طالب غريب || غفوات وإنجازات

8 2 1
                                    


خلال سنوات دراستي في الجامعة أذكر مرور فصل دراسي شاق ومزدحم للغاية.. كل سنوات الجامعة كانت كذلك ولكن ذلك الفصل كان متميزا في صعوبته.

لسوء الحظ أو لحسنه لست أدري؛ درّسني محاضر قوي ومتمكن جدا من مجاله أحد المساقات الأساسية في ذلك الفصل، في البداية شعرت بالقلق حول كيف ستمضي الأمور معه، فأنا أعلم أن شخصا مميزا مثله لن يمر بشكل طبيعي وهادئ أبدا، كما أنه ولتمكنه كان يجعلني أشعر بالخجل من نفسي إذا لم أكن على اطلاع بالمقرر قبل محاضرته، المشكلة هي أنني لم أكن أملك الوقت لفهم المادة أساسا، وكان ذلك مزعجا للغاية فقد كانت خطتي منذ بداية السنة هي أن أنتهي من المساقات بأي درجة نجاح فحسب، ولكن مع وجوده تغير الأمر.

لم يتغير عمليا في الواقع، ولكن نفسيا شعرت بحمل كبير، ولم يكن هناك ما يمكنني فعله للتخفيف من ذلك الشعور، أعني بالطبع لو كنت درست قبل كل محاضرة مثلا لكان الحمل سينزاح، ولكن الأمر هو أنني كنت في حالة مأساوية من عدم القدرة على الدراسة، وأسباب ذلك لم تكن نفسية فحسب، لقد كنت أمر في فترة إرهاق ذهني وجسدي، وشيء من اهتزاز الثقة بقدراتي إن كان ذلك هو التعبير المناسب للأمر.

المسافة التي كنت أقطعها من أجل الوصول إلى الجامعة كان لها دور كبير، وترتيب جدولي المزدحم جدا والخالي من الاستراحات وأسبوعي الممتلئ عن آخره دون أي يوم فارغ إطلاقا كلها أمور زادت من سوء الوضع، أذكر أنني ورغم كون محاضرته من أهم وأصعب المحاضرات التي يعد تفويت أحدها دمارا كارثيا؛ كنت أغفو في الصف الأول!

لم يبدأ الأمر هكذا، فأنا أدرك أهمية محاضراته، وأدركُ أكثر وضعي الذي لن يسمح لي بالدراسة ذاتيا وتعويض ما يفوتني، ولكن بعد كل محاولاتي للتركيز وجلوسي في الصف الأول، إلا أن الأمر كان ينتهي بي في عالم الأحلام -أو الكوابيس- مهما فعلت، لذا قررت الاستسلام في نهاية الفصل واعتماد المواقع الخلفية المنزوية.

بشكل ما ورغم وضعي الكارثي لم تكن درجاتي بذلك السوء! كنت أعاني بالطبع وقت كل امتحان ولكن الأمر الجيد هو أنني كنت أحب فعلا تلك المادة، كما أنني لم أنسَ في المرات التي أتمكن فيها من التركيز قليلا أن ألقي بسؤال معقد ينم عن فهم عميق للجزئية المشروحة لأحاول إثبات نفسي قليلا قبل أن أعود للنوم، وبالطبع لم أكن لأضطر لفعل ذلك لو أن المحاضر لم يكن يعرفني مسبقا، ولكن للأسف كنت قد حظيت بنقاش معه من قبل وكان نقاشا حول مجال تخصصنا، وتطرقنا لبعض الإنجازات التي فعلتها من قبل والمسابقات العالمية التي شاركت بها في المجال، وكان هذا سببا رئيسيا في جعل الأمور معقدة بيننا، فأنا كما يفترض أو كما يعرف لا يجب أن أكون بتلك البلادة والإهمال، ولكنني فعلا كنت في قمة البلادة في ذلك الوقت ودرجاتي متوسطة بالكاد، أنا نفسي لم أعتد مني هذا ولكن ماذا عساي أن أفعل، ذلك كان أفضل ما لدي!

أوشك الفصل الدراسي على الانقضاء أخيرا وجاء موعد آخر محاضرة معه، كالعادة اخترت مكانا بعيدا وتمنيت جدا أن ينهي المقرر بشكل طبيعي، وكنت أعلم في قرارة نفسي أن ذلك مستحيل، وبالفعل انتهى من الشرح ثم وقف يتحدث إلى الطلاب، بعينيه المتقدتين اللتان كان النظر إليهما يشعرني بالتعب، إذ لم يكن لدي ما يكفي من الطاقة لمواكبة كمية الأمل والحماسة المنبثقة منهما، المهم؛ وقف وبدأ يتحدث عن العمل والشغف والفرص، ويحاول تحفيز الطلاب وبث روح المبادرة فيهم من أجل الاهتمام بالتخصص وتحقيق إنجازات فيه، وأنا وضعت رأسي على الطاولة وليس لدي رغبة في سماع ما يقول، حقا لم أرد سماع أي مواعظ حول الأمر، فقد كنت أواجه ما يكفيني، وبالطبع كنت أشعر بالانزعاج حيال الوضع الذي أنا فيه ولم أرغب من شخص أن يحاضرني بشأن ذلك، وبالأخص شخص رغبت لو أنني كنت في أفضل حالاتي خلال معرفتي به.

لسوء الحظ أو مرة أخرى لحسنه! لم أكن طالبا عاديا بالنسبة إليه، لا أدري ما الذي أدركه بشأني إن كان قد أدرك أي شيء، ولكنه وأثناء انغماسه في الحديث مع كل الطلاب قطع كلامه حين تنبه لعدم وجودي، وبحث بناظريه ثم نادى اسمي بعد أن عرف مكاني طالبا مني رفع رأسي والإنصات لما يقول، ثم أكمل حديثه وهو ينظر إلي مباشرة، كان يوصل رسالة مفادها -أنا أعنيك- وبعد أن كنت بصعوبة أحتمل خطابه العام صار الحديث موجها إلي بشكل خاص ومباشر تماما!

عدت ذلك اليوم وأنا أشعر بانزعاج شديد، شعرت بالإحباط وتمثل ذلك بصورة غضب عارم، لقد كان ذلك المحاضر يتوق بشدة إلى أن يرى أحد طلابه يحقق إنجازا كبيرا ويصل إلى مراحل متقدمة في مجال تخصصه، لقد كان يتحدث من صميم قلبه ويتحرق لبث روح الإنجاز والشغف في عيون طلابه، ولكنني فعلا لم أكن في الوضع المناسب لتلقي كل ذلك، بالطبع أنا أحترمه للغاية، المشاكل التي كنت أواجهها لم تمنع مشاعره من الوصول إليّ، ولكنني فعلا أردت لو أخبره بأنه كان علينا فقط أن نلتقي في ظروف أفضل.

أتخيل في مستقبل ما، وفي وقت أكون فيه في حال أفضل، أن أنجز شيئا يذكر في مجال تخصصي، ثم أبحث عن وسيلة تواصل معه وأخبره بذلك وأشكره على كل ما قام به.. أتخيل أن نلتقي فعلا في الوقت المناسب لكلينا، وأعلم أن ما أريده خيال طفولي وحالم ومنافي لواقع الحياة التي لا ترتب المواعيد بناء على ظروفنا.. ولكني آمل.. فقط أحلم وآمل..

كاتب مشوشحيث تعيش القصص. اكتشف الآن