حمار بوريدان

12 3 0
                                    

تخيلوا كده أن عندنا حمار والحمار ده جعان، فجيبنا كومتين من القش متساويين في الشكل والحجم وحطيناهم على نفس المسافة من الحمار بس كومة على يمينه وكومة على شماله، تفتكروا الحمار هيروح يأكل من أنهي كومة وليه؟ ويحصل إيه لو الحمار ماعرفش يختار، هل هيفضل واقف كده لحد ما يموت من الجوع؟

المعضلة الفلسفية دي معروفة باسم "حمار بوريدان" Buridan's Ass وتناولها الكثير من الفلاسفة من قديم الزمان ولكنها سُميت على اسم الفيلسوف الفرنسي جان بوريدان Jean Buridan لارتباط اسم بوريدان وأفكاره بفلسفة الحتمية Determinism

اللي بتقول إن أي حاجة في الكون، بما فيهم الإنسان، بتتصرف وفقًا لقوانين وأسباب محددة ولو فهمنا القوانين والأسباب دي، كل حاجة بالنسبة لنا هتبقى متوقعة. الفكرة طبعًا بتعارض مفهومنا عن الإرداة الحرة وأننا بنتصرف وفقًا لرغباتنا ونزاوتنا وأحيانًا مش وفقًا لأي حاجة خالص،

وبتحولنا لآلات لما تديها معطيات معينة هتتصرف بطريقة معينة.. يعني حبك للقلقاس مش إرادة حرة، دي مجرد نتيجة لاستعداد معدتك لتقبله ولوجود خبرات إيجابية في ذاكرتك مع القلقاس.. وهكذا.

ده معناه إن أي اختيار بنعمله وكل قرار بناخده مهما كان صغير أو كبير، واعي أو غير واعي – من أول هختار أنهي إزازة مياه من التلاجة لهجيب أطفال ولا لأ – بيخضع لمجموعة من المعطيات والأسباب اللي مخنا بيدرسها وعلى أساسها بتطلع النتيجة في شكل اختيار أو قرار بنفتكر إنه عشوائي أو حر..

الحمار ممكن يجري على الكومة اليمين ياكل منها، بس ده مش معناه أن الحمار اختار أي كومة وخلاص علشان ياكل ويخلص من الليلة دي، ده معناه أن فيه كومة تفوقت على الكومة التانية بسبب معطيات احنا لسه مش عارفينها والحمار ذات نفسه قد يكون مش عارفها.

ولو طبقنا فكرة الحتمية دي على الحمار هنلاقي أن لو الحمار شاف، بشكل واعي وغير واعي، أن الكومتين على قدر متساوي من الجذب من حيث الحجم والشكل والمسافة (المعطيات متطابقة في الاختيارين) فالحمار هيهنّج ومش هيختار وهيفضل واقف جعان لحد ما يموت.

فيه فلاسفة كتير عارضوا الفكرة كلها وقالوا الحمار مش ممكن يموت لأن مفيش اختيارين في الدنيا متطابقين، ولو شوفناهم متطابقين فده بسبب محدودية رؤيتنا ولو عقلنا الواعي فشل في رؤية الاختلافات فعقلنا اللاوعي وغرائزنا بتشوفها وبنتصرف على أساسها.

بس أنا شايفة أن الحمار ممكن يموت فعلاً..

قبل كده اتكلمنا عن معضلة الاختيار Paradox of Choice وإزاي أننا لو لاقينا نفسنا متحاوطين بالعديد من الاختيارات الجذابة بنحتار والحيرة دي بتتحول لشلل أحيانًا بنعجز بسببه عن الاختيار لأننا عايزين كل الاختيارات

واختيار واحد منهم بيعني التضحية بالاختيارات الأخرى وده بيعمل جليتش فبنفضل واقفين في مكاننا زي الحمار اللي في المعضلة، وده اللي بيحصل فعلاً معظم الوقت على المستوى المادي والنفسي بسبب العصر اللي احنا فيه وإزاي كل حاجة بقت متوفرة بكثرة وبشكل جذاب لدرجة أننا بنزهد في كل الاختيارات

(كل الـ streaming platforms اللي عندك اللي بتقدم لك عدد مهول من الأفلام والمسلسلات اللي كنت هتموت وتشوف واحد منها زمان وبرضه أنت زهقان وطهقان وبتقعد قدام التلفزيون ماسك الريموت بتبحلق في فضاء الشاشة السرمدي!).

طيب تعالوا نشيل كومة من كومتين القش ونستبدلها بكومة من سبائك الذهب، هل الحمار هيسيب القش ويروح للذهب؟ أكيد طبعًا لأ، لأن قيمة القش بالنسبة للحمار أعلى من قيمة الذهب.

احنا بنقيّم الاختيار اعتمادًا على قيمته بالنسبة لنا مش على قيمة الاختيار في المطلق أو قيمة الاختيار بالنسبة لحد تاني... ده الكلام المنطقي، بس هل ده اللي بيحصل فعلاً ولا بقت اختيارتنا معتمدة على قيمة موحدة مقولبة مفروضة على الكل؟

هل لما بتختار تشوف مسلسل معين أو تلبس لبس معين بتعمل ده علشان قيمة المسلسل أو اللبس بالنسبة لك وقدرتهم على تلبية احتياجاتك ولا علشان لهم قيمة مفروضة عليك أنت مش شايفها بس بتحاول تعمل زي الناس وخلاص علشان ماتبقاش الحمار الوحيد اللي بيجري في الاتجاه المعاكس؟

(ممكن حد يقول أن الرغبة في مواكبة الآخرين دي حاجة في حد ذاتها وبتدي قيمة للاختيارات المبنية عليها، ده حقيقي طبعًا وبيحصل أحيانًا ومعنديش مشكلة الحمار يجري على كومة الذهب يلعب فيها ويلحسها ويتصور جنبها،

بس هيفضل يعمل كده قد إيه لحد ما بطنه تقرصه من الجوع ويهزل ويقع من طوله لأن الحاجة اللي اتحرك علشانها في المقام الأول لم تُلبى وتم طمسها؟)..

وده معناه أن مش بس شلل الاختيار اللي ممكن يموت الحمار، الجري والحركة كمان – في الاتجاه الغلط – قد يكونوا السبب في موته (والخوف من الاختيار الغلط ده قد يرجع الحمار لمكانه ويقف مشلول تاني ويموت برضه ومش هنخلص بقى من الحلزونة دي!).

لو أنا، كحمار، مش هقدر أحدد إيه المعطيات\الأسباب اللي بتخليني أختار حاجة دونًا عن غيرها، فعلى الأقل أحاول أتحرك بس ماحددش قيمة اختياراتي وفقًا لاختيارات واحتياجات الحمير اللي حواليا.

الأزمة الوجودية في الفترة المسائيةWhere stories live. Discover now