الفصلُ الثالث 🦢 انتِكاسة

25 2 0
                                    

إنَّ الحَيَاةَ صِراعٌ
فيها الضَّعيفُ يُداسْ
مَا فازَ في ماضِغِيها
إلاَّ شَديدُ المِراسْ

_ أبو القاسم الشابي _

•••


تغيرتَ نظرات آرلو الساكنة إلى أُخرى غير مُستوعبة للذي ينطقه والده. قطبَ حاجبيه بعدم رضا. إنَّهُ مُتعبٌ ولا يشعرُ أنَّ باستطاعته الخوض في نقاشٍ عقيمٍ كهٰذا، فالكُلُّ يعلم ببغضِه التقييد والمسؤولية.


هو مُصوِرٌ فوتوغرافي، يُحبُّ السفرَ والتنقل من مكانٍ لِمكان، لا يستطيعُ تحمل العمل في مكان واحد يُحاصره أربعة وحوشٍ أو جدران كما يُسميها، يبحثُ عن المغامرة في کلِّ شيء، أسوأ کوابيسه ومخاوفه العيش برتابة وروتين مُمل، يسعى لكلِّ ما هو مجنون وخطير. رجل الجنون إن صح التعبير، رجُلٌ بالجنون يعيش وعليه يموت كما يقول دائمًا، جنونه مُسبب للكثير من المتاعب له ولعائلته، وصلَ به الحد إلى أنَّهُ يتمنَّى أن يكونَ سبب وفاته غريبًا لم يحدث لبشري قط، يريدُ أن يدخل موسوعة غينيس لغرابة وعجابة موته.

دمدمَ بصوته الثقيل والانزعاج جليٌّ عليه:

- أبي، ما الذي تقوله؟ أنتَ تعلم أنَّني لا أحبُ العملَ في مكتب. كما أنَّهُ حقًا ليس الوقتَ المناسب لخوض هٰذا.

بقي غابريل كما هو، يفهمُ ابنه جيدًا ويحفظه عن ظهر غيب، لٰكنه لم يستسلم بل خاطبه بصوت مُنخفض:

- أعلم، أعلم، لٰكن تَفهم الوضع قليلًا، ضع نفسكَ موضعي وتحدَّث حينها. من سيرتبُ الفوضى؟ من سيتولى القيادةَ بعد كارل؟

لا يرغبُ بوضع نفسه موضع أحد، يكفيه همه ويزيد، قراره نهائي ولا يرغب بقول ما سيندم عليه لاحقًا، لذا؛ بنفور قال:

- لا يهمني من سيتولى قيادة الشركة. أنا خارج هٰذا الموضع منذ الأزل ولن أعدلَ عن قراري.

- آرلو، إنَّكَ لا تفكر بمنطقية. ما رأيكَ أن تق...

- لا أفكرُ بمنطقية ولا أريدُ التفكير بها. قلتُ إنَّني لن أذهب بعدَ الآن وسأبقى هنا، برأيي هٰذا وحده كافٍ بإصابتي بالهلع. لا تضع عليَّ أحمالًا أكبر من مقدرتي على التَّحمل يا أبي.

قاطعه يهتف بانزعاج لٰكن عبارته الأخيرة خرجت بنبرة راجية ومُتعبة. لن ييأس غابريل من مُحاولة إقناعه بالقدوم والعمل في الشركة، لٰكنه قامَ من مجلسه ينظر له بوجه مُرهق قبل أن ينهي دفة النقاش بصوتٍ نعِس:

- حسنًا يا بنيَّ. أنتَ الآن مُرهق، عليكَ أخذ قسط من الراحة، لٰكن اِعلم أنَّ الحديث لم ينتهي هنا، سأمهلكَ مدة للتفكير بعمق في الأمر، واعلم أنَّني سأبقى أحاول حتَّى أراكَ تجلسُ في كُرسيكَ في الشركة.

دحرجَ عينيه، محركًا رأسه للجانب الآخر بينما يرى والده يأخذ قدميه نحو الخارج. سيضطر إلى التعامل مع إصرار والده بطريقة ما، لن يعدل عن رأيه مهما حصل، لقد ضحى بحريته مجبرًا ومرغمًا اليوم. لا يريدُ التفكير حتَّى بالأمر، لن يسافر لمدة طويلة وسيبقى يقضي أغلب أوقاته داخل المنزل. يا لها من كارثة فوق كارثة. هٰذا الجحيم بحدِّ ذاته.

Themis | ثيميسWhere stories live. Discover now