الفصلُ الثاني 🦢 مُواساة

31 0 0
                                    

" تقول سيّدةٌ: أَنا أَيضًا. أنا لا
شيءَ يُعْجبُني. دَلَلْتُ اُبني على قبري،
فأعْجَبَهُ ونامَ، ولم يُوَدِّعْني"

_ محمود درويش _

•••

حُطامٌ يُواسِي رماد، هذا هو حال البشر، كلٌ لديه آهاته وأمراضه، كلنا مرضى في مشفى الحياة، لِكلٍ منا سريرٌ هناك. ومع ذلك، نزُور من نُحِب ونطمئن عن حالهم رغم الألم، رغم الندوب، ورغم الإعاقات. كُلُنا لدينا مشاكِلنا الخاصة التي تحب في أحيانٍ كثيرة، التطفل على عُقولِنا لِتقتات دمها ثم تُغادر مُخلِفةً المزيد من الأمراض.

في الأغلبِ، عندما يقومُ شخصٌ ما بِمُواساتِك، يكُون هو أيضًا بِأمسِ الحاجة لمن يُواسيه ويطبب عليه ويُخفِف من وطأةِ أيامه.

رُبما الآن حواليك شخصٌ تحت الأنقاض، ينتظر يدًا ممدودةً لِتخرجه من ضيقه، من يعلم كم لبث هناك مُحاصرًا؟ منتظرًا كلمةً لطيفةً تُسعِده، أو فعلًا صادقًا يُعيد لِوجهه الُمتآكِل الابتسامة التي هربت، أو شخصًا يُؤمن به ويدعمه.

رُبما يكُون هذا الشخص أنت، فرفقًا بذاتك. لا داعي لِجلد الذات وتعذيبها يكفي ما يحدث لها وما حصل لها من تنكيلٍ وتخريب.

وإن كانت الحياة تُحبُ الجلد، فنحنُ نهوى التضميد.
وإن كانت الحياة تُحبُ الإِبْعاد، فنحنُ نعشقُ الضمّ.

•••

مَكَثَ آرلو مُعانِقًا والده لِعدة دقائق، لا يرغبُ بالابتِعاد، لقدَ مضت أكثر مِن سنة دون أن يرى عائلته، والآن حينما عاد لن يجِدهم جميعًا مجتمعين على طاولة طعامٍ واحدة، ولا حتى في أمسية يتبادلون فيها الأحاديثَ عن العمل، والحياة، والمُغامرات التي خاضها آرلو.

التفكير بذٰلكَ كان قاسيًا، فكيف به يحدُث على أرض الواقع، كان كلاهما يبكيان بُكاء الفقد، يَجمعهما ألمٌ واحدٌ، أحدهما فقد ابنه الذي كبر على يده، وشاهد نُموه، بُلوغه، ونضجه، كان رفيقه الأول في الحياة منذ نُعومة أظافِره وصديقه الداعِم والناصح، ويا ويلاه كم يكوي الآباء فقد أبنائهم! والآخر، فقدَ أخيه الأكبر، أخوه الذي اعتاد مُشاركته أسراره، وهواياته، وفي أحيانٍ كثيرة مشاكله، من سيتحمل مُزاحه الآن؟ لمن يشكو همه؟ سيبقى بالتأكيد مكانه فارغًا لا يملؤه أحد.

بعد مدَّةٍ انسحبَ آرلو من حضنِ والِده، ينظرُ إليه بِأعيُنِه الَّتي يُحِيطُ عَسلُها احمِرار مُلتهب، أعينٌ مُرهقة، ذابلة كـوردةٍ في الصَّحراء، حتى ماء عينيه الأُجاج لا يستطيع إعطاءها شيئًا سوى لمعةٍ جعلت من عينيه كأعيُنِ طفلٍ بكى اللَّيلَ بنجومه وقمره، قال بِصوته الرُجولِيِّ ذي البحَّة العميقة كعُمقِ غرقه في وجعه:

- أَبِي ، مَا الَّذي يَحْصُلُ؟ مَا الَّذي حصلَ؟ لَقد تَحدَّثَت معهُ أَمس وكانَ كُلُّ شَيْءٍ على مَا يُرَامُ، كَيْفَ يَحْصُلُ هَذَا؟!

Themis | ثيميسWhere stories live. Discover now