03

68 9 2
                                    

ارتويت فثملت من فيض كؤوس الطّغاة حتى غدى لون فؤادي فحيما .

دخل عليّ الرّقيب الشَّحيم يترفّع بحاله و يتباجح بعلو منزلته المنحطة بعيني، يُخيل له أن عليه أبهّة السُّلطان فيسرف في بسطة جناحيه السوداوين  بوجهي ، بيد أنه غافل عن حقيقة كونه ذليل انحطاط الخُلق و أنّ عيشه غير نافع و لا مُجدٍ.

أبديتُ استهزاءً ما إن اتخذ حيّزا بقربي ، سمَّ بدني بنثر فحيحه على سمعي و قد اقشعر جِلدي لسماعه يبرع في إلقاء فواحش القول على استرسال دونما أية مجابهة مني، فقد نقّيت إضمار الكلِمِ منذ أول وطأة قدم لي بالمكان. أما عن فعلي هذا فقد كان ذريعة سخطه و احتدام هوج أنفاسه مختارا التنفيس عن شدة اضطرابه بنحت تقاسيم وجهي بخشونة أنامله المدنسة إلا أنني سبقته إلى ذلك فطرحته أرضا سارحا في غياهب التفكير بما أقدمت عليه  من سوء العمل .

كنت قد استرجعت بذلك هامات المجد المندثرة تحت رماد الخطايا العفيفة المبجلة .
موقن أنه يَعْجَب من الأمر فقد انقضت دهور على آخر ضربة حرّكتْه و من يعلونه في طريق اليابسة .وفيت القليل من حقي على نفسي بخدش ضئيل على ثغره و ما واريت رضاي على ذلك فلولا اضمحلال جسامتي لأتممت مراسم مأتمه و كلي يستبشر بالخير الذي لحقته بالأمة جمعاء . 

قام من مطرحه يترنح و يُتَهتِه كأنه ضحية سُكْرٍ شديد، حرّر سِكّينته من صلبه رافعا إياها تشق طريقا وعرا على خدي فتتفجر منه عيون من أذية الروح ، يخال أنه يغيث الوطن بإراقة دم أسير خائن فيمنحه حياة بتولا متناسيا طينة هويته المشؤومة.  

"أرى أن البيد من الطعام مددك بالعافية " 

همس بنبرة مختلة و عيون جاحمة أثارت بلُبّي إنقباضا و نفورا  ، مسحت ما انسكب على وجنتي و تهيأت للقاء مقابل فعلتي ، على الأقل هذه المرة شفي غليلي منه .

أرير ناعم أخرس قبح صوت الظالم الواقف قبالتي ، أزج في مشيته نحو مصدره مُحيلا تجهمه للين سفيه مستبشرا بالضيف القادم على حين غفلة .كيف عساه ألا يفعل و قد توهج طمعا في رضاها لعله يحصد ثمر فعله و الرقي بمنصبه فيتوسع في جرمه مبديا قناع الجود و السخاء.

"أستسمحكَ تركي و إياه على انفراد" 

أفرجت كلماتها بثقة المرأة القادرة التي لا يؤاسيها الزمان، فاستجاب الآخر سؤلها طائعا و مؤصدا الباب خلفه .



تتالع في مشيها بخطوات واثقة رسمت دربها صوبي إلى أن استقرت على أفرشة سريري الحديدي المتآكل صدءً ، قابلتُ حسنها بهيئتي البالية، لتشرع بالحديث.

"أجهل مقصدك من يوم الأمس ، لكني أحرمك من ذكر حكمتي على لسانك الآثم ، لا تدعّ معرفة ما يجول بصدري فأنت لا تدري ما أنا بقادرة على صنعه بك"

رجفة علقت بكل حرف غادر ثغرها المزين بحمرة تشبه حمرة جروحي المنسابة ، تشد أزرها بعسر بليغ و تكتم غصة عالقة ، تأبى إفشاء ضعفها الذي يتفاقم بوجودي و تفند كونها كذلك مدعية ثبات النفس . 

"هل إفصاح الحقيقة بهذا العسر؟"

استأنفَتْ الكلام مقتربة من موضعي أكثر ،و قد صوّبتْ عينيها على ندوبي التي لم تبرء ، تراخى جسدي مستريحا على صلابة الجدار القابع خلفي ، ثم تحرك فاهي للكلام .



"و هل قول ما يرضي سمعك يعود عليك بنفع ما؟ خلتُ أنك ستختلفين عن ذوي القلوب المريضة اللاهثين خلف الزّيف  ، ظننت أنك ستنظرين لأمري برزانة كما كنت دائما  ، إمرأة بكامل أنوثتها:  قوية  منصفة و مدللة لكنها تبقى  حكيمة مهما اختلفت الأسباب و الظروف..
هل الإعتراف بجرمي سيخفف من عذاب روحك مُعذّبتي؟"

قلصَتْ المسافة مجددا لأستشعر بلهيب ألسنة حنقها ثم همست بقربي بتوعد .



"إياك ثم إياك إدعاء معرفتي ، فأنا لا يسرني ذلك "
 
برحتْ مطرحها متجهة لجهة المخرج ، أوقفتها عن سيرها قائلا .

"جعلتِني أسير قرار خاطئ منك ، لست طوعا لحضرتك  آنسة لي واي جين لكن بما أنك تواقة  لسماع ما يسرك سأطلعك على ما لا يسرك ، لست ممن يرتكب الفواحش  " 

فتح باب الحرية ليخرج من ورائه  غليظ البدن ينحني لسيدته بوقار لا يليق به . استدارتْ صوبي ترمقني بما عجزت عن تفسيره، ناوبتْ بصرها بيني و بين القابع أمامها لتفرج كلماتها قبل انصرافها .

"سيكون لنا موعد يوم المحكمة  بعد أسبوع ، سيد وانغ أرجو منك مداواة جروح وجهه" 

أَصْفَاد بكين Where stories live. Discover now