الغُصن الذي كان هاربًا

2K 78 52
                                    

-ياماش

ينتهي الأمر بنا دائمًا في المكان الذي بدأنا منه. هكذا هي الحياة، شيء مخادع وقاسٍ. تقول لن أفعل ذلك، لكن الأمر لا يتوقف على قولك أنت، ستتألم وتحترق روحك بطرق عدة. وفي النهاية ستفعله! الحياة شيء قذر كهذا مع الأسف.

أمام باب منزلي كان بابٌ آخر، هل علي فتحه؟ هل أملك الخيار؟! لم أفكر في أيّ من ذلك. بل قفزتُ عبره كأنني كنتُ في انتظاره دائمًا، وهذا هي قذارة الدنيا. إنها تضربك من المكان الذي تظن نفسك آمنًا فيه. ومكاني الذي ظننته آمنًا، كان العائلة.

لعشر سنوات كنتُ أردد أنني لا أملك عائلة. أحببت أنني فرعٌ ساقط بلا جذور تربطه بأرضٍ ما. لكن، في لحظة فارقة، تساقطت تلك القناعة الزائفة أمام الحقيقة.

الحقيقة أنني كنت دائمًا أملك جذورًا، كنت غصنًا مائلًا. لكنني لم أستطع أن أنزع نفسي أبدًا عن تلك الشجرة. والدليل، أنني أجلس الآن في سيارة إلى جوار أمي، وتلك السيارة كانت تسوقني نحو المكان الذي قلتُ دائمًا أنني تركته خلفي للأبد!

أنا، هذه المرة لستُ فقط ياماش. حتى لو لم أُرِد ذلك، أظن أن علي التسليم بذلك لبعض الوقت، أنني ياماش كوشوفالي. لدي عائلة، ولدي جذور. ولدي حفرة لم أحبها أبدًا.

هناك حقيقتان لا تحتملان الشك فوق هذه الأرض. واحد: أنقرة هي عاصمة تركيا
اثنان: الحفرة هي عاصمة إسطنبول.

والحفرة تلك هي حيّ يعرفه كل تركيّ، وكل تركي يعرفه يرتجف فقط عندما يسمع اسمه. يجمع حينا كل المشردين والبائسين، من لا يملك عملًا يعطونه سلاحًا ليصبح حارسًا، ومن لا بيت له يعطيه إدريس كوشوڤالي منزلًا. من لا عائلة له، يصبحون هناك عائلته.

إدريس كوشوفالي، والذي يكون أبي، هو رجل من ذلك النوع. زعيم حي، اعتاد الناس هناك أن ينادونه بالأب. لكن لأكون صريحًا، أنا لم أستطع أن أناديه بذلك. على الأقل، بداخلي لم أستطع أن أفهم أبوته تلك أو أتقبلها.

طالعتُ الشوارع التي لم تتغير كثيرًا عن آخر مرة رأيتها قبل عشر سنوات، المحال والبيوت. الجدران الملطخة بالألوان والشعارات، مررنا بالمقهى الذي اعتاد أبي الجلوس فيه مع أهالي الحي ليستمع إلى مشاكلهم.

ورأيت بيت المساكين الذي اعتادت عائلتي توزيع الطعام فيه مجانًا، كان كل شيء على حاله، إلا أني لا أذكر أكثر من واجهات البيوت والمحال. أما عمن يسكنون خلف تلك الجدران فلا أذكر أحدًا منهم؛ لأنني كنت نادرًا ما أتجول في الحي أو أتعامل مع أحد فيه إلا للضرورة.

التفت إلى أمي التي تجلس بظهر مستقيم، وتحيي الناس عبر النافذة بابتسامة صلبة. حتى هي لم تتغير أبدًا. خسرت ابنًا، وزوجها يرقد على فراش المرض بسبب كل ذلك الحي ونظامه. ومازالت متمسكة كما هي!

أغصان شجرة لا تصنعُ بيتًاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن