|•إنّها تحتضر•|

353 31 41
                                    

إني أتذكرها بأبهى تفاصيلها، وأجمل ما فيها، وأدق مفرادتها، ولكني الآن أراها تحتضر وما زال الأمل يشع من جانبيها. أملها كان أن ينقذها أحدٌ مما أخذت تعانيه السنوات الماضية، ولكن المحاولات كلها باءت في الفشل مع ازدياد من يعجبهم وضعها، والذي لا أجد له وصفًا مناسبًا، ربما الرداءة هو ما يصفها الآن. تلك كانت الرواية العربية، التي استمرت بالهبوط بالرغم ممن يحاولون إنهاضها، وإعادة مجدها كسابق عهدها، ولكن كما يقولون:«ألا ليت الليت يكون»؟

ما كانت الرواية لتصل لحالها هذا إلا بسببنا، فعندما كانت الرواية في أحلى ما تكون، وكانت الأيادي تخط وتكتب فتنتها وتسحر عقول من يقرأها، كان الناس لا يبالون، فالحرب أشغلتهم عنها، وزينة الحياة حجبت أبصارهم عنها، وكان الكاتب يعاني لينشر كتابه في حياته، ويبقى -الكتاب- مركونًا في رف مغبرٍ بعد وفاته إن لم تلمحها عينان ذاتا إتقان.

ولم تكن الرواية العربية دومًا كحالها هذا من رداءة الفكرة والسرد والشخصيات والعناصر الأخرى التي ترتكز عليها، ولم تكن الرواية العربية ذات مشاهد وأوصافٍ إيروتيكية فاضحة ومسيئة لحقيقة الجنس، هادمة لثقافة الشباب، وجاذبة إياهم إليها بتعويذاتها دون مغزىً منها أو فكرةً إلا إغواء الشباب وجني المكاسب المادية من الفحشاء والمواد الإباحية فيها. وهاهي ذي الرواية تناجي الكتاب أن ينقذوها لا يحرقوها بأفكارهم ومعتقداتهم، أن لا يجعلوها مصدرًا للفساد والجنون فتؤكد نظرة من يرون قراءها ويصفونهم بغير العاقلين ذي الأفكار الفاسدة. وما السبب؟ لمَ ابتليت الرواية العربية بمعتقداتٍ كهذه؟ وهل يستمع الكتاب لمناجاتها؟ كلا! فصارت الرواية المنصة الرئيسة لنشر الأفكار الجنسية والإلحادية والكئيبة التي تصور الدنيا على أنها جحيم لا يتحرر الفرد منه سوى بالموت أو بالتعاطي، والتي تصور البغي على أنه حرية وحقيقة وصدق، والعفة رياء وكذب يتصف بها المنافقون، والأعجمي كالملاكِ منزل من رب السماوات، والعربي شيطانٌ أرسله إبليس فيوسوس في آذان الناس، وأوروبا مهد الحضارة والتقدم والسلام، بينما شمال أفريقيا وبلاد الرافدين والشام وشبه الجزيرة العربية مكان الانحطاط والتخلف والنزاع.

أتتذكر محاولاتك الأولى في الكتابة؟ بمَ كنت متأثرًا وقتها؟ كثيرٌ منا تأثر بالثقافة الأجنبية، بأفلامهم وبرامجهم وكتبهم وحياتهم ومعتقداتهم، وتناسى ثقافته مصدقًا الأقوال التي تدعي أنها كلها معتقدات رجعية فاسدة لا تعطي لذة للحياة، وحينها غالبًا حاولنا الكتابة مثلهم وموافقتهم فيما يعتقدون. إلا أن في تلك الأقوال أمرٌ من الظلم، فليس لأن الشهوات مقيدة بدينٍ أو عُرفٍ أي أن كل فكرٍ عربي يكون رجعيًا. والسؤال هنا: هل الحداثة في الأعمال الأدبية الأجنبية؟ أم في الإيروتيكية الفاحشة إذًا؟ وكيف ستكون الرواية العربية لاحقًا؟ هذا السؤال الذي أسأله نفسي قبلكم، وأسأل الكُتّاب قبل نفسي، ولا أجزم بأن إجابتي عليه بالإجابة الشافية الكافية حتى بالنسبة لي.

نحن، لولا الرواية والقصة، ما كنا لنبدأ شغفنا بالقراءة، ولو قلت لي هناك الشعر والنثر والقصيد، سأجيبك بأنها خاليةٌ من الأرواح التي قد نرى نفسنا فيها، خالية من المتعة التي سيجدها كل شخصٍ في رواية تحكي لك حياة كاملة بأسلوب قصصي، وسأجيبك بأن الرواية في الأساس ماهي إلا نثرٌ طويل تطور ليكون ما نعرفه الآن من قصص وروايات. سيختلف الحال إذا ما بدأنا من هذه النقطة، ومن هذا اليوم، من بعد قراءة هذا الفصل -الذي لا أتذكر كتابته حتى-، فعندما تتولد الرغبة، عندما يتولد الشغف، وعندما تولد لذة الكتابة وحبها في عقولنا قبل قلوبنا، سنصلح الأخطاء واحدةً تلو الأخرى، بدءًا من الأفكار حتى المفردات الدقيقة التي ستستخدم في وصف وسرد كل حدث وزمكان وشخصية لأجل رسالتك التي تريدها أن تصل.

خلال هذا الكتاب غطينا ما استطعنا من المواضيع الأدبية أو ما تعلق بالأدب منها، ونأمل أن ما قدمناه منذ بدايتنا قد أفادكم. وأختتم هذا الكتاب (صحاف وزمر) بأن الرواية العربية تحتضر، تموت، ونحن بيدنا الدواء، لنكن اليد التي لا تعيد المجد فقط، بل تذيب معدنه وتعيد تصنيعه ليصير جديدًا، لائقًا بالفكر الواعي المثقف.

-----

شكرًا لكم، دمتم بحب وخير.
كتبه العضو: ليڤانت سول.

فريق الإبداع يحبكم ⁦❤️⁩

صِحَاف وزمر Unde poveștirile trăiesc. Descoperă acum