~الفصـــــــــــل الســـادـس~

18 0 0
                                    

الفصـــــــــــل الســادس

مر شهر شعرت خلاله بالود والألفة وبالتقارب بينهما، ونما بينهما قصة حب كبير كانت تنموا كل يوم بعشقهم، وتروي بالاهتمام والتفاهم، فالاهتمام يصنع السعادة، والسعادة تصنع الحب!

ترجلت "أصال" من سيارتها بعد أن وقفت بها أمام القصر وهي تضغط بيدها علي رأسها من فرط الإرهاق الذي تشعر بيه يحاوطها، سارت نحو الدرج لكن أستوقفها والدها "جلال" وهو ينادي باسمها بصوته الحنون:

-أصال

ألتفتت ناحيته تنظر إلي في اشتياق، بادلها نظرات حنونة وهو يفتح لها ذراعيه ليستقبلها بينهم، حيث طوقت ذراعيها حول عنقه تعانقه عناقًا طويلًا يحمل الكثير من شوق جارف له، ثم مسحت علي صفحة وجهه المزينة باللحية ذات اللون الرمادي كالحبيب وليس الأب، ولما لا هي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بيه بعد رحيل والدتها "داليدة" منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، ابتعدت عنه قليلًا ثم قبلت جبينه مرددة في لهفة:

-كنت واحشني أوي يا بابي!

-وأنتي كمان، تعالي عايزك!

قال جملته الأخيرة وهو يجذبها من معصمها ويجلس أمامها علي أحدي الأراك الناعمة في القصر، نظر إليها نظرات مغرية تحمل معاني كثيرة وهو يسألها بفضول:

-وهو مفيش حاجة كده أو كده مخبيها عن بابي حبيبك؟

لم تجيبه، ولكن أجابته تعابير وجهها حينما أحنت رأسها في استحياء واحتفظ بالحُمرة التي ظهرت علي وجنتيها، ارتسم علي ثغره ابتسامة واسعة فقد دق قلب أبنته الوحيد بعد أن ظن أنه مات مع الرجل الذي خلقه داخلها، مسح علي فروة رأسها بعاطفة أبوية يسألها:

-بقا كده، ومخبية عن بابي؟

أجابته بعد ذمت شفتيها بحرج وقد انزعجت من عدم ألتزامها بالصدق معه:

-كنت مستنية الفرصة المناسبة.

ظهرت الحماسة علي وجه "جلال" في نبرة صوته وهو يسألها:

-طب هو مين؟، أسمه إيه؟، عرفتيه أزاي؟.....

قاطعته "أصال" بسعادة:

-براحة يا بابي، كل حاجة هقولك عليها، بصراحة الموضوع جه فجأة، هو المهندس "فارس" اللي كنت شريكة معاه في مشروع المناقصة.

-أيوة عارفة أخوكي "حمزة" بيشكر فيه جدا، وبيقول عليه شاطر جدا في الشغل.

هزت رأسها في إيجاب وهي تضيف علي حديثة:

-فعلا يا بابي، أحنا خلصنا تصميم المشروع في أسبوعين، وكسبنا المناقصة، وبعد ما مشيت هو أشرف علي المشروع ، لكن علاقتنا فضلت مستمرة لمدة شهرين بعدها.

-خلاص خليه يجي يكملني الخميس الجاي عشان أتعرف عليه أكتر!

اتسعت عينيها تسأله في عدم تصديق:

-بتكلم بجد يا بابي؟

أجابها بموافقة:

-أه، لازم أعرف مين اللي خد مكاني في قلبك!

زين وجهها بابتسامة واسعة وهي تهتف بسعادة عارمة:

-حبيبي يا بابي، ربنا يخليك ليا.

...............................

خشي "فارس" أن يقوم بحادث سير نتيجة ارتفاع حماستهُ، فـتوقف بسيارتهُ جانبًا وحلّ عنه حزام الأمان ليلتفت بجسدهُ ويكون مواجهًا لها، كانت الفرحة تكسو وجههُ، رمقها بعدم تصديق وهو يسألها بتلهف :

- بتكلمي بجد ؟

هزت رأسها بإيجاب عدة مرات متتالية:

- آه هتيجي تقابل بابا يوم الخميس الجاي.

ضرب فارس عجلة القيادة بكفهُ بحماسة شديدة قائلًا :

-أنا مش مصدق نفسي أخيرًا!

ثم نظر نحوها مرة أخرى وهي تسأل بفضول :

-مبسوط يا حبيبي؟

أمسك بكفها الصغير ليطبع عليه قبلة صغيرة وأجابها بنبرة بها حب:

-جدًا

ثم نظر في ساعة يدهُ ثم قال بجدية :

-الوقت أتأخر يالا عشان أوصلك!

أصابت أصال الحماسة متأثرة به :

-ماشي ، اللي تشوف يا حبيبي !

أشار فارس نحو أذنهُ :

-مرة كمان ؟!

رسمت أصال ضحكة صغيرة علي محياها قائلة :

-يا حبيبي.

فرك فارس كفيه بحماسة ، واعتدل في جلستهُ ليتابع قيادتهُ وهو يقول :

-أمتي الخميس يجي ، يا فــــرج الله!

.................................

لم يعطي "هدير" فرصة تفتح له الباب حيث دفعها بقوة ليمرق إلي الداخل متجاوز الأعراف والتقاليد المتبعة في استقبال الضيوف بمنزل"التميمي"،فسألته بهدوء جاد:

-أستاذ عيسي....

قاطعها بلهجة قوية لا تقبل النقاش:

-اللي مشغلك فين؟!

أجابته بنبرة مضطربة مرغمة أن تمتثل لأوامره:

-في المكتب

توجه بخطوات أشبه بالركض نحو غرفة المكتب، والغضب يحتل ملامح وجهه، دفع الباب بيده بقوة لينفتح علي مصرعيه، أنتفض جسد "جلال" في مكانه ، فألتفت نحوه وهو يهتف بعصبية:

-أنت أزاي تدخل عليا كده؟!

لم يكترث "عيسي" لحديثه، وهتف قائلًا بنبرة متسائلة:

-"فارس" هيتقدم لــ"أصال"؟!

عقد "جلال" ما بين حاجبيه ، وهو يومئ برأسه بعدم فهم غرضه من السؤال، احتقنت الدماء في عروق "عيسي"، ثم أقترب منه وهو يفرك وجهه بكفه يده وقف أمام مكتبه وهو يهز رأسه معترضًا علي حديثه الأخير:

-تؤ، مفيش جواز هيتم!

نهض "جلال" عن جلسته وكأن صاعق كهربائي أصابه، وهو يهتف باستغراب:

-يعني إيه؟!

أجابه "عيسي" بنبرة برز فيها الحقد والغل:

-يعني بنتك مش هتجوز حد غيري!

صرخ الأخير بصوت متشنج وهو يلوح بيده قائلًا:

-أنت بتقول إيه. علي جثتي لو حصل!

ضرب "عيسي" علي سطح المكتب بقبضته القوية، وهو يهدر بغضب جم:

-لا هيحصل، عشان لو مش حصل هعرف بنتك علي شغلنا!

توترت نظرات "جلال" من تحديق الأخير العدائي له، حاول السيطرة علي نفسه قبل أن تفلت منه زمام الأمور ، توجه "جلال" نحوه محاولًا امتصاص ثورة انفعاله قائلًا بنبرة عقلانية عله يرتدع:

-لو سمحت يا"عيسي" متخليش وقت عصبية يخليك تقول كلام يهد كل حاجة ، أنت فاكر لما تقولها هتحبك !

رد "عيسي" عليه وهو يتعمد الضغط علي جرح "جلال":

-وهتكرهك لما تعرف أنك بعدتها عن أمها!

قالها "عيسي" وهو يجلس علي المقعد المجاور له، ثم وضع قدمه علي الأخرى، وهو يتابع حديثه قائلًا بثقة:

-بنتك مش هتجوز حد غير، كلامي واضح غير كده مش تلوم غير نفسك يا جلال بيه!

تخشب جسده وتصلبت تعابير وجهه حينما رآه بغضبه المشحون يطالعه بنظراته النارية، شعر بجفاف شديد يجتاح حلقه، شل تفكيره مما يمكن أن يفعله، تهديد "عيسي" الصريح له لا ينوي أي خير مطلقًا، لم يعطيه الأخير أي فرصة أخري، نهض من جلسته وتركه في مأزقه وذهب.

...............................

شدَّ كم قميصه –ذو اللون الأبيض- من أسفل سترته الكُحلية للخارج قليلًا ليغلق الزر الذهبي، انتصب "حمزة" في وقفته ليزداد عُرض منكبيه ويبرز طوله الفارغ أكثر، مسح البائع علي كتفيه برفق ليتأكد من ضبط السترة عليه ، ابتسم له بتباهٍ يعكس إعجابه بتفرده المعروف في بيع تلك النوعية من الثياب الفاخرة، حدق "حمزة" في المرآة مٌتفحصًا تفاصيل البذلة عليه، كانت مناسبة له وكأنها صممت خصيصًا من أجل ذوقه الرفيع فأظهرت تناسق جسده الرياضي ببراعة، وأبرزت عضلاته المشدودة، مط فمه مستطردًا حديثه بصوت خشن:

-تمام هخدها!

اتسعت ابتسامة البائع علي الأخير، فبيع قطعة كتلك ستزيد من ربحه الخاص إن كان المشتري الرجل الأكثر ثراء في عالم البناء والمقاولات، رد بلا تفكير:

- أمرك يا بشمهندس "حمزة"!

لم يكن بحاجة لتبديل ثيابه من جديد، حسم أمره بارتداء الحلة الجديدة بعد أن نزع الملصق الذي يحوي ماركتها التجارية الشهرية وسعرها الباهظ، انحني قليلًا بجذعه ليلتقط حافظة نقوده، أخرج منها الكارت البنكي ليسدد ثمنها فورًا، ثم دس في جيبه مفاتيحه وهاتفه المحمول، اقترب منه أحد العاملين بالمحل التجاري يحمل في يده حقيبة وضعت بها بدلته القديمة، أشار له ليتبعه إلي سيارته، وما أن رآه "حسن" -السائق الخاص- حتى أسرع بفتح باب المقعد الخلفي له ليستقر بداخلها، تناول من العامل الحقيبة ووضعها بصندوق السيارة ثم أسرع في خطاه ليجلس خلف المقود، تساءل "حسن" بنبرة رسمية:

-علي الشركة أستاذ "حمزة"؟

أومأ وهو يضع نظاراته الداكنة علي عينيه:

-أه!
-حاضر يا فندم

قالها "حسن" وهو يدير السيارة بتريث نحو الطريق الرئيسي لينحرف منه إلى طريق أخر جانبي حيث يؤدي في نهايته إلى مجموعة الشركات الخاصة بعائلة التميمي (رب عمله)، رن الهاتف فأضاءت شاشته العريضة بصورة "أصال" ، تقوس فمه بابتسامة صغيرة وهو يجيبها متحمسًا:

-عروستي الحلوة

ردت عليه بتوسلٍ مغرٍ:

-"حمزة"، عاوزة أطلب طلب منك؟

تلاشت بسمته وهو يتابع بجدية:

-قولي ،عاوزة إيه!

أكملت موضحة:

-بليز تيجي بدري بلاش تأخيرك ده ، عشان"فارس" هيجي النهاردة.

وضع إصبعه تحت ذقنه يفركه بحركة بسيطة قائلاً:

-حبيبك المجنون!

زادت من استعطافها المصطنع قائلة:

-بليزا يا "حمزة".

التوى ثغره للجانب ليقول مستسلمًا لرقتها التي تجبره على الخضوع لها وتنفيذ رغباتها دون نقاشٍ:

-حاضر يا أصال عينيا.

هللت بحماس استطاع تخمينه:

-ميرسي يا حبيبي!

أغلقت الهاتف ثم عاودت تكمل ضرباتها المتتالية علي لعبة (السند بات) الرياضية الخاصة بالكونجو فو التي تعلمتها وسط سخرية الآخرين لكن والدها لم يُبال!

بينما هي تتابع ضربتها المتتالية علي السنديان ولجت غرفتها "نجلاء" -مربيتها الخاصة- التي اعتنت بها بعد وفاة والدتها، وكانت ملامحها يظهر عليها القلق الشديد، توقفت آصال وهي تنظر إليها باستغراب فهتف قائلة:

-في إيه يا نوجي ؟

-عيسي أبن عمك لسه خارج من عند باباكي وكان متعصب أوي!

شعرت آصال بالقلق فعاودت قائلة متسائلة:

-متعر فيش ليه؟

هزت رأسها نافية وهي تنظر لها في حيرة ثم تركتها في حيرتها وذهبت تكمل عملها.

جلست علي طرف الفراش تأخذ قسط من الراحة وهي تهتف في ذهنها:

-عارفة عايز إيه مني يا عيسي ومش هيحصل لو علي موتي!


 

#رانا_محمد

#روايات_يقلم_رانا_محمد

#إمرأة_من_رحم_الألم

إمرأة من رحم الألمWhere stories live. Discover now