الجزء الأول: (12)

660 79 7
                                    


(12)




قابلتُ جدّتي لأوّل مرّةٍ في مطعم (ماكدونالد'ز) وكان يومًا غريبًا، طلبت أُمّي وجبتي برغر -والذي يُعدّ شيئًا لم تكُن تشتريه إلّا نادرًا- ولم تلمس أيّ شيء بل كان نظرها مُسلّطًا على الباب، ومتى دخل أحدهم كانت تستقيم في جلوسها ثمّ تتراخى، وتتسع عيناها ثمّ تضيقان، وحين سألتها لاحقًا عمّا كان ذلك قالت بأنها إحدى الطرق التي يُبدي بِها الجسد ردّة فعله حين يكون خائفًا ومُطمئنًّا في آنٍ واحدٍ.

حين صارت أُمّي مُتعبةً من الانتظار أخيرًا ووقفت لتغادر تحرّك الباب مفتوحًا على مِصرعيه وعصَفَت الرياح إلى الداخل وهُناك وقفت إمرأةٌ ضخمةٌ ذات منكبين عريضين، وأعلى شعرها الرماديّ وُضِعَت قبّعةٌ أرجوانيّة ذات ريشٍ فبدت كـ (روبين هود) من كتابٍ ما للأطفال، وكانت تلك المرأة هي أُمّ أُمّي.

كانت جدّتي ضخمةً للغاية وليس هُناك أيّ كلماتٍ أُخرى قد تصِفها بشكلٍ أدقّ، وإن كان لا بُدّ وأن أُحاول كنتُ لِأقول أنها كانت تشبه شجرة بلّوطٍ عملاقةٍ خالدة؛ فقد كان جسدها وصوتها وحتّى ظلّها ضخمًا، ويداها على وجه الخصوص كانتا غليظتين كيدي رجلٍ ذي بأسٍ شديد. جلست جدّتي أمامي وعقدت ذراعيها وزمّت شفتيها بقوّة، فأخفضت أُمّي نظرها وأخذت تُتَمتِم لِتقول شيئًا ما ولكنّ جدّتي أوقفتها بصوتٍ خفيضٍ وأجشٍّ قائلةً:

"كُلا أوّلًا."

فطفقت أُمّي تحشو فمها بالبرغر البارد على مضضٍ، ثمّ ساد صمتٌ طويلٌ بينهما حتّى بعد أن أكلت أُمّي آخر قطعة من البطاطس المَقليّة، فلعقتُ أصابعي لألتقط الفُتات من على الصينيّة البلاستيكيّة وأتناوله فُتاتةً تلو الأُخرى في انتظار حركتهم التالية.

عضّت أُمّي على شفتيها ولم تفعل شيئًا سوى النظر للأسفل إلى حذاءها أمام ذراعي جدّتي المُنعقدان، وحين لم يتبقَّ شيءٌ -حرفيًا- على الصينيّة استجمعتْ شجاعتها أخيرًا لتضع يديها على كتفيّ وتقول بصوتٍ ضئيلٍ خافتٍ:

"هذا هو."

أخذت جدّتي نفسًا عميقًا ثمّ أسندت ظهرها إلى كُرسيها وأصدرت صوت نَخير، وحين سألتُ جدّتي لاحقًا عمّا كان يعنيه ذلك الصوت فقالت أنّه كان يعني شيئًا من قبيل: "كان عليكِ أن تحظي بحياةٍ أفضل أيّتها الباغية التعيسة".

صاحت جدّتي بصوتٍ عالٍ لدرجة أنّ صداه صدح في المكان بأكمله قائلةً:

"أنتِ في فوضى عارمة!"

وحينها نظر النّاس إلينا وأخذت أُمّي تنتحب، ومن بين ثغرها الذي بالكاد كان مفتوحًا جعلت تُفضي لجدّتي بكُلّ ما مرّت به خلال السبع أعوام الماضية، وبالنسبة لي كان كُلّ ما قالته هو محض سلسلةٍ من النشيج والشهقات المُتتالية ونفخ أنفها بين الحين والآخر، إلّا أنّ جدّتي استطاعت أن تفهم كُلّ ما قالته أُمّي ثمّ حررت ذراعيها المُنعقدين وأرخت راحتيها على رُكبتيها في حين تبدّد تورّدُ وجهها، وأثناء ما كانت أُمّي تصِفني بدا وجه جدّتي أقرب شبهًا لوجه أُمّي، ولزمت الصّمت لبعض الوقت بعد أن أنهت أُمّي حديثها ثمّ فجأةً تغيّر وجهها وقالت:

"إن كان ما تقوله أُمّك صحيحٌ، فأنت وبلا شكٍّ وحش!"

حدّقت أُمّي بجدّتي فاغرةً فاها بينما دنت الأخيرة بوجهها من وجهي مُبتسمةً فارتفعت زاويتا فمها عند حوافّه وتدلّت زاويتا عينيها الخارجتين فبدا كما لو أنّ عينيها وفمها على وشك التلاقي، ثمّ استأنفت:

"بل ألطفُ وحشٍ صغيرٍ أنت!"

ودلّكت رأسي بقوّةٍ لدرجة أنّي تألمت، وهكذا بدأت حياتنا سويًّا.

아몬드 (Almond) | لَوْزحيث تعيش القصص. اكتشف الآن