الآلة والإله

10 1 0
                                    

Deus Ex Machina ده تعبير لاتيني معناه "الإله من الآلة" أو بالإنجليزية God from the machine التعبير ظهر قديما أيام الإغريق لما كانوا بيمثلوا مسرحياتهم الترايجيدية والأحداث بتستلزم تدخل أحد الآلهة، فكانوا بيعلقوا ممثل على رافعة (آلة) وبينزلوه على المسرح بالتدريج كأنه نازل من السماء. والإله ده غالبًا كان بيحل المشكلة اللي أبطال المسرحية كانوا بيلاقوا نفسهم فيها. ومن هنا جاء تعبير الإله من الآلة أو ما نطلق عليه – ببساطة – التدخل الإلهي.

المسرحيات والأساطير الإغريقية فيها أمثلة كتير على استخدام deus ex machina.. لو تفتكروا مثلاً في أسطورة إيروس و سايكى  لما سايكي دخلت في سبات أبدي والموضوع كان هينتهي نهاية غم لولا ظهور إيروس من اللاشيء كده علشان يصحيها بقدراته الإلهية ويرفعها معاه لجبل الأوليمب. وبرضه أسطورة اللي لسه حاكينها قريب لما إله الشمس بعت لها العربة بتاعته علشان تهرب فيها.

تعبير deus ex machina فضل مكمل معانا لحد عصرنا الحديث وبقى يستخدم لوصف أسلوب أدبي بيلجأ إليه الكاتب لما توصل بيه الأحداث لحارة سد وبيضطر يستخدم حاجة غير منطقية أو غير معقولة علشان يحل المشكلة ويفك عقدة الأحداث.. زي مثلاً لما تلاقي الأبطال اللي بقالهم 15 سنة على الجزيرة المهجورة طلعت لهم سفينة من العدم علشان تنقذهم أو لما البطل يطلع له خال غني فجأة كده يجي يسدد ديونه ويقتل الأشرار بلا أي حيثية أو مقدمات. وطبعًا مش محتاجين نقول إن استخدام الأسلوب ده في الأدب بيدل على ضعف الكتابة.

بعيدًا عن الأدب، فكرة deus ex machina من ناحية فلسفية بتعكس علاقة الإنسان المعقدة مع الإله. اسم الأسلوب وتطبيقه في المسرحيات الإغريقية بيدل على رغبتين متناقضتين: الرغبة في وجود قوة خارقة متحكمة في مصير الإنسان وراعية له، والرغبة في التخلص من القوة دي واستبدالها بالإرادة والفكر. كنا اتكلمنا قبل كده إن مهما الإنسان وصل من تقدم فجزء منه بيأنس لفكرة وجود كيان أكبر منه متحكم في الأمور ودي رغبة موجودة فينا من وإحنا أطفال لما كنا مريحين نفسنا خالص لأننا عارفين إن فيه شخص أكبر مننا، زي بابا أو ماما، واخد باله منّا ومن حياتنا ومسؤول عنّا. وده بالظبط اللي بتمثله فكرة "التدخل الإلهي" إننا مهما عكينا الدنيا وحشرنا نفسنا في مشاكل هنلاقي اللي يخرّجنا منها أو على الأقل يوجّهنا لجدواها.

موضوع بقى إن الكيان الإلهي معلق على آلة أو شيء من صنع الإنسان بيعكس رغبة الإنسان في تجاوز الكيان ده والاعتماد على نفسه وأدواته. الأدوات دي – المتمثلة في الآلة – اللي هي عقله وعلمه واختراعاته.. إلخ بتمكنه من التحكم في مصيره وتوفير إحساس الأمان أو سيبان الأيد اللي محتاجه ده مع الحفاظ على استقلاليته وإرادته الحرة الكاملة المتكاملة. نيتشه الله يرحمه قال جملة شهيرة جدًا وهي "God is dead" طبعًا هو مايقصدهاش بالمعنى الحرفي.. المقصود بيها إن الإنسان أتخلى عن فكرة وجود الإله وأدى لنفسه الدور ده وأخترع "الآلة" اللي تمكنه من القيام بواجبات الدور.

السؤال هنا بقى: هل الآلة المعقدة اللي اخترعها الإنسان من علوم وتكنولوجيا وفلسفة والذي منه قادرة على حمل فكرة الإله زي ما كانت الروافع بتشيل الإله على المسرح؟ هل هيبقى كفاية بالنسبة لنا علشان نقتنع بجدوى وجودنا ولا هنعتبرها رداءة في الكتابة زي ما بنتعامل مع الأسلوب في الأدب؟ وهل الإنسان عنده ما يكفى من الإرادة إنه يعمل على تطوير الآلة والحفاظ عليها بشكل مستمر؟ ولا الرغبة في التخلي عن الagency والاعتماد على كيان أكبر بتسيطر عليه أحيانًا؟

بقرأ حاليًا قصة قصيرة – الكاتب بتاعها عالم أعصاب على فكرة – من ضمن مجموعة قصصية  خيالية عن الآخرة.

 القصة بتتخيل إن بعد ما الإنسان يموت هيكتشف إن حياته في الدنيا كانت مجرد انعكاس فكري لحظي لكائنات سماوية أكبر منه واجبها هو الحفاظ على الكون من التهاوي وإن تحول كل منهم لبني آدم للفترة القصيرة دي من الوقت – من منظورهم – بيعتبر إجازة وراحة من واجبا...

Oops! This image does not follow our content guidelines. To continue publishing, please remove it or upload a different image.

 القصة بتتخيل إن بعد ما الإنسان يموت هيكتشف إن حياته في الدنيا كانت مجرد انعكاس فكري لحظي لكائنات سماوية أكبر منه واجبها هو الحفاظ على الكون من التهاوي وإن تحول كل منهم لبني آدم للفترة القصيرة دي من الوقت – من منظورهم – بيعتبر إجازة وراحة من واجباتهم الجسيمة.. وده لأن الإنسان على الرغم من كل مشاكله هو تحت رحمة كيان أكبر – إله، طبيعة، إلخ – والفكرة دي نازلة في سيستم الوعي عنده، وعلى قد ما هي مخيفة ومُقيدة بس مريحة، زي بالظبط الطفل اللي بيخبط رجليه في الأرض علشان عايز يتخلص من سيطرة ماماته وباباه على حياته بس برضه بيبقى مطمن لوجودهم.

كلنا بنستخدم فكرة ال deus ex machina في حياتنا، مؤمنين أو غير مؤمنين بوجود إله، علشان نعرف نتعامل مع النص الوجودي (حياتنا) اللي لاقينا نفسنا فيه. الرافعة قد تكون عند البعض هي العلم أو الطبيعة أو الميتافيزيقا أو.. المهم إن الآلة تبقى قوية كفاية إنها تخلي النَص ذا مصداقية ومعنى.

الأزمة الوجودية في الفترة المسائيةWhere stories live. Discover now