ناجل وتجربة العنكبوت في المبولة

42 5 0
                                    

طيب حشرات بحشرات بقى، هننتقل النهاردة من الخنافس للعناكب وهنتكلم عن التجربة الفكرية المشهورة المعروفة بـ"العنكبوت في – لا مؤاخذة – المبولة" أو The Spider in the Urinal..

التجربة قام بيها أستاذ فلسفة أمريكي مشهور اسمه توماس ناجل Thomas Nagel ونشرها كجزء من مقال له بعنوان "Birth, Death and the Meaning of Life". ناجل بيقول إنه في يوم من الأيام لما كان بيدرس في جامعة برنستون راح الحمام علشان يعمل بيبي زي بقية الناس ولاحظ إن فيه مبولة معينة فيها عنكبوت كل ما بيروح يعمل بيبي يلاقيه في نفس المكان. ناجل لاحظ إن العنكبوت مش عارف يخرج علشان المبولة من البورسلين وبيتزحلق كل ما بيحاول يتحرك، وقعد يتخيل قد إيه حياة العنكبوت دي تعيسة.. عايش في مساحة صغيرة جدًا وقاعد يتعمل عليه بيبي كل شوية وبيواجه خطر إنه يتشد في المجاري.

ناجل قرر يساعد العنكبوت، وفي يوم جاب منديل وحطه تحت رجل العنكبوت علشان يطلع عليه، وفعلاً العنكبوت وقف فوق المنديل فناجل أخده ونزله على الأرض وسابه بقى يشق طريقه في الحياة بكل حرية وهو راضي عن نفسه وفخور بإنقاذه للعنكبوت المسكين. ناجل فضل واقف يشوف العنكبوت هيروح فين لاقاه واقف في مكانه مابيتحركش.. حاول يزقه بالمنديل، مشي خطوطين ووقف.

اليوم اللي بعده ناجل دخل الحمام وشاف العنكبوت في نفس ذات المكان اللي سابه فيه امبارح.... بس ميت! جثة العنكبوت فضلت موجودة كذا يوم لحد ما الحمام أتنضف وشالوها.

الموقف ده أصاب ناجل بتأنيب الضمير الشديد وخلاه يتفكر في الطبيعة الأخلاقية لعمل الخير. هل إحنا بنعمل خير علشان إحنا شايفينه خير طبقًا لمنظومتنا الأخلاقية\الدينية\الفكرية ولا علشان النتائج بتاعته كويسة على الشخص المستفيد؟ ويحصل إيه لو فيه تعارض بين الاتنين؟ وعلى أي أساس بحدد مفهوم "الخير" في المقام الأول؟

الخير اللي ناجل عمله هو إنه ساعد العنكبوت يخرج من المبولة واللي كانت من – وجهة نظره – حياة بائسة جدًا، الغلط اللي وقع فيه ناجل إنه تخيل إن وجهة نظره وإحساسة بإيه الحلو وإيه الوحش مماثل لإحساس العنكبوت وبالتالي ماترددش في تقديم المساعدة، في حين إن العنكبوت يمكن كان مبسوط بقعدته في المبولة ولما خرج منها مابقاش عارف يروح فين ويجي منين فمات. طيب هل كان فيه أي وسيلة يقدر يسأل بيها العنكبوت عايز يخرج ولا لأ؟ لأ طبعًا. طيب هل كان من المناسب يسيب العنكبوت في المبولة وخلاص؟ برضه لأ لإن لو العنكبوت كان متضرر برضه مفيش طريقة يعبر بيها عن نفسه ويقول ده.

الموضوع شبيه بمعضلة القطار اللي اتكلمنا عليها قبل كده، هل لو عندي فرصة أتدخل وأمنع أذى بس في المقابل عارف إن تدخلي ده احتمال يكون فيه خسائر، هتدخل ولا ماعملش حاجة خالص وأسيب الأمور تاخد مجراها باعتبار إني مش موجود في المعادلة أصلاً؟

ممكن حد مثلاً يتخيل إن فيه واجب أخلاقي علينا تجاه الشعوب اللي عايشة في بيئة بدائية إننا نعرضهم للتدمن والتكنولوجيا والذي منه علشان الحياة اللي هم عايشينها – بمفهومنا المعاصر الضيق – غير إنسانية. ممكن فعلاً حياتهم تتحسن ويتبسطوا، بس برضه فيه احتمال إنهم يعطلوا تمامًا في البيئة الحديثة وبكده أبقى سببتلهم الأذى. الفكرة إني قررت إيه هو المستوى المعيشي المناسب وغير المناسب من منظوري وواقع تجربتي أنا مش من منظورهم.. عملت الخير بتاعي أنا وتوقعت نتائج تريح ضميري أنا، وتناسيت دور الطرف الآخر في المعادلة.

الموقف يمكن تطبيقه على المستوى الأيديولوجي كمان مش المعيشي بس، وده خلاني أفكر في كهف أفلاطون (اللي برضه اتكلمنا عنه قبل كده) وأسأل نفسي هو أفلاطون جاب الثقة دي منين إن دور المتعلم\المفكر\الفيلسوف إنه يطلع الناس المغيبة من الكهف ويوريهم الزيف اللي عايشين فيه؟ هيحصل إيه لو طلعوا فعلاً من الكهف وهم مش مستعدين للحياة بره الكهف؟ الوضع آه مزري للفيلسوف اللي شايف الحقيقة ومدرك إن الناس دي عايشة في وهم، بس بالنسبة لهم اللي عايشينه ده الحقيقة ومبسوطين بيه. مش يمكن "الحقيقة" بتاعت الفيلسوف هي وهم أخر وهو مش شايفه، زيه زي الناس اللي في الكهف؟

القصة بتاعت العنكبوت بتعلمنا إن فعل الخير ممكن جدًا يكون تعسفي وقاسي زيه زي فعل الشر. أصل طالما بنشوف الأمور من وجهة نظرنا إحنا بس وبنحكم على الخير والشر بمعاييرنا الأخلاقية إحنا بس يبقى مفيش فرق كبير بين لو حاولنا نكون هتلر أو لو حاولنا نكون الأم تيريزا، لأن الاتنين هيوصلونا لنفس النتيجة ولكن من طرق مختلفة.

وعلى رأي المقولة الشهيرة: الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة.

الأزمة الوجودية في الفترة المسائيةWhere stories live. Discover now