الفصل السادس

297 20 1
                                    

"لا يقاس حب الأشخاص بكثرة اللقاء، فهناك من يستوطنوا القلب دون رأيتهم بالعين"

كان يسير فى الطرقات على أقدامه؛ ليستمع بمشاهدة المناظر الخلابة، والإنارة البسيطة المائلة للبني بجمالها من فوق جسر فرانفورت الشهير "جسر العشاق" يبحث عن أحد الأقفال بحماس، لكن كيف يجده بين الآلاف، بَل الملايين منهم، أخبره والديه أنهم جاءوا إلى هنا أثناء ما كانت والدته تحمله فى أحشائها؛ ثم علقت واحدًا يحمل اسمه جوار واحد أخر باسمها هى وأبيه، كانت عينيه تلتهم الأقفال وتتحسه بحنين مدة سيره على ذلك الجسر المُعلق، وصل إلى مُنتصفه ومع ذلك لم يجده، أنظاره مُرتبطة بما يفعله لا ينتبه لشيء آخر من حوله، لا يريد المغادرة خائب الأمل، اهتمامه ليس نابع عن حبه لهذه العادة أو القفل وإنما بذكرها.

أفاق من شروده حينما اتصدم دون عمدًا بجسد شبه ضئيل، فأسرع يتأسف بلهجة ألمانية مُتقنة:
_أعتذر منكِ آنستي.. لم أنتبه.

قال وهو يرفع نظره إليها، ليجد فتاة ترتدي فستان بـ اللون الأسود، فضفاض وفوقه حجاب أبيض يعناق من حوله بشرتها، والأدهى عينيها بلون الليل والذى شتته.

يعتذر وهى المخطئة، فإذا كان هو شاردًا بنصف عقل، فهى شاردة بكل كيانها، وربما هى التى لم تنتبه عليه، حاولت الخروج من ذكرياتها فردت بخجل واضح:
_لا بأس، فأنا أيضًا كُنت شاردة.

بعض الأشياء يستحيل نسيانها، وكيف له أن ينسى صوتها؟

دقق النظر بها أكثر، وتساءل مباشرة:
_ما هو اسمك؟

تعجبت من سؤاله، رفعت نظرها لتلاقي عيناه، فتحاول الهروب منه للأرض مرة أخرى، بينما هو استشعر بأن ظنونه باتت أقرب للصحة، ولكن كيف يمكن أن يكون ما يفكر به حقيقيًا؟

التشويق والمفاجأة أهم عناصر الصدمة، بَل وأكثرهم تعبيرًا عنها، وتلك الدقائق التى تمر الآن أكثر الأوقات تشويقًا بالنسبة له.

لم يعد يحتمل، فقطع الشك باليقين ليقول بلهفة:
_هل يمكنني الاطلاع على بطاقتكِ؟

سيطر الغضب على ملامحها، لمعة عينيها السوداء، وقالت ساخرة وهى تهم بالمغادرة:
_لست من مجرميك.

جملتها الغريبة زعزعت داخله، من أين لها أن تعرف طبيعية عمله!؟ صدق من قال "اتق شر الحليم إذا غضب"، وهى أغضبته وأثارت فضوله، المشكلة ليست بغضبه، بَل أنها أغضبته فى الوقت الخاطئ.

هتف بصوت جهوري، ورغم عنه قالها بلهجة مصرية:
_إنتِ مين؟

ضاع تمسكها هباء أمام ثورانه، وارتجف صوتها قبل أن تتحرك شبه راكضة من أمامه:
_إحدى صفحات ماضيك يا "زين".

نظر فإذا بها تاهت بين الزحام، كان سيركض هو أيضًا من خلفها، لكنه سيتبع سراب؛ فهى قد اختفت كخيال سُلط عليه ضوء النهار، هل هى حقًا من يفكر بها أم أن عقله الباطن خيلها له؟ عيناها، خجلها، ثقتها، لامعة نظرتها، وصوتها الذى تذوق به العتاب الساخر يؤكد له شكوكه، فهل يصدق أنها هى؟ نظر لمكانها بحزنٍ، وما أسوء أن يحتل الحزن ملامح الشرقي، لاسيما إن كان بوسامة "زين".

بين حبي وحربك Where stories live. Discover now