فيتجنشتاين وتجربة الخنفساء في الصندوق

43 4 1
                                    

موضوع النهاردة قريب شوية أسطورة كاسندرا من وبيبني عليها من منظور لغوي فلسفي...

لودفيج فيتجنشتاين Ludwig Wittgenstein فيلسوف نمساوي بيدعونا للاشتراك معاه في تجربة فكرية معروفة باسم الخنفسة في الصندوق the beetle in the box. فيتجنشتاين بيقولنا إن كل واحد فينا معاه صندوق هو بس اللي يقدر يشوف محتوياته، يعني مفيش أي طريقة من خلالها أقدر أبص على محتويات صندوق الشخص اللي جنبي، وأتقالنا إن كل الصناديق اللي معانا جواها "خنفسة" مع العلم إن مفيش سابق معرفة بمعنى كلمة خنفسة. فطبيعي جدًا إن كل واحد هيبص في الصندوق بتاعه وهيربط محتويات الصندوق – أيا كانت – بكلمة "خنفسة" وهيبقى ده بالنسبة له معنى كلمة خنفسة.

نقرب الموضوع شوية؟ نتخيل إن أديت لكل واحد فيكم شنطة وقولت لكم الشنطة دي فيها "بربئ" واشترط عليكم محدش يبص في شنطة التاني. ممكن أكون حاطة في شنطة من الشنط بَكرة تواليت وفي شنطة تانية خاتم دهب وفي التالتة صباع موز وفي الرابعة مش حاطة حاجة خالص، بالرغم من ده كل واحد هيربط كلمة بربئ باللي موجود جوه شنطته.. حتى اللي شنطته فاضية هيفتكر إن البربئ هو الفراغ اللي جوه الشنطة. أكيد طبعًا هنحاول نوصف لبعض البربئ اللي موجود جوه شنطة كل واحد عامل إزاي علشان نوصل لمفهوم جمعي مشترك عن معنى البربئ نقدر نتواصل بيه بعد كده، بس المشكلة بقى إن حتى الكلام والإشارات اللي بنستخدمها في الوصف بينطبق عليها نفس فكرة البربئ. يعني ممكن حد فيكم يبص في صندوقه ويقول "البربئ طويل".. كلمة "طويل" نفسها بتعني أشياء مختلفة وليها معايير مختلفة عند كل واحد فينا.

فيتجنشتاين بيقولنا إن ده بالظبط دور اللغة في حياتنا، هي مجرد لعبة بنحاول من خلالها نتبادل المفاهيم والمشاعر والخبرات لكن عمرها ما هتقدر توصل بالظبط منظورنا واحساسنا بالأشياء. على الرغم إن القاعدة دي بتنطبق على كل حاجة إلا إنها أوضح في الأشياء المعنوية، فيتجنشتاين بيدينا مثال على كلمة زي "الألم".. كلنا عارفين الكلمة وفاكرين إن طالما كلنا عارفين معناها يبقى اللي بتشير إليه مشترك ما بينا، في حين إن إحساس الألم قائم على خبرة ذاتية بحتة ماينفعش يستوعبها غير صاحبها، وحتى مهما حاولت أوصف الألم بتاعي أنا فهستخدم كلمات من اللغة برضه اتعملت بعد الكثير من المساومات علشان نوصل لمعنى مشترك جمعي طمس الجوهر الذاتي لكل واحد فينا.

وده اللي بيخلي عملية التواصل فيها الكتير من سوء التفاهم واللخبطة والمعاني غير المكتملة بدرجات متفاوتة. ممكن أستخدم كلمة علشان أنقل بيها معنى محدد مبني على فكرتي عما تشير إليه والشخص اللي بتكلم معاه هتوصله بالمعنى المبني على فكرته هو عما تشير إليه.. إحنا الاتنين صح، المشكلة إننا مش عارفين نبص في صناديق بعض.

طيب هل فيه أي وسيلة تخليني أقدر أعرف اللي في صندوق اللي جنبي أو إن اللي جنبي يعرف إيه اللي في صندوقي بالظبط؟ فيتجنشتاين بيقول طول ما اللغة – والمقصود هنا باللغة أي نظام رمزي بغرض التواصل – هي الوسيلة يبقى لازم نفهم إن اللي جوه الصندوق مش مهم أصلاً لأن عمرنا ما هنقدر نتواصل إلا من خلال اللعبة دي وعمرنا ما هنقدر نعمل لغة خاصة بينا لوحدنا (حتى لو ده ممكن هيبقى غرضها إيه أصلاً؟).

الاستنتاج ده شبه قراءتنا لأسطورة كاسندرا لإنه بيتوصل لإن اللي جوانا ده بتاعنا لوحدنا، وعلى الرغم من إن إدراكنا للعالم مبني بشكل استثنائي علي اللي جوانا ده إلا إننا بمجرد ما بنبتدي نتواصل فلازم نتخلى عن محاولة نقله للآخر كما هو. يعني اللي بننقله للآخر ده مش مشاعرنا ولا أفكارنا.. ده مجرد انعكاس لمشاعر وأفكار الشخص الآخر.

الأزمة الوجودية في الفترة المسائيةWhere stories live. Discover now