أنتويرب

68 0 0
                                    


دخلت صونيا غرفة والدها فوجدته على سريره، والتلفاز يعرض برنامج مسابقاتٍ سخيفة، كان يولي وجهه نحو النافذة الكبيرة التي كانت تطل على كنيسة مبنية قرب دار المسنين، غير مهتم بمتابعة البرنامج.

"مرحبا أبي."
التفت نحوها مجفلاً، نظر إليها من قدميها حتى أعلى رأسها ... كان عادة ما يتفحصها بنفس النظرة كلما جاءت لزيارته لكن هذه المرة كانت تعابير وجهه تشبه كثيرا تعابير وجهي صديقتيها كريستيل وفيبي عندما وقفتا عند باب خروج المسافرين في المطار .. وقد أصابتهما باستغرابٍ شديد لأنها كانت من بين المسافرين الذين جاؤوا على متن طائرة صقلية، وجعلت أفواههما تتدلى من الصدمة وهي تظهر بفستان صيفي رقيق وكنزة بسيطة وصندل مكشوف وعلى ظهرها تحمل حقيبة ظهر ذكورية.

"لقد انتظرتك طويلاً، بعدما أخبرتني بأنك ستأتين لزيارتي حالما تعودين من إيطاليا."
شعرت بالانزعاج .. ها قد بدأ بلومها: "أعرف ولكنني لم أعد إلاّ قبل يومين من ايطاليا؟"
"كيف؟ الم تقولي بأنها رحلة قصيرة ستدوم ثلاثة أيام فقط!
"حسناً، لقد دامت أكثر من ذلك." قالت ذلك وهي تطبع قبلة على خذه ثم ذهبت وجلست على الكرسي ذو الذراعين قرب النافذة.
عاد يرميها بنفس النظرة المتفحصة قائلا:" تبدين بخير عن آخر مرة رأيتك فيها!
ابتسمت تلقائيا .. كانت تلك ملاحظة كريستيل وفيبي أيضا .. لكنها قطبت ملامحها عندما أردف:"هل أصبح لك حبيب إيطالي."
"أبييي." صاحت بعدم تصديق ..
"إنك تبدين حقا متغيرة .. بشرتك تبدوا نظرة والهالات قد خفت من حول عينيك إنك حتى اكتسبت لونا ذهبيا جميلا .. هل هذا حقا بسبب الباستا والنبيذ فقط؟"
تجاهلت سؤاله الخبيث .. وغيرت الموضوع : " لماذا أنت منعزل في غرفتك ولم تنزل لصالة اللعب لتتسلى مع أصدقائك؟"
انكمشت ملامحه فازدادت تجاعيده بروزاً: "إنني مريض." وأضاف في الحال :"نزلة برد."
تفحصته بنظرة دقيقة ولم تبدو عليه أي إشارة للمرض سوى من بعض التعب والكسل .. فكرت بأنها ولا بد إحدى أمراضه الخيالية .. فمن المعروف أن العجائز كلما تقدموا في السن كلما أصبحت طباعهم صعبة وأكثر تخيلا وشعوراً لأمراض لا يعانون منها.
"'هلا أغلقت التلفاز؟ إن تلك الممرضة البلهاء تفتحه وترحل ولقد سئمت من إخبارها أنني جندي حارب في الحرب العالمية الثانية ورجل عاش مع الموت لن يضيع  وقته في مشاهدة هاته البرامج التافهة .. يا إلهي إن الحياة مع جيل كهذا لهو عار."
نهضت وأغلقت التلفاز وحملت جهاز التحكم عن بعد من على الطاولة البعيدة حيث كانت تتركه الممرضة دائما حتى لا يقوم العجوز بإغلاق التلفاز أو بما هو أسوء رفع صوته لأقصى درجة. أعطت الجهاز لوالدها قائلة: "حسنا خبئه لها ولن تستطيع فتحه مجددا."

ولكنها عندما ودعت والدها وبينما هي تغلق باب غرفته خلفها سمعته يفتح التلفاز من جديد .. فابتسمت بسخرية وهي تكمل طريقها للخارج ...
في سيارتها جلست وبقيت تفكر في حديثه عن  تغيرها .. نظرت للمرآة الامامية وتفحصت نفسها .. هل تغيرت؟ شكليا أجل .. وداخليا؟ هل كريستيل وفيبي محقتان؟ إنهما تجزمان بأن شيئا فيها قد تغير منذ أن عادت من ايطاليا .. لا تنفكان تصرّحان لها عن التماع عينيها .. إنهما تجزمان أنها قد بدأت تقع في حب فابيو لكنها تعاند. لقد سئمت من محاولة شرح لهما أنها فقط بدأت تتعود على غياب بيتر من حياتها .. أنها أصبحت أقل حزنا وتعاسة .. وأنها ستفوق لنفسها وستسعى لإكمال حياتها، لكنهما لا تصدقانها.
إن كان هناك من تغيير فيها فهو بالتأكيد ليس بسبب فابيو .. بل بسبب جوليانو .. هل عليها فقط أن تعترف لهما بالحقيقة .. أنها هربت برفقة شاب صقلي يبدو أصغر سنا منها .. كم يصغرها؟ ثلاث سنوات؟! تتمنى أن يكون أقل من ذلك وليس أكثر؟ لكن حتى لو كان كيف تخبرهم أنه منعزل عن البشر يملك يختا يبحر به وحيدا في المتوسطي .. كثير الشرب، صاحب مشاعر رهيفة جدا، كلامه غريب، وعشقه للانتحاريين مخيف، وهو على وشك الزواج براهبة وهي بالمناسبة تكون أخت فابيو؟ لن يصدقها أحدٌ .. إنها نفسها لا تصدق رحلة اليخت تلك .. أيامها الاخيرة في ايطاليا كانت جنونا اشبه للحلم منه للواقع  .. وهذا ما جعلها لأول مرة تكذب وتخفي شيئا عن صديقتيها المقربتين فقد أخبرتهما أنها رافقت فابيو إلى صقلية ومن هناك ودعته عائدة لبلدها بعد أن قررت الا توافق على عرض العمل.
زفرت الهواء بحسرة وهي ترخي جسدها على الكرسي، أغمضت عينيها ورأسها للخلف .. تذكرت آخر نظرات تبادلاها في مطار باليرمو الذي أصر على مرافقتها إليه وعند باب دخول المسافرين توقفا للحديث بعد أن تملكهما صمت غريب وكأن الكلام انتهى بينهما في تلك الليلة الغريبة على خليج كابري.
"أنا متأكد من أنك ستنجحين في تحقيق أحلامك."
مدت يدها في حركة جريئة بالنسبة لشخصية منعزلة مثله ووضعتها على خده .. ضيق عينيه وهو ينظر في عينيها ولكنه لم يبعد يدها .. ربتت على خده وهي تبتسم له باطمئنان وقالت: " أنت جميل جوليانو، وشخص جميل جدا لا يمكنه أن يكون نسخة مشوهة .. أنا آسفة، ولكن مهما كنت تحب وتُقدس والدك ومهما كنت لا أعرفه إلاّ أنني أراك شخصية لا يمكن نسخها .. أنت فريد من نوعك وأتمنى أن ترى نفسك على حقيقتها كما أراها أنا."
"لا تقلقي علي .. أنا لن أنتحر .. هل تظنين أنه من السهل امتلاك شجاعة قتل نفسك؟ أنا لا أملكها بكل تأكيد."
ضحكت: " لم أسمع يومأ أحداً يرى في الانتحار شجاعة!! إذن عدني أنك ستبقى جباناً"
"لقد حان موعد ذهابك"
"هل أستطيع منحك عناق وداع؟"
بقي صامتا لبرهة كأنه نسي كيف يعانق .. لكنه في الاخير أومأ برأسه .. فرفعت نفسها بسرعة على أطراف أصابعها وضمت ذراعيها حوله .. أغمضت عينيها لا إراديا وقد لامس أنفها أسفل رقبته الخشنة .. كانت بشرته دافئة وتنبعث منها رائحة جسده الرجولية رائحة تحاول أن تستذكرها كل ليلة قبل أن تنام، لا تريد نسيانها، بحثت عنها في جميع محلات العطور الكبرى ولا وجود لرائحة يمتزج فيها عبير البحر والليمون مع رائحة السجائر الكئيبة.
تمنت لو كان باستطاعتها تجميد لحظة العناق تلك وأخدها معها إلى الوطن كتذكار من إيطاليا لكننا لا يمكننا تمني المستحيل.

 باب البحيرة . ماروسكا (مكتملة)Where stories live. Discover now