يونج وفرويد والتزامن

15 4 0
                                    

في يوم من أيام عام 1909 عالم النفس السويسري الشهير كارل يونج Carl Jung كان قاعد في مكتب أستاذه سيجمُند فرويد Sigmund Freud بيتناقشوا في بحث من أبحاثه، وفجأة يونج حس بألم شديد في صدره وفي نفس ذات اللحظة الاتنين سمعوا صوت حاجة خبطت في مكتبة فرويد.. طبعًا الاتنين اتخضوا من الصوت القوي، يونج قال لفرويد أنا حسيت بالخبطة في صدري من قبل ما نسمعها. فرويد قال له "إيه يابني العبط اللي أنت بتقوله ده! خشب المكتبة بيزيأ عادي" لكن يونج حس بالوجع تاني في صدره وقال له "طيب أسمع الصوت.. هيحصل تاني دلوقتي أهو!" وفعلاً بعدها بثانية سمعوا الصوت.

يونج قعد يقول لفرويد "شوفت! شوفت! كُبّة عليك" وفرويد يحاول يقنعه إن الموضوع ده لا يعني أي شيء وإنه محض صدفة أو توقع بسبب نمط معين، بس يونج فضل مُصر على رأيه أن الأمر مش محض صدفة وأنه لا يُمكن تفسيره علميًا أو منطقيًا.

الحادثة الصغيرة دي كانت سبب كبير للجدال بين يونج وفرويد لفترة طويلة. فرويد استخدم الحادث علشان يفسر إزاي أن مخنا بيدور على أنماط معينة في الصدف الكتير اللي حوالينا علشان يثبت لنا رؤية ما تتوافق مع طريقة تفكيرنا. فرويد لاحظ أن الصوت فضل مستمر حد بعد رحيل يونج وده معناه أن ممكن يكون الاتنين سمعوا الصوت من الأول من غير ما ياخدوا بالهم بس عقل يونج اللاواعي لاحظه وسجل المسافات الزمنية بين كل صوت والتاني وربطه بوجع الصدر اللي حس بيه.

يونج بقى الموضوع كبر معاه واستخدم الحادث كأساس لنظريته الشهيرة عن التزامن Synchronicity. ببساطة شديدة، يونج بيقول إن أحيانًا أفكارنا ومشاعرنا بترتبط بالعالم الخارجي بشكل لا يمكن للعلوم الطبيعية تفسيره وده معناه أننا مرتبطين بالعالم الخارجي بقواعد لسه مش فاهمينها، زي مثلاً أن عينك ترف وبعديها على طول تسمع خبر وحش، أو تفكر في حد وفجأة تلاقيه بيتصل بيك وغيرها من الحوادث دي. يونج نفسه بيحكي إنه في مرة كان بيعالج مريضة والمريضة بتحكي له عن حلمها اللي شافت فيه واحد بيدي لها قطعة من المجوهرات على شكل جعران، وفي نفس اللحظة يونج سمع صوت عند الشباك فراح ولقى خنفسة من نوع الجعران!

يونج عامةً كان مهتم بالجانب الماورائي للأشياء وكان شايف أننا مش لازم نرفضه أو نقيده بالعلم أو نحدده بتفسيرات معينة وأنما نحاول نفهم معناه والغرض من حدوثه وتأثير ده علينا.

طبعًا فيه وابل من النقد أتوجه لنظرية يونج عن التزامن وأثبت أن مفيهاش حاجة عجيبة أو ماورائية، ده مجرد خداع بنتعرض له علي يد عقلنا اللي بيتعامل مع العالم الخارجي بشكل انتقائي مما يتناسب مع مشاعرنا وأفكارنا ومعتقداتنا السابقة (وده ما يُسمى بالـ confirmation bias).. يعني الشخص اللي فكرت فيه وفجأة أتصل بيك ده غالبًا أنت كنت بتفكر فيه طول الوقت قبل كده بس بمجرد ما شوفت اسمه على شاشة التليفون عقلك ربط بين اللحظة السابقة وبين رنة التليفون وصور لك تفرد اللحظة دي علشان تثبت لنفسك أنك شخص بركة وكل حاجة بتفكر فيها بتحصل.

المشكلة أن موضوع التزامن ده والخناقة بين يونج فرويد بقت محدودة بفكرة العلم مقابل الخزعبلات. كتير شافوا أن نظرية يونج هتفتح علينا فتحة منيلة من علوم ماورائية كلها بتسعى لتفسير اللي بيحصل ده وتقننه بقواعد وقوانين لا تختلف كثيرًا عن قواعد العلوم الطبيعية المُقيدة. بس يونج ما كانش رافض للعلوم الطبيعية ولا كان مهتم بوضع أسباب وقواعد لحوادث التزامن دي. كل اللي كان عايزه أنه يلفت انتباهنا أن عالمنا الداخلي والعالم الخارجي مرتبطين وأن لا يمكن حد العالمين دول بقوانين صارمة، ويمكن يكون يونج كان عايز الموضوع يفضل تحت راية الغموض علشان نفضل محافظين على خيالنا وعلى إحساسنا الطفولي بالدهشة والإبداع، علشان نعرف أن رحلتنا لفهم العالم من حولنا هي في الأصل رحلة لفهم أنفسنا.

الأزمة الوجودية في الفترة المسائيةWhere stories live. Discover now