثمانون درجة....
********************************************
في مكان اخر ومحافظة اخري تبعد اميال عن منزل الجبالي كانت تلك السيدة  التي بالكاد تجاوزت الستة وثلاثون من عمرها ترتجف من التعب والإرهاق بينما تصعد درج البناية المتهالكة التي وصلت اليها بعد سفر طويل ضمت حقيبتها الضئيلة الي صدرها كما تضمها عباءتها السوداء ووشاحها الأسود....
تلك الحقيبة بها كل ما تملك الأن...
والعباءة والوشاح الأسود هم الأمان الوحيد المتبقي لها....
تساقطت قطرة من الدموع من عينيها ما ان فتحت باب الشقة الصغيرة القابعة في الطابق الرابع من البناية القديمة.....
اغلقت الباب خلفها ثم ألقت حقيبتها علي الأرض بينما ينزلق جسدها ليجاور الحقيبة في وضع الجلوس قدميها ممدودتان امامها وظهرها مستند الي الباب وعينيها شاخصتان في الفراغ لا تتوقفان عن زرف الدموع كصنبور معطل.....
لقد انتهي الكابوس يا سمية....
ترددت الجملة داخل خلايا عقلها كنعيق غراب مزعج لكن منبه....
استندت الي الباب ووقفت متجهة بخطوات آلية الي احد الغرف والذكريات تنفجر داخل رأسها كألف لعبة نارية كأن خلايا عقلها واحسيسها المخدرة قد استعادت حياتها اخيرا ليزحف الألم داخل عروقها حارقا يحارب سيطرتها التي تمنعها عن الصراخ والعويل لأيام وليال ما عانته ليس بقليل...
  القت بنفسها علي السرير الوحيد في الغرفة التي دخلتها وكتمت وجهها في الوسادة صارخة بعنف قبل ان يتحول صراخها لبكاء وشهيق مؤلم تردد صداه داخل الغرفة رغم محاولتها كتمانه....
وكيف تكتم ما فاض به القلب والجوارح...
لا تعلم متي توقف البكاء وتسلل النوم اليها ليخدر عقلها مرة اخري لتغرق اخيرا في دنيا معتمة لا تزينها الاحلام...
دخل الي الغرفة المعتمة يترنح مترنما بأحد الأغنيان الشعبية وصوته الأجش يصنع نشاذا مؤلم للأذن خاصة مع السكون المحيط بالمكان فالساعة تجاوزت الخامسة فجرا...
خطواته ثقيلة متعثرة تضرب السكون كما الرعد حتي وصل الي غرفته او ما اعتقده غرفته...
فتح الباب وجسده يزداد ثقلا وترنحه يزداد وعينيه تلمع بشدة ما ان وقعت علي الجسد المسجي علي الفراش كفراشة ناعمة...
خطوة ثم اخرى حتي وصل اليها امتدت كفه الي جسدها الحليبي يلمس نعومته التي حرمتها عليه شهورا يلمسها بجشع والرغبة في عينيه تزداد غير مبال بصرخاتها ولا انتفاضاتها الخائفة ولا بنظراتها المرتعبة....
تلاشت صرخاتها مع الهواء الذي حرك ضفائر سوداء تركض صاحبتها ناشرة ضحكة طميلة في الأجواء كأنها تنثر عطرها لتزين ارجاء المنزل الذي عشعشت فيه الكئابة لكن الضحكات توقفت فجأة وكأن كل الكون صمت تماما ومع الصمت كانت تقف بصمت وعيون متسعة قابلتها علي الجهة الأخري عيون تشبه عيونها وتحتوي علي نفس النظرة التي تخلط الحيرة مع الرعب وفي الوسط جسد مسجي علي الأرض ومن حوله خيوط من الدماء بدأت بالإنتشار كأنها ايدي تسعي  لخنقها وفي لحظة كانت الفتاة الشابة صاحبة الضفائر السوداء تفترش الأرض هي الأخري مغمضة عينيها عن العالم القاسي الذي تعيشه..
صرخت فزعة وكفيها ترتفعان كأنها تحاول امساكها قبل ان تقع علي الأرض لكن زراعها لامست الهواء وعينيها فتحت لتسقط نظراتها علي الغرفة الغريبة..
لقد كان كابوس. 
لا كان واقع عاشته واقع اقصي من اي كابوس...
فالكابوس له نهاية...
تعالت شهقاتها في بكاء عنيف وشفتيها تردد اسم غال علي قلبها...
اسم تركته للمجهول خلفها حماية لها ولنفسها...
.............. شمس.........

شمس... (((((( مكتملة)))))) Where stories live. Discover now