الخيانة

179 5 0
                                    

وُجدت جثة الصحفي باتريسيو دونالي صباح اليوم مرمية في حاويات القمامة في ضواحي نابولي ومن الجدير بالذكر بأن تلك المنطقة تعاني لسنوات من مشكلة القمامة المفرطة التي تسيطر عليها الجريمة المنظمة مما يدعوا لشك في تورطها في عملية قتله، ولم تتوضح الاسباب بعد نظرا لأن الزميل باتريسيو دونالي كان صحفيا صاعدا في مجلة للمشاهير حيث أنه لم يثبت بعد إن كان يقود تحقيقا سريا بعيدا عن مجال عمله في المجلة.

وأصدر نائب نابولي بيانا يتهم فيه الجريمة المنظمة مباشرة بقتل الصحفي باتريسيو دونالي قائلا: "إن قتلهم لصحفي هو قتلهم لحرية الصحافة ليس فقط في نابولي بل في كامل الجنوب الايطالي لكننا لن نخافهم بل سنواصل الحرب حتى نقضي على آخر جحر لهم."

حدقت صونيا في الصورتين على الشاشة بعد ان جذبا اهتمامها وخرجت من شرودها الذي لا ينتهي .. صورة الصحفي الذي لم تكن ملامحه غريبة عنها ولكنها لم تستطع تذكره في الوقت الذي تذكرت فيه صورة النائب ببدلته الرسمية ونظرته القاسية، الذي كان قد ظهر فجأة في حفل خطبة إليونورا .. لكنها لم تفهم لماذا ظهرت صورته على الشاشة بجانب صورة ذلك الشاب الاخر ولم تفهم ما قاله مذيع نشرة الاخبار الايطالية وهو يعرض فيديو لمنطقة خلف بنايات طويلة اسمنتية محشورة بالنوافذ وغسيل السكان معلق عليها، وقمامات في كل مكان، مليئة عن آخرها لحتى استحال تحملها المزيد من المخلفات، فانتشرت القمامة على الارض بشكل مروع .. عافت نفسها رؤية ذاك المنظر فأبعدت عينيها وأغلقت التلفاز وشعرت ببعض الغثيان، ركضت الى الحمام واستفرغت الماء الذي شربته عند استيقاظها فبطنها كانت ما تزال خاوية .. نظرت للمرآة وهي تشعر بالإعياء الشديد .. كانت عيناها دامعتان وانهارت تلك الدموع بسرعة، لقد أصبحت مؤخرا سريعة الانهيار وكثيرا ما يحدث هذا ايضا أمام فابيو لكنه في كل مرة يصدقها عندما تخبره ان ذلك امر عادي بسبب هرموناتها المتقلبة. وضعت يدها على بطنها وجلست على الارض الباردة وضمت ركبتيها اليها .. كانت تشعر بنفسها على وشك الانفجار لقد تحملت أسابيع طويلة ولكن عقلها لا يهدأ، إنه يفكر ليل نهار حتى في نومها أصبحت تفكر في ذلك الشك الذي يكاد يقتلها .. حتى أنها أصبحت تخاف النوم فلربما تتحدث أثناء نومها ويسمع فابيو شكوكها...
طرقات تلاها نداء لطيف باسمها:
" صونيا .. صوني" اقترب الصوت من باب الحمام وصمت لبرهة كأنه يسترق السمع إليها، ثم طرقه طرقا خفيفا لكن يشوبه القلق: "عزيزتي صونيا، هل أنت هنا؟"
"انا قادمة أبي." نهضت من مكانها ومسحت دموعها بسرعة ولم تجد ذلك كافيا فقامت بغسل وجهها ثم فتحت الباب وحال ان وقعت عينا والدها عليها حتى ارتسم الخوف في عينيه وازدادت تغضنات جفنيه، تطلع الى وجهها الشاحب وشعرها المشعث وثياب نومها ما تزال عليها، وقد كان الوقت ظهرا. سألها: "هل أنت بخير؟"
"ليس كثيراً لكنك تعرف السبب، هذا أمر عادي.. لا؟"
تجاوزته عائدة لسريرها .. تبعها والدها وبينما هي تندس تحت الشراشف وتضع رأسها على الوسادة جلس والدها على طرف السرير وأشار لصينية الافطار التي جلبتها الخادمة بعد خروج فابيو من البيت.
" لم تأكلي شيئا .. هذا ليس جيدا لك ولا للطفل."
"لا أستطيع .. أنا حقا لا أملك رغبة في الاكل."
"فابيو اتصل بي .. أخبرني أنه تركك نائمة عند خروجه وهو قلق عليك."
"فابيو رجل جيد."
"ورجل يحبك بشدة."
"أعرف." ارتعشت وهي تأكد كلامه
"هل تشعرين بنفسك قد تسرعت في الحمل؟"
"لماذا تقول هذا؟" سألته ذلك وقد تفاجأت بسؤاله.
"منذ مدة وأنا أراقبك ولا تبدين سعيدة بالحمل .. بل ضائعة وكئيبة ولا تخرجين من هذه الغرفة."
تبادلت النظرات مع والدها .. كان والدها يحدق بها بدون ان يرف له جفن وكأنه يخبرها بصمت أنه يعرف أنها تكذب عليه .. ارتعشت شفتاها فسارعت لوضع يديها عليهما لكنها لم تفلح في كتم نشيجها، في تلك اللحظة أسرع والدها يضمها إلى صدره، وضعت يدها خلف ظهره المقوس وضمته بكامل قوتها ليخيل إليها أنها كادت تهشم جسد والدها الهزيل، وبيده المعروقة ظل يربت على ظهرها وهو يقول: "اخبريني ما خطبك يا ابنتي؟ أنت خائفة يا صونيا .. أستطيع رؤية هذا في عينيك .. اخبريني يا صونيا، أخبريني أرجوك ..  أعدك ألا أخون ثقتك أبدا ..."
"لكنك ستحاكمني كما فعلت فيبي"
"لن أحاكمك لأنني مليء بالأخطاء. وفيبي مجرد صديقتك أما انا والدك .. لا أستطيع التخلي عنك مهما أخطأت بل سأمشي دوما خلفك أمسح أخطائك وإن عجزت أغطيها بنفسي."
انفجر نشيجها أكثر واهتزت بين ذراعيه .. لم تشهد علاقتهما ببعض تقاربا أكثر من ذاك .. وكانت تلك المرة الاولى التي تشعر بها في حياتها بالقوة لتواجده بجانبها .. توقفت عن البكاء وابتعدت عنه ومسحت دموعها، قالت له: "سأستحم وأغير ثيابي، هل يمكنني أن أجدك عند الشاطئ حينها؟"
"بالطبع عزيزتي." قبّل جبهتها وخرج من غرفتها وكما وعدته استحمت وارتدت ثيابا مريحة، ربطت شعرها على شكل ذيل حصان، كان قد طال لبضع سنتميترات وبدأ يتجاوز كتفيها لكنها لم تكن تملك رغبة في قصه كما في كل مرة .. وعند الشاطئ وجدت والدها يتمشى ببطء وقدميه تلامسان الماء وقد تبللت أطراف سرواله رغم رفعه لهما .. وقفت أمامه، فابتسم لها مشجعا .. نظرت  حولها .. الحراس على الشاطئ بعيدين عنهما بمسافة كبيرة وآلدا مع مساعديها مشغولين في البيت، كانت تخاف من أن يسمع أحد بشكوكها المخجلة والأكثر سوءً أنها كانت تشعر بالعار الشديد من حتى التفكير فيها.
"أعتقد .. أعتقد .. أنا أعتقد بأنه من الممكن الا يكون الطفل ابن فابيو."
بقي والدها وكأنه لم يفاجأ بما قالته .. بل سألها بهدوء: "هل هو ابن الشخص المجهول الذي رأتك معه فيبي؟"
زفرت الهواء بثقل كأنها تحاول أن تخرج أثقالا تكتم عليها وفشلت: "لا أدري."
"كيف لا تدرين؟!!" في تلك اللحظة فقط تغيرت ملامح وجه والدها من البرود إلى عدم الاستيعاب.
شعرت به سيحاكمها وهو الذي وعدها بعدم فعل ذلك، فقالت والغضب يعمي بصيرتها: "كما سمعت لا أعرف من ...." توقفت للحظة وهي تشعر من جديد بحجم الكارثة التي وقعت فيها .. شعرت بالخجل وقالت بصوت انخفضت نبرته كثيرا: "أعرف بأن ما أقوله شيء مريع لكنني أحتاج لمشاركة أحد شكوكي."
"هل تخونين زوجك؟ لقد أخبرتنا يومها أنك لن تري ذاك الشخص مجددا؟ لماذا تزوجت فابيو؟"
"أبي أبي..." سارعت إليه، أمسكت بذراعيه تسكته حتى تقول: "أنا لم أخن زوجي أبداً .. ولم أرى ذلك الشخص منذ زفافي."
صمت والدها وقد عقدت الصدمة لسانه .. فأكملت صونيا: "حسب الطبيب، حدث الحمل في الاسبوع الذي تزوجت فيه بفابيو .. في نفس الاسبوع رافقت ذاك الرجل .. كان ذلك قبل الزفاف وكانت تلك المرة الاولى والاخيرة."
أغلق والدها عينيه وشد جفنيه قبل ان يفتحهما وينظر للسماء، كأنه يسألها عن ما يحدث ولماذا يحدث؟ نظر الى ابنته وصارحها: "فابيو سعيد جدا بالحمل .. أراه يكاد يطير من الفرح."
"أعرف وأنا ايضا أبي صدقني .. كل ما كنت أتمناه هو طفل لي."
"انت تريدين الاحتفاظ بالحمل؟"
حاوطت بطنها بذراعيها بطريقة دفاعية وهي تؤكد له: "لن أجهضه ولو تأكدت من انه ليس ابن زوجي."
"هل يعرف ذاك الاخر بشكوكك؟"
"لا أبي .. أخبرتك بأن أخباره انقطعت منذ زواجي."
"وأنت لا يهمك الوالد؟"
"أريد طبعا ان يكون ابن فابيو .. لكنني في جميع الحالات لن أتخلى عن ابني. لكن الشك يقتلني . أفكر في الذهاب الى المشفى لأعرف ان كان بإمكاني إجراء فحص أبوة سرّي للجنين .. أعتقد بأن الامر ممكن."
"لماذا؟ الم تقولي بأنك لن تجهضيه؟"
"الطفل طفلي قبل كل شيء لكن الشك يقتلني .. كيف يمكنني الا اعرف والد ابني؟!"
"وماذا لو كان الطفل ليس ابن فابيو .. هل ستخبرينه؟ ستحطمينه؟ الرجل يخبر الجميع بأنه سيصبح أبا .. ستتسببين بفضيحة له وصدقيني صونيا قد يكون فابيو ألطف رجل قابلته في حياتك لكن هؤلاء الفاحشي الثراء لا يتقبلون المساس بسمعتهم أمام أقرانهم .. أبداً."
"انا لا أخاف منه بل أخاف عليه .. لا أريد تحطيم الرجل الوحيد الذي أحبني."
"إذن انسي أمر كل الفحص والأبوة والشكوك .. انسيها جميعها..." هذه المرة كان والدها من أمسك بذراعيها وهو يركز نظراته داخل عينيها وقال بلا رحمة: "فابيو هو والد طفلك هذه هي الحقيقة الوحيدة."
"وضميري؟"
"أسكتيه صونيا .. لا تدعي شكوكا تحطم حياتك الزوجية .. ثم إن ضميرك هذا سيكون في حال أسوء إن قمت بتحطيم قلب فابيو .. لأنه سيعتبرها خيانة زوجية بكل تأكيد."
ولم تكن لتنجح في إسكاته لولا غياب جوليانو كليا عن الساحة .. فهي طيلة فترة حملها لم تكن تسمع عنه شيئا، وصلتها أخبار بالصدفة من زوجها أنه مرة أخرى انطلق برفقة لوكا في رحلة بحرية طويلة، وأعرب عن سخطه منه، لأنه يترك أخته لوقت طويل وحيدة في بيت عائلته كما أنه تجرأ ونعته أمام صونيا بالشاب عديم المسؤولية، الفاشل، لأنه لا يعمل ويكتفي بالتعويل على إرادات أعمال عائلته.
بعد يومين كان لها موعد لشهرها الثالث مع الطبيب المكلف بمراقبة فترة حملها، وكما في كل مرة حرص فابيو على مرافقتها كزوج وأب مسؤول ومُحب، وبعد فحص روتيني ككل مرة، أخبرها طبيبها بخبر جديد جعل فابيو يطير فرحا، أنها حامل بتوأم.
في البداية صدمت، لأنها أحست بأن الحمل بطفلين جعل شكوكها تزداد ثقلا عليها ولكن في النهاية تعلمت كيف تتناساها وتشارك فابيو الفرح الغامر، ولم يعد هناك سوى حقيقة واحدة: فابيو زوجها وهي سترزق بطفلين وهما أبناء فابيو.
........

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Mar 09, 2021 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

 باب البحيرة . ماروسكا (مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن