3_ سجين يبحث عن الحرية

12.3K 480 7
                                    

على عكس الليلة الفائتة, لم تنم فيلى جيدا حينما أوت الى الفراش ذلك المساء. اخذت تتقلب وتتلوى لأجل طويل الى أن سمعت دقات الساعة من بعيد تعلن الثانية صباحا .
تأوهت, لن تكون مناسبة لأى شئ في الصباح إلا إذا حصلت على شئ من النوم. لكن البقاء في السرير, لن يساعدها على مايظهر.
كلما اغمضت عينيها بشدة أكثر محاولة اجبار نفسها على النوم كلما ازداد قلقها وأرقها.
رمت الأغطية عنها, ارتدت الروب, دست قدميها فى الخف ثم تقدمت نحو النافذة لتزيح الستائر الثقيلة وتتطلع الى الخارج .
كان الليل شديد العتمة والارض التى تحيط بالقصر مغطاه بظلال قاتمة.
وارتجفت اوليفيا حين وصلت الى هنا, أحست بحسد عميق لدانيال ثورب لكونه محظوظا بالعيش فى مكان كهذا .
وبعد يومين فقط, لم تعد واثقة ...فمكان بهذا الحجم يحتاج الى عائلة كبيرة لتملأ غرفها وتعطيها جو الحياه والبهجة.
أما لرجل وحيد فالحياة ليست سعيدة الا اذا كان يتمتع بالحياة كناسك. ربما لا يكون الوضع هكذا خلال الصيف, حين يفتح القصر أمام السواح والزوار ويتجول الناس فيه بالمئات يوميا ..على عكس ما يشهده فى فصل الشتاء من وحشة وجمود .
نظرت الى خارج النافذة ثانية, لتلاحظ أن بضع رقع من الثلج بدأت تتساقط متطايرة من كل اتجاه.
وفجأة, بدا لها أن شيئا يتحرك فى الخارج, استرعى اهتمامها. حدقت جيدا لترى ما هو , وأخذت تمعن النظر فى الظل المعتم أمام مجموعة شجيرات كثيفة..انها واثقة من رؤيتها لشئ ما...أو شخص ما...يتحرك هناك .
واتسعت عيناها بحذر لقد قال دانيال أن القصر يتعرض أحيانا للمخربين لكن هذا يعنى بعض الأولاد أو المراهقين وهؤلاء لن يتجولوا في الثانية صباحا وفى مثل هذا الصقيع القارس .
إذن من يمكن أن يكون متربصا هناك في مثل هذا الوقت من الليل؟ أهو لص؟
عضت فيلى شفتيها توترا..ماذا يجب أن تفعل؟ أفضل شئ ,قررت وهى ترتجف أن تتأكد أولا أنها لا تتخيل كل شئ . فمن الصعب أن ترى من هذه المسافة وستحصل على رؤية أفضل من إحدى نوافذ الطابق الأرضي . وإذا تبين أن عينيها تتوهمان , فستجد المطبخ في طريقها لتحضر لنفسها شرابا ساخنا قد يساعدها على النوم الذي طار عن أجفانها .
الممر في الخارج لم يكن مضاء لكن بوجود النوافذ الطويلة على إحدى جوانبه لم يكن معتما جدا . وبحذر...تقدمت إلى السلم .. ونزلت على مهل , ثم اتجهت نحو غرفة الاستقبال الرئيسية حيث سيتاح لها من هناك مجال للرؤية الجيدة لما يجرى في الخارج.
لم تسمع حتى الباب الذي انفتح خلفها بهدوء ..ولا كان لديها فكرة أن شخصا ما يقترب منها حتى حطت يده بخفة على كتفها.
على الفور اقشعر بدن أوليفيا وأطلقت صرخة حادة من الخوف والذعر..وطار قلبها رعبا وهى تلتفت لكنها شاهدت بريق العينين اللتين أصبحتا مألوفتين لديها.
سألها دانيال بحدة :
- ماذا تفعلين هنا في الظلام وفى هذا الهزيع الأخير من الليل؟
ابتلعت ريقها وقالت بصعوبة :
- ظننت..أن..ظننت أنني رأيت شخصا يتحرك في الخارج..في الحديقة.
اشتدت قبضة أصابعه على كتفها تحفر لحمها.. ولم يبد أنه يعي ردة فعلها المتألمة وسأل بحدة
- متى؟
- منذ دقائق ..لم أستطع النوم فوقفت قرب النافذة وكنت واثقة من أنني رأيت شيئا في الخارج ..فقررت أن أنزل الى هنا لالقاء نظرة قريبة لأرى إذا ما كنت محقة .
- وماذا كنت تنوين أن تفعلي إذا كنت محقة؟ أن تتعاملي مع الدخيل بمفردك؟
- حسنا..أنا لم أفكر إلى هذا الحد ..فعلى أي حال قد أكون مخطئة فالسماء مثلجة ومن الصعب الرؤية بوضوح وربما تخيلت شيئا ما.
- أبقى هنا..سأذهب لأتأكد وأستجلى حقيقة الأمر.
- أفضل المجئ معك اذا لم تمانع فالمكان مخيف قليلا هنا لأبقى وحدي.
سخر بلطف :
- إذن تكشف الآنسة أوليفيا ليندن عن المزيد من أسرارها إنها تخاف الظلام. ابقي معى اذا شئت لكن تأكدي أن تبقى ورائي ولا تحاولي أن تكوني بطلة .
- لا تقلق ..لن أفعل .
لحقت به عبر ممر جانبي أوصلهما إلى باب يفضى إلى الخارج .
فتحه دانيال دون صوت ثم خطا إلى الخارج ..لفت فيلى روبها بشدة أكبر حولها مع هبوب ريح ثلجية ثم أطلت على الخارج بحذر.
ولعدة لحظات لم تستطع رؤية شئ عدا نتفات الثلج الأبيض المتطاير ثم مدت يدها لتلمس ذراع دانيال وتقول همسا :
- هناك .
كانت تعلم أنها ليست مخطئة وأن هناك بكل تأكيد شيئا ما يتحرك قرب الشجيرات إلى جانب المرج .
وأحست بدانيال يتصلب وهو يحدق إلى الظلام لكنه بعد لحظات استرخى ثانية ثم أطلق صفيرا منخفضا .
قفزت فيلى إجفالا حين غير الشكل المتحرك اتجاهه وتحول نحوهما ثم أطلقت ضحكة منخفضة متواصلة حين قفز الشكل نحوهما ثم أطلقت ضحكة هستيرية منخفضة متواصلة حين قفز الشكل المألوف أمامهما فوق الثلج الذي أخذ يتراكم .
- انه أحد الكلبين .
تجاوز الكلب وراح وبره المبلل يلامس يدها ثم توجه الى الممر وسرعان ما اختفى .
أقفل دانيال الباب وأحكم الرتاج قائلا :
- انه بيوولف ..غالبا يتأخر فى الخارج ليلا على عكس بيوتى الذى يحب البقاء فى المنزل ويقنع بأن يقضى معظم وقته بالداخل يقضم المكان ويقطعه لكن لبيوولف رغبات بدائية أكثر وهذا ما يجعله لا يهدأ ويمضى معظم وقته يجول فى الأراضى المحيطة بالقصر .
تنحنحت أوليفيا لتجلو حنجرتها بقلق وتقول :
- ربما يجب أن ....قد تكون فكرة جيدة لو تأتى له بكلبة ..عندها لن يعود..محبطا هكذا ..وأظن من المفيد جدا أن تولد جراء مؤصلة .
رفع حاجبه ورد بصوت منخفض :
- اقتراح مثير للاهتمام وأنا واثق من أن بيوولف سيكون وراء هذا النسل مئة بالمئة ..لكن ما قد نستفيد منه من بضعة جراء لن يكون له فارق كبير لموازنة القصر ثم قد يقع ماكومبر مغشيا عليه لو عرف أننى أنوى فعل شئ كهذا .
- أظنك على حق وعلى بيوولف المسكين أن يستمر فى المعاناة والسير الطويل .
ابتسم دون توقع :
- سيره الطويل ليس دائما دون فائدة ...الكثير من الناس هنا لديهم كلاب اناث مستعدات لأن يحملن بجراء كبيرة الحجم .
ضحكت فيلى :
- أنت محظوظ لأنهن لم يحاولن الزامه بلعب دور الأبوة .
أطلقت أوليفيا تثاؤب وأكملت :
- الأفضل أن أعود الى السرير..فالوقت متأخر جدا .
- انها حوالى الساعة الثالثة صباحا .
لاحظت أوليفيا أن دانيال مازال يرتدى كامل ثيابه فبادرته بالسؤال :
- وأنت لم تدخل الفراش بعد..هل تبقى ساهرا الى هذا الوقت المتاخر دائما ؟
بدا أن عينيه زادت لمعانا وقال بلهجة ذات معنى :
- ربما أنا مثل بيوولف ...ربما أعانى المشاكل من رغباتى البدائية الخاصة .
للحظة توترت أعصاب فيلى حذرا ..ثم أنقذها تفكيرها السليم فأطلقت شهقة عدم تصديق منخفضة وقالت :
- ومن تظن نفسك تخدع ؟ أنت اللورد كاردوغان ...وتعيش فى هذا القصر الرائع ...وأنت أبعد كثيرا من أن تكون مفلسا ..على الرغم من الفواتير التى تستمر فى الشكوى منها..ثم أنت لست بالرجل البشع .
ان رجلا بمثل هذه المؤهلات لابد أن يعد صاحب حظ منكود اذا لم يكن حوله سرب كامل من النساء يتبعنه ويجرين وراءه حيثما اتجه .
متأخر جدا أدركت أنها تخوض فى أمر شخصي عميق وليس من حقها أن تقول شيئا كهذا له ..وبارتباك أرسلت نظرة سريعة نحوه لترى ما اذا كان غاضبا لكنه لم يبد منزعجا بل كان ينظر اليها مفكرا الأمر الذي جعلها تحس بالارتباك والتوتر أكثر من انفجار غضبه .
وأخيرا علق بخشونة على كلامها بالقول :
- أنت حقا تؤمنين بمبدأ أن تقولى ما يجول فى خاطرك ..ألست هكذا ؟
- آسفة لو أغضبتك .
هز رأسه :
- لكنني أحب الصراحة ..وستندهشين كم هي نادرة ...الكثير من الناس يغيرون تصرفاتهم فور أن يكتشفوا أن للمرء لقبا يفرض عليهم هالة من التهيب والاحترام .
ردت أوليفيا على الفور :
- هذا هراء ! أعنى...أن مجرد كونك لوردا لا يجعلك هذا أفضل من غيرك .
- لا هذا صحيح .
هذه المرة بدت التسلية في صوته ,فاحمر وجهها ...إنها بكل تأكيد تكرر قول كل ماهو خاطئ الليلة ! لسبب ما يثير هذا الرجل الجانب الوقح من شخصيتها ربما لانهما مازالا واقفين فى العتمة وهذا الأمر يجعلها تقول أشياء لا يمكن أن تقولها لو كانت ترى وجهه بوضوح .
تقدم دانيال منها قليلا فأحست بقشعريرة .. ماذا الآن ؟ لن تستطيع معرفة شئ عن هذا الرجل الذي لا يمكن أن تتكهن بما يفكر .
لم يحاول حتى أن يلمسها , فأخذت تسترخي .لا حاجة للذعر ..لن تواجه مثل هذه المشاكل .
رجل مثل اللورد لا يمكن أن يهتم بامرأة مثلها . لن تستطيع حتى أن تتصور ما هو ذوقه في النساء . شخص مثقف مثله ,متحذلق ,مجرب كثيرا ,شخص مثله ,لابد وأن يكون قد أكتشف كل الحدود وخبر كل الألاعيب التي تتمتع بها النساء مع الرجال .
ربما لأنها أقنعت نفسها بالأمان جاءت كلماته صدمة لها وهو يقول :
- بما أنك بدأت بالصراحة الليلة ..ربما تعطيني ردا صادقا على سؤال بسيط ...أترغبين في الذهاب معى إلى الفراش أنسة أوليفيا ليندن ؟
ردت مصدومة وبكل اباء وسخط :
- بالطبع لا !
لم يبد عليه الغضب أو خيبة الأمل بل هز كتفيه قائلا :
- لم أتوقع منك قول نعم لكن اذا غيرت رأيك دعينى أعلم ...عمت مساء .
صاحت به :
- هاى...انتظر لحظة ! لا يمكنك قول شئ كهذا لى ثم الانصراف ببساطة .
- لم لا ؟
- حسنا ..لا يمكنك .
ارتفع حاجباه قليلا وقال :
- طرحت عليك سؤالا منطقيا وأجبت عنه ماذا هناك بعد ؟
- لم يبد ما طرحته منطقيا لى !
- اذن لابد أن حياتك كانت منزوية بشكل متطرف . أجد هذا أمرا صعب التصديق كما أجد من الصعب التصديق أن أحدا لم يطلب منك هذا من قبل .
كانت فيلى ممتنة لعدم وجود نور يكفى ليرى الاحمرار الشديد الذى غطى وجهها وقالت :
- لم أقل هذا ...لكن الأمر ...فقط..أننى .. لم أتوقع سماع هذا منك .
- تعنين أن رجل مثلى لا يجب أن يرغب فى مثل هذه الأشياء ؟
وكأنها أصابت وترا حساسا في أعماقه فسألته محتارة :
- ماذا تعنى برجل مثلك ؟
أجفلت أوليفيا لتغير مزاجه الذي بدا في قوله :
- لا يهم ..انسي الأمر ..يا الهى ! اننى بحاجة الى شراب ساخن .
- وأنا كذلك بحاجة الى شراب ساخن قبل العودة الى النوم .
- ماذا تريدين ..قهوة ؟
- لا ..كنت أفضل الكاكاو مع الحليب الساخن .
نظر إليها لحظات ثم القي رأسه إلى الخلف وانفجر ضاحكا ...
رد فعله كانت غير متوقعة ودفعتها إلى النظر إليه بقلق .. وكرر كلامها :
- كاكاو ساخن ؟ حسن ..اذا كان هذا ما ترغبين به.
أمسك ذراعها لتجد نفسها تجرى معه في الممر وهى تسأل :
- إلى أين سنذهب ؟
- إلى المطبخ طبعا .. عرضت عليك ليلة رومانسية ونسيان الهموم في فنجان قهوة لكنك تفضلين كوبا من الكاكاو بالحليب الساخن ..إذن هذا ما يجب أن تحصلي عليه .
أخيرا فتح دانيال الباب وأدخلها ثم أضاء المصابيح .رفرفت عيناها أمام النور الساطع , ثم ارتفع جفناها إلى الأعلى بدهشة . المطبخ ضخم جدا ! الأواني والأدوات النحاسية كانت معلقة على الجدران التي ركزوا أمام إحداها أفرانا ضخمة, سطوحها نظيفة لا لطخة عليها .. على الرفوف أدوات طهي أصغر حجما والكثير من المعدات الحديثة غسالات صحون وأفران مايكروويف آلات كهربائية من كل صنف ..بدا لها المكان مجهزا بما يكفى ليكون مطبخا تجاريا ...
فقالت معلقة :
- إما أن موظفيك يأكلون كثيرا ..وإما انك تستقبل نصف سكان الجوار على العشاء كل ليلة ! بمساعدة كل هذا تتمكن بسهولة من إطعام الجيش .
- نحن نستقبل الناس هنا على أساس مهني وهذا جزء مهم من دخل القصر . مختلف أنواع المؤسسات والمنظمات التجارية والصناعية تتصل بنا وتطلب تنظيم مختلف أنواع الحفلات لها وعادة ما تستخدم القاعة الكبرى , إنها موقع ملائم وهذا ما يناسب جيدا الشركات الأمريكية وإذا كانت الحفلات حميمة أكثر وشاءت الشركات استقبال بضع زبائن مهمين لها نستخدم غرفة الطعام الصغيرة ليس لها نفس الجو الفخم الذي للقاعة الكبرى طبعا لكننا مع ذلك نستخدم فضيات العائلة ونطلب من ماكومبر العناية الفائقة بالضيوف الذين ترغب الشركة المضيفة في أن تؤثر فيهم .كل هذا يعمل بشكل مكتمل ومرضى.
- وهل تتمكنون من طهي الطعام وتقديمه بمفردكم ؟
- هذا يتوقف على عدد الضيوف ..إذا لم يكونوا كثر تستطيع السيدة ماكومبر أن تتدبر أمر الطعام مع مساعدة من العمال نصف دائمين وإذا كانت المناسبة كبيرة يصبح من السهل أكثر وأكثر اقتصادا أن نستقدم من يقدم الطعام من الخارج .
نظرت إليه أوليفيا مفكرة ثم قالت :
- لابد أنه شعور غريب أن تتقاسم منزلك مع الكثير من الغرباء .
رد مقطبا :
- كاردوغان هال ...ليس منزلي .
- هذا غريب ..أنت تعيش هنا ...أليس كذلك؟
رد باقتضاب :
- ليس بمحض اختياري ...أين هو الكاكاو اللعين ...
لاحظت أوليفيا وجود الكاكاو على أحد الرفوف داخل الخزانة :
- انه هناك..
تقدمت نحو الثلاجة لتجد بعض الحليب ,ثم أحضرت فنجانا وصحنا وسألت :
- أتريد القليل ؟
تجهمه كان ردا كافيا ,فصبت الحليب في الإبريق لتسخنه بينما وضع دانيال إبريقا أخر ليحضر لنفسه القهوة..وحين انتهيا صب كل منهما لنفسه فنجانا وجلس يرتشفه ,ثم نظرت أوليفيا إليه بفضول وهى تسأل :
- ماذا عنيت بقولك إن القصر ليس منزلك ؟
- ما يعنيه بالضبط . ظننتك تعرفين كل شئ عن تاريخ عائلتنا ..عائلة ثورب هي الموضوع الاساسى للشائعات هنا . ما على سوى أن أعطس ويعرف الجميع بهذا بعد ساعة .
- هذا لأنني أسكن بعيدا ... ونحن نسبيا جدد على المنطقة فوالدتي لم تسكنها سوى منذ سنتين وجئت أسكن معها بعد وقت قصير وفوق كل هذا أنا مشغولة بإدارة وكالتي بحيث لم يكن لي الوقت الكافي لأهتم بالأخبار والشائعات المحلية ...لكنني ..طبعا..أعرف المأساة المؤسفة التي حلت بشقيقك مؤخرا .
أخذ دانيال يقلب فنجان القهوة الساخن بين راحتيه للحظات ثم قال بحدة :
- ليس مؤخرا ...حصل هذا قبل ستة أشهر ...مع أن الوقت اللعين يبدو لي عمرا كاملا .
قالت أوليفيا بتعاطف لطيف معه :
- أكان حادثا مريعا ؟
- ذلك الأبله الشاب ! رمى بنفسه إلى التهلكة بسبب عمل خيري سخيف !
- لم يكن يعلم أن شيئا سيحدث وأن المظلة لن تنفتح في الوقت المناسب .
- لم يكن من حقه المخاطرة بحياته هكذا ! ولأجل ماذا ؟ ليس فقط لأجل زيادة ربح العمل الخيري ..بل لزيادة الدعاية لهذا القصر اللعين على أمل أن يجذب المزيد من ناس ...حسنا لقد حصل على الدعاية ..حين يسقط أصغر ولد في عائلة ثورب في مظلته وبشكل أخرق ويكسر عنقه هذا دون شك خبر يحتل الصفحات الأولى !
أحست فيلى بالرعب من قسوته..ثم أدركت أن هناك مسحة ألم عميق تحت كلماته الخشنة , وبدأت تفهم أنه لا يستطيع التغلب على ألم خسارته إلا بإظهار الغضب على ما حصل .
سألته بهدوء :
- أكنت و شقيقك على وفاق تام ؟
- لا ..ليس كثيرا.لكننا نفهم بعضنا بعضا .. وبطريقة ما كنا مكملين لبعضنا بعضا ..ربما لأننا لم نكن نتشابه كثيرا .
زاد اهتمام فيلى بالأمر , فوضعت الفنجان من يدها ومالت إلى الأمام قليلا متسائلة :
- في أي الأمور كنتما مختلفين ؟
- في كل الأشياء الممكنة, ويليام كان يحب القصر .. والشئ الوحيد الذي كان يرغب به أن يمضى ما تبقى من حياته هنا .
فاندهشت فيلى وسألته :
- وأنت ألا تحب المكان ؟
- انه كالسجن اللعين !
- لماذا تبقى إذن فيه ؟
- أنت لا تؤمنين بالكلمات اللبقة ...أليس كذلك ؟
صمت ثم ازدرد ما تبقى من فنجانه وملأه من جديد قائلا :
- لماذا أبقى هنا ؟ بسبب وعد قطعته يوما .. وما كنت أظن أنني سأضطر إلى الوفاء به !
- وعد ...ولمن ؟
ابتلع قليلا من القهوة وأضاف :
- لوالدي ...ألا يزال والدك حيا ؟
- لا ... لقد مات منذ عدة سنوات اثر نوبة قلبية .
- وكذلك أبى..هل اشتقت إليه ؟
- أجل ... وكثيرا .
- هنا نحن نختلف ...قلما اشتقت إلى أبى ,ومن الصعب الحزن على من لا تكادين تعرفينه .
نظرت إليه أوليفيا مصدومة وهى تقول :
- لابد وأنك كنت تحس بشيء ما نحوه .
- كل ما أذكره أنه كان هناك رابطة دم بيننا ...وأحسست بنوع من الواجب كما أعتقد .لكن ليس كثيرا.
- لماذا ؟
- لأنني لم أكن أشاهده كثيرا . أمي ماتت وهى تلد ويليام فوجد أبى فجأة نفسه مع طفل رضيع وأخر صغير , ولم يدر ما يفعل بنا ,فاستخدم مربية تعتني بنا إلى أن نصبح في سن يؤهلنا لدخول المدرسة الداخلية .
بعد ذلك لم نعد نأتي إلى البيت سوى في العطل . وأنا لم أكن أرغب في العودة إلى كاردوغان هال ,على خلاف ويليام الذي كان يحب القصر ويكره الذهاب إلى المدرسة . حين كان صغيرا كان يشتاق إلى البيت لدرجة المرض الجسدي ,فيما بعد لم يستطع الانتظار حتى انتهاء الجامعة ليسكن هنا على الدوام ثم حدثت لأبى النوبة القلبية فاستدعينا معا إلى هنا ,وبما أن والدي عاش لبضعة أسابيع بعد أول نوبة ألمت به ,فقد كان هناك الكثير من الوقت لمشاهد سرير الموت المؤثرة .
يبدو أنه أدرك أن هنالك أشياء كثيرة أهملها ويريد قولها لنا . وهكذا تلقينا محاضرة اثر محاضرة حول المسئوليات والواجبات لكوننا الباقيين الاثنين الوارثين لعائلة ثورب ولقد تلقف ويليام باهتمام كل شئ قيل له ...لأنه كان من عائلة ثورب قلبا وقالبا , أما أنا فتحملت ما كنت أسمع مع أن أكثر المحاضرات كانت موجهه الي . فأنا الابن الأكبر وقانونيا سيصبح كل شئ لى بعد رحيله , ثم رمى أبى أخر قنبلة علينا . حين شارف النهاية,جعلنا نقسم معا على القيام بكل ما نستطيع للاحتفاظ بالقصر ضمن ممتلكات العائلة وأن يبقى هناك واحد من عائلة ثورب يعيش هنا والى أقصى مدة ممكنة .
- ووافقت ؟
رفع كتفيه بإشارة يأس غريبة ليقول :
- وما كان بوسعي أن أفعل غير هذا ؟ الرجل كان يموت وهو أبى .
ولم أتوقع أن اضطر إلى الوفاء بالوعد . ويليام كان موجودا ويتوق إلى فرصة العيش في القصر وإدارة الأملاك ومات أبى بعد بضعة أيام وبعد إتمام مراسم الجنازة سلمت القصر لويليام وقلت له إن بإمكانه فعل ما يشاء به وكان يمكن أن أعطيه اللقب لو كان هذا ممكنا قانونيا ثم انطلقت أعيش كما يحلو لي .
- تفعل ماذا ؟
نظر إليها نظره غريبة وكأنه يتوقع منها أن تكون عارفة :
- درست الفن ...سافرت ...عشت بسعادة عدة سنوات ..وكان ويليام يعيش في جوه المناسب له ,ويحافظ على القصر ويديره ...وخطب فتاة وكنت أعلم أنه سرعان ما سينتج نسلا جديدا من عائلة ثورب سيتولون أمر الأملاك من بعده . وبدا لي المستقبل أمنا مستقرا..ثم ..قام ذلك الأحمق اللعين بكسر عنقه وتهاوى كل شئ متحطما قطعا صغيرة .
ولم أعد حرا في متابعة حياتي كما أشاء .لم يكن أمامي خيار سوى العودة إلى هنا لمحاولة النهوض بالحمل الثقيل الذي تركه ويليام على عاتقي .
كان في صوته رنة الم وهو ينطق اسم أخيه , وأحست فيلى بالعاطفة التي كانت تجمعهما على الرغم من اختلاف الحياتين اللتين عاشاها وتباين رغباتهما في أشياء مختلفة وقالت فيلى بصوت منخفض :
- ما من احد يستطيع إجبارك على الوفاء بوعدك..لا يمكن أن يكون للوعد قوة تنفيذ قانونية .
برقت عيناه بالغضب وقال :
- لقد أعطيت وعدا ! قد لا يعنى لك هذا الكثير ...لكنه أمر ما كنت أستطيع التهرب منه هكذا .
- وهكذا كان عليك إمضاء ما تبقى من حياتك وأنت تقوم بعمل تكرهه ...لا يبدو لى هذا إنصافا
اربد وجه دانيال وقال :
- أنت ساذجة جدا لو أمنت أن الحياة منصفة !
هزت أوليفيا رأسها وأجابت على الفور :
- أنا لا أؤمن بهذا , وأنا بالتأكيد لست ساذجة ...لكنني فقط كنت أتعاطف معك .
فرد بحدة :
- لست بحاجة إلى عطفك .أنا كبير بما يكفى ومجرب بما يكفى ..بكل تأكيد كى أتعامل مع مشاكلي بنفسي .
فنجان الكاكاو كان قد أصبح باردا ..أخذته نحو المغسلة ,نظفته واستدارت إلى دانيال قائلة :
- سأذهب الآن لأنام .
لم يرد عليها ولم ينظر إليها..وفكرت أنه سيبقى ساهرا يفكر بأحزانه ..ومع أن شق طريقها عبر ممرات وأروقة القصر الشبحية المخيفة فيه رهبة الا انها كانت تحس بأن هذا أفضل من ان تشعر به يلحق بها .
ما أن وصلت إلى باب المطبخ حتى وقف فجأة وتقدم لينضم إليها .
بدأ قلبها يخفق بسرعة ,ونظرت إليه متوترة فرد النظر بعينيه السوداوين اللتين لا ترفان أبدا واضطرت إلى إبعاد نظرها عنه وقال :
- الأفضل أن أوصلك إلى غرفتك .
ردت بسرعة :
- لا باس في هذا ...سأكون بخير لوحدى . ابق هنا وأنه شرب قهوتك .
ابتسم ابتسامة الذئب.
- أظنك خائفة من أن تبقى في الظلام معي ؟
- بالطبع لا ! أنا فقط لا ..لا أريد إزعاجك.
- ما من إزعاج ..على أي حال لو تركتك لوحدك قد يطلع الصباح قبل أن تعودي إلى غرفتك .
- لكن لدى إحساس جيد بالاتجاهات .
استند دانيال إلى الباب ليتابع قائلا :
- إذن قولي لي بالضبط كيف ستصلين إلى هناك .
أخذت تبحث في ذاكرتها عن رد ثم قالت :
- نذهب عبر هذا الممر ثم إلى اليسار ..لا ..بل تصعد بضعة درجات سلم إلى اليمين ثم تستدير إلى اليمين ثانية ....
صمتت فجأة ثم تابعت يائسة :
- حسن استسلم كيف أصل إلى غرفتي ؟
- الحقي بى .
وانطلق بسرعة عبر الممر المعتم وما هي إلا دقائق حتى كانا يقفان أمام بابها وتنهدت ارتياحا :
- شكرا لك , تصبح على خير .
لكنه لم يتحرك بل وقف ينظر إليها مفكرا ثم قال :
- أتذكرين ذلك السؤال الذي طرحته عليك سابقا ؟
بكل تأكيد تذكر ..آه ...يا للسماء ..هل سينقلب هذا إلى موقف صعب ؟ الوقت متأخر جدا وهى ألان متعبة حقا . وبكل تأكيد لا تريد أن تتحمل التعامل مع غزله ...و أكمل سؤاله :
- لا أظنك راغبة في تغيير ردك ؟
دون تردد أجابت :
-لا ... وإذا كنت تعتقد انك ستجد النوم مستحيلا...اقترح عليك اخذ زجاجة ماء ساخنة معك إلى السرير .
رد باسترخاء وبصوت كسول ينضح بالأغراء :
- لكنني أفضل أن أخذك أنت .
أحست بقلق إذ من السهل الوقوع في حبائل إغرائه إذا لم تكن حذرة .. وتابع دانيال بصوت أسف وبنفس اللهجة المنخفضة المخملية :
- اعتبرى نفسك محظوظة آنسة أوليفيا ليندن لأنك تتمتعين بهذا المزاج السهل ..وإلا لما كنت مستعدا لقبول لا كرد منك أو بكلام أخر ما كنت لأسألك ما سألت .
- ألن تتوقف عن اللف والدوران هكذا وتتركني أذهب إلى فراشي ؟
- الساعة تقارب الرابعة صباحا ولقد فات وقت نومي وهذا أمر يجعلني دائما أحب الثرثرة دفعا للسأم والوحدة .
- إذن اذهب وحاول النوم لتفكر بما ستقول .
استدارت لتفتح الباب لكنها أحست بلمسات خفيفة دافئة تداعب مؤخرة عنقها , حيث كانت تنسدل خصلة من شعرها المرفوع , فأبقت ظهرها مدارا إليه بثبات ودخلت الغرفة وأقفلت الباب وراءها لكن الباب لم يكن له قفلا , ولم تكن هناك طريقه لمنعه من اللحاق بها ...
ومع ذلك كانت ترغب في الاعتماد على حدس يقول لها انه غير مهتم بها حقا وانه إنما يمارس معها لعبة يسلى بها مزاجه السوداوي ...أخيرا أطلقت تنهيدة ارتياح منخفضة , وتوجهت إلى السرير لتتكور متعبة فوقه .
إن هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر والمفاجآت جعلت أخر اهتماماتها أن تستدرج إلى مثل هذه المقابلات التي تثير القلق و الاضطراب , فهي لا تريد لما حصل أن يتكرر ثانية ...وقررت أنها من ألان وصاعدا ستلتزم الفراش ليلا , ومهما سمعت خارج نافذتها أو غرفتها ..ولن تتسلل بعد عبر المنزل في الظلام وهكذا ستبقى أمنه ...لكنها ... لم تستطع التخلص تماما من ذلك الانطباع المقلق الذي بات يساورها منذ الليلة المنصرمة , وهو أن ما من امرأة تكون أمنه في وجود دانيال ثورب.

السيد النبيل Where stories live. Discover now