الجزء الثاني: (26)

605 52 13
                                    


(26)




تدحرجت خطوطٌ طويلةٌ من الأمطار على النافذة إثر زخّة مطرٍ ربيعيّةٍ. كانت أُمّي تُحبّ المطر، وكانت تقول أنّها تُحبّ عبقه. أمّا الآن، فما عادت تستطيع لا سماعه ولا استنشاق عبقه. ولم أدرِ، ما المُميّز في رائحته على أيّة حال؟ لرُبّما كانت -على الأرجح- زخمة ماء المطر السمكيّة التي تتصاعد من الأرض الأسفلتيّة الجافّة.

جلستُ بجانب أُمّي مُمسكًا بيديها، وكانت بشرتها قاسيةً للغاية، فوضعت على يديها وخدّيها مُرطّبًا برائحة الزهور، ثُمّ خرجتُ وركبت المصعد للمقهى، وحين فُتِحَت أبوابه رأيت رجلًا يقف بالخارج.

كان الرجل الذي عرّفني فيما بعد على الوَحش، وأقحم الفتى في حياتي.


***




كان رجلًا في منتصف عمره بشعرٍ فضيّ، يرتدي بدلةً أنيقةً، ولكنّ كتفيه كانا مُتهدّلان، وعينيه الفاترتين مُتغرغران بالدمع. ولولا تعابيره المُغتمّة لبدا وسيمًا، إنّما كان وجهه مُظلمًا هزيلًا.

حين رآني اضطربت عيناه، وانتابني حدسٌ بأنّي سأراه مُجدّدًا عَمّا قريب. حسنًا، أعلم أنّ كلمة "حدس" لا تُلائمني كثيرًا. وعمليًّا، لم يسبق لي أن شعرتُ بحدسٍ ينتابني حقًّا.

ولكن عند إعادة التفكير، تجد أنّ الحدس ليس بشيءٍ يعتريك أو تشعر به بشكلٍ عشوائيّ؛ وذلك لأنّ العقل ينظّم تجاربك اليوميّة لا شعوريًّا على هيئة أحكام أو نتائج ويحتفظ بسجلٍّ مُتنامٍ لها، وحين تجابه موقفًا مشابهًا، تستنتج -دون وعيٍ- مُخرجاته بناءً على تلك البيانات. ولذا فالحدس في الواقع ليس سوى رابطٍ طبيعيّ، كأن تضع فواكه في الخلاط فتعرف أنّك ستحصل على عصير فواكه، وقد منحتني نظرته هذا الحدس.

من بعد ذلك، كنتُ كثيرًا ما أصادفه في المُستشفى، ومتى ما شعرتُ بأحدٍ يُحدّق بي في مقهى المشفى أو أحد ممراته والتفتُّ كنتُ أراه دائمًا، كان يبدو كأنّه يريد قول شيءٍ أو لعلّه كان يُراقبني لا أكثر، وهكذا حين مَرّ على مكتبتي حيّيته كما هي عادتي.

- "مرحبًا".

أومأ بخفّة، ومن ثُمّ اتّجه لتصفّح أرفف الكتب بعناية. كانت خطواته ثقيلة، وتجاوز قسم الفلسفة ثُمّ تريّث عند قسم الأدب لفترة قبل أن يأخذ كتابًا ويدنو به من طاولة الحساب.

كانت هناك ابتسامةٌ مرسومةٌ على وجهه، ولكنّه لم ينظر في عينيّ، وقد قالت لي أُمّي سابقًا أنّ ذلك يعني "التوتر". سألني عن سعر الكتاب وهو يدفعه نحوي، فقلت:

아몬드 (Almond) | لَوْزDonde viven las historias. Descúbrelo ahora