المقدمة

409K 5.2K 492
                                    


  المقدمة :
يهتف منفعلا و الهاتف على أذنه ... بينما يدور في أنحاء شقته الصغيرة و يده في خصره ....
يقف قليلا لترتفع أصابعه الى خصلات شعره ... ثم يعاود الكلام بحدة
( ماذا تعني لم يقبل الفكرة ؟!! ...... و من هو ليبدي رأيه من الأساس ؟!! .... لقد قدمناها للمدير .... فمن هو ليكون الوسيط ويدرسها قبل أن تصل ؟!! .... تبا لذلك ..... إنه يريد رشوة .... صدقني ..أخبرتك من قبل ..... )
زفر بقوةٍ وهو يستمع الى الطرف الآخر بينما سنوات عمره التي لم تتعدى الأربع و العشرين لا تمنحه الفرصة كي يتعقل أو أن يأخذ الأمور برويةٍ ..... الهدف أمام عينيه لا يصبر و لا يهدأ .... و روحه المقيدة تريد التحرر من أسرها ...
الطريق يسبقه و هو يركض خلفه لاهثا .....
فتح فمه كي يتابع هتافه المنفعل الحانق الا أن صوت جرس الباب قاطعه قبل أن يبدأ ثورة جديدة ....
فعقد حاجبيه و هو يقول متذمرا
( انتظر لحظة ......... سأرى من بالباب ثم أعود اليك ...... )
اتجه الى الباب حافي القدمين ... يرتدي بنطال منامته المريح ... عاري الصدر مشعث الشعر وهو يقضي يوم عطلته بأريحية ... بينما حالته العصبية هي أبعد ما يكون عن الراحة ....
يتسائل عن الشخص الثقيل الذي يهدد هدوء يومه المفترض .... فتح الباب بقوة ليوجه السؤال بحدةٍ فظة
الا أن لسانه تلجم قليلا و انعقد حاجبيه قبل أن يرتفع احداهما وهو ينظر الى الفتاة التي وقفت أمامه رافعة وجهها اليه بهدوء دون أن ترمش بعينيها ....
ليست فتاة تماما .... بل هي طفلة في الواقع , لا تتجاوز العاشرة من عمرها .... الحادية عشر ربما !!! ...
عيناها تلمعان بترفع هادىء عجيب ... و ثقة تفوق طولها المتآكل ....
شعرها الفارق من منتصف رأسها مقسوم الى ضفيرتين من قمة رأسها و و بالكاد تلامسان كتفيها ...
ذكره لون شعرها بلون شجر الأرز .... بني متنافر الدرجات بوضوح .... بينما عيناها بلون البحر شديد الخضار حين يفقد كل درجات الأزرق به في لحظة معينة من اليوم ....
تمالك نفسه وهو يهز رأسه قليلا كي يستوعب وجود تلك الطفلة على باب شقته في هذا الوقت صباحا ...
فقال بصوتٍ متمهل بطيء
( مرحبا .......هل أخطأتِ العنوان ؟!!.. )
رفعت ذقتها اكثر درجة ... ثم فتحت شفتيها الكرزيتين بلون شفاه الأطفال ... و تكلمت بهدوء
( أليست هذه شقة قاصي الحكيم ؟؟ ....... )
ارتفع حاجبيه معا الآن ... الا أنه سيطر على تعجبه وهو يقول ببطىء شديد مراقبا ملامح وجهها الثابتة ..
( نعم صحيح ....... أنا هو .... هلا تشرفت بمعرفتك آنسة ؟؟؟ ..... )
ردت مبتسمة ابتسامة دبلوماسية لا تستطيعها الكثير من شابات هذه الأيام
( أنا تمارا ......... )
مط قاصي شفتيه وهو يومىء برأسه قليلا متسليا .... ثم قال ببطىء أكبر
( حسناااااااا ..... مرحبا تمارا , سررت بالتعرف اليكِ ..... هلا أخبرتِني بسبب زيارتك الكريمة ؟؟ .... )
تأملها مليا أثناء القاءه السؤال عليها ....
تمتلك رزانة و ثقة بالنفس أثارت اعجابه خلال اللحظتين اللتين وقفت بهما أمامه ....
عيناها كبيرتان و تحدقان بعينيه بجرأة دون أن تخفضهما بخجل ....
فعادة شكله الخشن يرعب الأطفال ممن هم في مثل عمرها ....
لكنها مختلفة !!
قالت تمارا بتململ و هي تعدل من حزامي الحقيبة الثقيلة المعلقة على ظهرها كالحقائب المدرسية
( لقد جئت لرؤية أبي .......... )
لعدة لحظات بدا و كأنه لم يسمعها جيدا ... فلم تهتز عضلة في وجهه المتبلد .... ثم لم يلبث أن ضحك عاليا وهو يمد جسمه للأمام ناظرا لأعلى و أسفل خارج الشقة قائلا بتسلية
( حسنا ..... مقلب من هذا ؟!! .... حسين أم شاكر ؟!!! ..... )
لم ترد تمارا بل نظرت اليه بنظرةٍ ممتعضة دون أن تغفل عن الإبتعاد عنه قليلا وهو يمد نفسه مقتربا منها باحثا عن المجهولين اللذين يدبرون له المقلب في مثل هذا الوقت صباحا من يوم العطلة ....
كانت ضحكته قد خفتت وهو يجد السلم ساكنا تماما .... بينما وقفت تنتظره و هي عاقدة ذراعيها على صدرها ....
فالتفت قاصي اليها رافعا احدى حاجبيه وهو يقول بغلظة
( حسنا يا صغيرة ...... انتهى وقت المرح و آن لكِ الآن أن تخبريني عن هويتك الحقيقية ... فأنا لست في مزاج يسمح لي بعبث الأطفال هذا .... من أنتِ و أي سمج ألقى بكِ على بابي في مثل هذه الساعة !!! .... )
رفعت تمارا وجهها و هي تقول بغرورٍ زائد
( لو علم أبي أنك تكلمني بتلك الطريقة لطردك من عملك ..... لذا احترم نفسك قبل أن أتصل به ... لأنني سأفعل حالا ما أن تدعني أدخل الى هذا الجحر فقد تعبت من حمل الحقيبة !! ... )
كان قاصي ينظر اليها مذهولا من وقاحتها التي لم يشهد لها مثيل من فتاة في مثل عمرها ......
فانتفخ صدره وهو يوشك على أن ينفخ بها فيلقي بها من على السلالم ....
الا أنه تمسك بآخر درجات صبره وهو يقول هازئا
( الجيد في الأمر هو أنني لست أباكِ اذن ..........)
ارتفع حاجبيها باستنكار و هي تقول ممتعضة
( و كيف لصبيٍ مثلك أن يكون والدا لفتاة في مثل عمري ؟!!! ..... هل أنت أحمق تماما تماما !! .... )
فغر قاصي شفتيه وهو ينحني ليقول بذهولٍ ساخر
( السماح منكِ يا صاحبة العقل الديناميكي .... عذرا لسيادتك .... )
زفرت تمارا للمرة الأولى في بادرة لفقدان هدوءها الواضح ... ثم قالت بتعب
( هلا ادخلتني الآن ..... الطريق من المحطة الى هنا كان طويلا جدا .... وأبي سيكون شاكرا لإهتمامك بي الى أن يأتي و يصطحبني ..... )
قال قاصي بهدوء و جدية
( من هو اباك اذن ؟!! .......... )
نظرت تمارا اليه بشك قبل أن تقول بحنق
( من سيكون ؟!!! ...... سالم الرفاعي ..... )
تسمر قاصي مكانه وهو ينظر اليها بصدمة ..... قبل أن يعقد حاجبيه ليقول بخفوت
( ليست لسالم سوى ..... ابنتين ..... مسك و ....... )
رفعت تمارا وجهها و هي تنظر اليه مبتسمة ابتسامة عريضة مزيفة
( تمارا ............ )
ثم لم تلبث أن رمت الإبتسامة جانبا و هي تقول بحدة و انفعال
( هلا أدخلتني و تكرمت بإظهار بعض الشهامة من فضلك في معاملة امرأة تحمل حقيبة ثقيلة !!! ...... )

انعقد حاجبيه اكثر وهو يقول مستنكرا
( امرأة !!!! ........أنتِ امرأة !!... بينما أنا صبي ؟!!!! .... )
قالت من بين اسنانها
( امرأة رغم عن أنفك ........... )
كانت تختبر صبره حقا ..... لكنه ودون أن يضيع المزيد من الوقت .... عاد لينظر لأعلى و أسفل .... خوفا من أن يفتح أحد الجيران باب شقته و يشهد تلك المصيبة التي سقطت على بابه صباحا
ثم دون مقدمات امسك بالحقيبة المعلقة على ظهرها و رفعها لأعلى دون ان تنزعها عن كتفيها و جرها للداخل و هي تهتف متذمرة ان يحررها ....
الا انه صفق الباب خلفهما دون ان يتركها .... بينما هي تهتف منتزعة الحقيبة من قبضته
( اتركني ايها البغيض ..... ماذا تظن نفسك فاعلا ؟!! ...... )
استند قاصي الى الباب و عقد ذراعيه على صدره وهو يراقبها باهتمام .... قبل ان يقول بهدوء
( كنت احاول اظهار بعض ( الشهامة ) لسيادتك .... بحمل حقيبتك الثقيلة .... )
عدلت تمارا قميصها نفضا بغضب و قد احمر وجهها بجنون و هي تهتف
( تحمل الحقيبة فقط .... ليست الحقيبة و انا معلقة بها !!! ..... )
لم يرد قاصي على الفور ... بل ظل يراقبها طويلا و الحق يقال انه قد بدأ يشعر بالتسلية فعلا رغم خطورة الموقف الكارثي الذي وضعت نفسها به ....
كانت عفريتة صغيرة ... حمراء الوجه من الغضب و ذات كبرياء و نضج يفوق عمرها ....
لكنه اجبر نفسه على الكلام أخيرا بهدوء وهو يراها تخلع الحقيبة عن ظهرها اخيرا لتضعها ارضا و هي تحاول تسوية كتفيها بتعب
( مبدئيا و اعذريني في التطفل ..... اليس اسمك هو ( تيماء ) ؟!! ..... )
رفعت وجهها اليه و هي تقول بفظاظة
( بل تمارا ........... )
رد قاصي بهدوء مستفز دون ان يتحرك من مكانه ...
(أممممممم بل تيماء ....... فأنا من أنجز لكِ العديد من الأوراق الرسمية قبل أن أتشرف برؤية سيادتك ...فلا تحاولي الانكار ..... )
مطت شفتيها و هي تشيح بوجهها عنه قائلة بغيظ
( هذا الاسم من اختيار ابي ..... لا توجد فتاة واحدة أعرفها و اسمها تيماء
لا أحب أن يفرض أحد علي اسمي حتى أن جميع صديقاتي بتن يعرفونني باسم تمارا ............ )
وجدها قاصي تتحرك باريحية في الشقة و كأنه بيتها ... قبل ان ترتمي جالسة على الاريكة متنهدة بتعب .... فأرجعت رأسها للخلف مغمضة عينيها و هي تحك جبهتها قليلا ...
رغم قوتها التي تحاول جاهدة اظهارها بشكل مبالغ فيه .... الا ان الهشاشة بدت واضحة المعالم عليها .... و الهالات الزرقاء تظلل عينيها ... فهي مجرد طفلة رغم كل شيء و لا يعرف حتى الان كيف استطاعت السفر من مدينتها الساحلية الى هنا ؟!! ...
مجرد طفلة !!! ....
لحظة واحدة .... إن كانت هذه هي تيماء سالم البدري ... و بما أنه قد أنهى لها بعض الأوراق مؤخرا في مدرستها ..... فهي .....
عقد حاجبيه وهو يسألها فجأة بارتياب
( كم عمرك بالضبط ؟!! ....... )
فتحت عينيها بإرهاق و هي تنظر اليه بعدم اهتمام ... ثم قالت بملل ما كان يفكر به للتو ...
( ما دمت أنت البطل قاصي الحكيم الخفي و الذي ينهي لنا الكثير مما نريده في الخفاء ... فمن المؤكد أنك تعرف عمري ...... )
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول بشك
( من المفترض أن تلتحقي بالصف الأول الثانوي العام المقبل .... اليس كذلك ؟!!! .... )
مطت شفتيها بملل أكثر و هي تقول بعدم اهتمام
( نعم ......و هذا يجعلني على أعتاب الخامسة عشر ..... تستطيع القول أنه يفصلني عن الخامسة عشر تسعة أشهر و أسبوعين .... و أربعة أيام تحديدا .... )
ارتفع حاجباه الآن وهو يقول بصدمة
( شكلك لا يوحي بأنكِ تزيدين عن العاشرة !!!! ....... )
ضحكت بسخرية و هي تقول
( حسنا هذه أكثر المبالغات سماجة في الواقع ........ هل أنت قصير النظر؟!! ... )
شعر بالغضب و نفاذ الصبر منها فقال باستهزاء واضح ...
( هذا على أساس أن سن الرابعة عشر يشكل فارقا ضخما !!! ..... أنتِ لا تزالين طفلة .... و مزعجة للغاية ... ذلك النوع من الأطفال الذي يرغب والديه في إغراقه حيا ....... )
شعر بحدقتي عينيها تبرقان بغضبٍ اكبر ... الا أنهما اهتزتا للحظة ... و كم شعر حينها بالرغبة في لكم نفسه لتلك العبارة الغبية التي لم يكن لها داعٍ ....
فتحت تمارا فمها و كأنها سترد له الإهانة بأفظع منها ... الا انها اثارت دهشته حين قالت بهدوء و ترفع
( هلا أسرعت اذن باراحة نفسك من ازعاجي و هاتفت والدي الآن كي يأتي لإصطحابي ..... )
أغمض قاصي عينيه للحظة وهو يضغط أعلى أنفه بعصبية متسائلا عن تلك الكارثة و كيفية التعامل معها ...
ثم لم يلبث أن فتح عينيه وهو يمد يديه قائلا
( مهلا لحظة ..... الأمر ليس بهذه السهولة .... علينا التحدث أولا .... )
اقترب منها ليجلس على المقعد المجاور لها ... و اخذ عدة لحظات و هو يعاود تأملها .... بدئا من حلتها ذات القطعة الواحدة من الجينز و التي ساهمت بشكل كبير في جعلها تبدو و كأنها لا تتعدى سن العاشرة ... بخلاف طولها الأقرب للقزمية .... هذا دون ذكر الضفيرتين القصيرتين !! .... و تلك الخصلات اللولبية العصية حول وجهها الوردي ....
نعم وجهها وردي للغاية .... تبا لذلك انها طفلة جدا ... كيف وصلت الى هنا ؟!!
أخذ نفسا غاضبا عميقا ... بينما سبقته تمارا للقول
( هل ستجلس أمامي عاري الصدر هكذا !! .... الا قميص لديك لترتديه و أنت تستقبل ضيوف بيتك ؟!! ... )
تسمر مكانه وهو يخفض نظره الى صدره العاري بالفعل .... فانتفض واقفا و قد احمر وجهه رغم عنه ...
رفع أصابعه الى خصلات شعره الطويلة يبعدها عن وجهه وهو يقول بخشونةٍ صارمة
( ربما لو تفضل الضيوف الكرام بأخذ موعدا قبلا , لكنت قد تدبرت الأمر .. ابقي هنا .. دقيقة و أعود اليكِ )
تحرك في اتجاه احد الغرف ... الا أنه توقف للحظة و استدار اليها قائلا بصرامة مجددا
( لا تتحركي من مكانك ....... )
نظرت تمارا حولها ... ثم اعادت عينيها اليه و قالت بامتعاض هادىء
( ليس هناك الكثير لأبحث عنه على ما يبدو ........ )
رمقها قاصي مرة أخيرة ... قبل أن يستدير على عقبيه شاتما بهمس غاضب .... و ما أن صفق باب غرفته بقوةٍ متعمدا أن تسمعه ... حتى استند اليه و هو يكتف ذراعيه المفتولتين حول صدره القوي .....
وجود هذه الطفلة هنا كارثة بكل المقاييس ..... كيف التصرف الآن ؟!! ....
يشك في أن يفلح بإقناعها بالعدول عن قرارها و الرجوع بأدب الى والدتها ... فهي تبدو كالعلقة صعبة المراس .....
تحرك من مكانه متذمرا لينتزع قميصا قطنيا رياضيا ... دسه في رأسه بعنف .... مما أدى الى تشعث شعره أكثر ....
ثم توقف لحظة أمام الباب .... ليأخذ نفسا عميقا مصمما قبل أن يخرج ..... اليها ....
كانت تيماء جالسة على الأريكة مكانها كما تركها ... الا انه توقف مصدوما حين وجد على المائدة أمامها
طبقا يحتوى على عدة انواع من الأجبان .... و قطعة خبز يابسة تأكلها بلا تذمر !! ....
فغر قاصي شفتيه قليلا وهو يتأكد مما يراه بالفعل ....
و ما أن وجد صوته حتى قال بصوتٍ جاف
( هذا الخبز مر على وجوده هنا ثلاث أيام .......... )
ردت تيماء بلامبالاة و هي تمضغ الطعام بصعوبة ....
( هذا ما اكتشفته للتو ..... يمكنك دق المسامير بواسطته ....... لكن الجوع يجبر الإنسان على تناول أي شيء ....... )
كتف قاصي ذراعيه وهو يقول بجمود
( و ماذا تعرفين عن الجوع يا ابنة سالم الرفاعي ؟!! ........ )
هزت كتفها و قالت ببساطة و هي تضع شريحة جبن كاملة في فمها
( أعرف أنني جائعة الآن بما يكفي لآكل هذا الجبن منتهى الصلاحية .......... )
انتفض قاصي من مكانه بسرعة وهو يهجم على علبة الجبن ينتزعها منها وهو ينظر الى تاريخ الصلاحية .... و هاله فعلا أن يجده قد انتهى من يومين .....
فرماها بعيدا وهو يهتف بقلق
( ابصقي هذا الطعام فورا .......... )
الا أنها رفعت عينيها الجميلتين اليه و هي تكمل مضغ الطعام ببساطة ... ثم قالت بهدوء
( لا تقلق ..... الطعام لا يتحول الى سام ما ان ينقضي تاريخ الصلاحية ..... امنحه أسبوعين آخرين و قد يتسمم ....... )
رفع قاصي يده الى جبهته وهو ينظر اليها مذهولا هاتفا
( يالهي ...... من أين وقعت علي تلك المصيبة !! .......... )
الا أنها لم تهتم لهتافه الحانق و قضمت قطعة أخرى من الخبز اليابس .... و قالت في أثناء ذلك ببساطة
( لن يطول الوقت قبل أن أختفي من حياتك المبعثرة ....... فقط الى أن يأتي والدي ليصطحبني .... )
اخذ قاصي نفسا آخر .... ثم أغمض عينيه لعدة لحظات ... قبل أن يعد للعشرة محاولا تهدئة نفسه ...
ثم جلس برفقٍ على الكرسي المقابل لها .... مستندا بمرفقيه الى ركبتيه وهو يميل الى الأمام ناحيتتها ...
يتأملها طويلا ... فبادلته النظر بتلقائية ....
للحظات كان عليه الإعتراف ان عينيها هما اجمل عيني طفلة شاهدهما ......
لقد سمع كثيرا عن العيون الفيروزية اللون .... الا أنه لم يقابل أحداها في الواقع ... فحيث نشأ تعد هذه الأعين طفرة نادرة الحدوث ....
لذلك كان النظر الى عينيه يعد كالنظر الى بحر بعيد عنه .... بعيد تماما .....
لم يتآلف يوما مع الأطفال .... و لن يبدأ في هذا الآن لمجرد أنها طفلة ذات عينين فيروزيتي اللون ... حمراء الوجنتين .....
رفع ذقنه و نفخ صدره بنفسٍ صارم ... ثم قال بلطف
( تيماء ........... )
الا أنها قاطعته ببساطة مصححة
( تمارا .......... )
لكنه تجاهلها متعمدا و هو يشدد على حروف اسمها
( تيمااااااااء ..... اسمعيني جيدا يا صغيرة , ....... لقد اتفق والدك مع والدتك على أن تبقين معها بعد انفصالهما .... فكيف تتهورين و تتصرفين بتلك الرعونة ..... هل لكِ أن تتخيلي حالة القلق التي ستنتابها الآن ما أن تكتشف غيابك !! ..... )
قالت تيماء بهدوء و هي تمضغ الخبز اليابس مصدرة صوتا عاليا في تكسيره
( نعم متخيلة تماما ..... امي لا تستيقظ قبل الظهيرة .... لذا هي الآن في سابع نومة ..... )
انعقد حاجبيه بحنق .... لكنه لم ييأس , بل تابع بصلابة أكبر
( أيا يكن .... لا يمكنك أن تتصرفي بهذا الشكل المتهور من تلقاء نفسك ...... كان يمكنك التعرض الكثير من الخاطر في الطريق ........ كيف سمحوا لكِ بقطع تذكرة حافلة سفر ؟!!! ..... هذه جريمة !! .... )
قالت تيماء بخفوت و عيناها تلمعان بالتحدي
( أنا لن أضر نفسي أبدا ..... لو كان شيئا لا أستطيعه لما أقدمت عليه ....... )
تأفف قاصي بصوتٍ عالٍ وهو يحك شعره بنفاذ صبر ..... و كانت تيماء تتأمله طويلا ثم قالت فجأة
( لماذا شعرك طويلا بهذا الشكل كالفتيات ؟!! ...... لماذا لا تقصه ؟!! ..... )
انتفض ناظرا اليها و هدر بها فجأة
( كنت صبي .... و الآن أشبه الفتيات ؟!!! ....... أتعلمين لو أحد غيرك في موقعك هذا لما سلم من قبضتي ابدا , فاشكري حظك و اسم والدك ..... )
لم تهتز عضلة في وجهها دليلا على الخوف منه كما كان يتمنى ..... بل ظلت تراقبه بصمت , فقال مستخدما اسلوبا آخر من المؤكد أنه سيكون أكثر فاعلية مع الفتيات
( ثم لماذا يغيظك شعري ؟!! ..... الأنه ناعم ؟!! ... بعكس شعرك الذي يشبه أسلاك النحاس ؟!! .... )
أظلمت عيناها .....و تحول لونهما الى القاتم فجأة ....
فرجع قاصي الى ظهر مقعده متفاخرا واضعا ساقا فوق الأخرى قائلا بداخله
" نلت منك ......... "
رفعت تيماء احدى حاجبيها و هي تقول ببرود
( الرجل ليس بشعره ............ )
رفع قاصي نفس الحاجب وهو يرد عليها متحديا
( لكن من المؤكد أن الفتاة كذلك ........... )
ظلت صامتة عدة لحظات ثم قالت أخيرا
( هذه نظرة سطحية جدا للفتيات ........... )
كان دوره في أن تظلم عيناه وهو يزفر نفسا حانقا من انفه ..... ثم قال أخيرا بصرامة
( ما علينا من هذا الحوار ....... فلنعد الى موضوعنا ....... )
الا أنها قاطعته قائلة باهتمام
( ما سبب الجروح الموجودة على صدرك و ذراعيك ؟؟............ )
ارتفع حاجبيه متفاجئا .....انها طفلة غريبة ذات عينين ثاقبتي النظر , على عكس المقولة التي تدعي أن أصاحب الأعين الملونة ضعاف النظر عادة ....
لكنه أجابها بهدوء
( انا أروض خيول ........... )
برقت عيناها باهتمام و قالت
( حقا ؟!! ......... أين هي تلك الخيول ؟!! ........ )
رد عليها قاصي بخفوت
( ليست هنا بل في البلدة ...... على بعد مئات الكيلومترات من هنا ........ )
قالت بحماس
( بلدة أبي أليس كذلك ؟؟........... هل أنت من نفس البلدة ؟؟ ...... )
تلبدت ملامحه قليلا ... و شعرت بأنه قد بأكثر مما يريد .... لكنه بعد عدة لحظات غمغم بإيجاز
( نعم .......... )
ابتسمت للمرة الأولى منذ أن التقته ... و هاله مدى جمال الغمازتين على وجنتيها الحمراوين و هي تقول
( نحن بلديات اذن ....... )
وجد نفسه ينطق شاردا رغم عنه .... و كأن لسان يتحدث دون اذن منه بخفوت شديد
( نعم ....... نحن كذلك ....... )
ظل ينظر اليها قليلا دون حتى أن يبتسم ..... و كأنه يجد وجهها مادة مثيرة للإهتمام ..... آسرة للأعين .....
و بعد فترة تنحنح قائلا بخشونة
( هلا تركتِ هذا الخبز اليابس من فضلك ...... سأطلب لكِ طعاما لائقا .... )
ابتسمت تيماء و قالت بهدوء
( لا شكرا ...... لا أريد أن أكلفك شيئا ....... )
ابتسم هو الآن رغم عنه ..... ثم قال بخفوت
( ستكلفينني أكثر مما تتخيلين لو لن تعودي لأمك في التو اللحظة ...... سأحضر لكِ ما تأكلينه ثم أقلك بنفسي , على الرغم من أن الذهاب الى مدينتك و العودة منها سيقضي على يوم عطلتي بأكمله ...... )
استقامت في جلستها فجأة و برقت عيناها برفضٍ صارم و هي تهتف
( أنت لم تفهمني على ما يبدو ...... أنا لن أعود الى أمي ..... أنا ذاهبة لأبي و سأبقى معه ...... )
أسقط قاصي رأسه للخلف متنهدا بقسوةٍ و يأس .... قبل أن يرفع رأسه مجددا وهو يقول بغلظةٍ و حدة
( بالله عليكِ متى كانت آخر مرة رأيتِ بها والدك ؟!!! ......... )
ظلت تجابه عينيه دون أن تحيد عنهما أو أن تتردد .... لكنها قالت ببرود
( رأيته مرتين .......آخرهما كانت منذ أربع سنوات ...... )
تنهد قاصي مجددا وهو يقول بلهجةِ ذات مغزى علها تفهم
( رأيتهِ مرتين ...... مرتين خلال اربعة عشر عاما ...... ما الذي يجعلك تظنينه أنه قد يقبل بتغيير الأمور الآن ؟!!! ........ )
ظلت تيماء تنظر اليه بصمت ..... لكن لم يفته نظرة الألم بعينيها ... لكنها نجحت في اخفائها بسرعة و مهارة بتحدي الأطفال المتمرد الرافض للخضوع .... لذا قالت بقوة
( كان الأمر مختلفا قديما .... هوا لم يحظى بالفرصة للتعرف الي .... أنا واثقة أنه لو قابلني فسأستطيع اقناعه بشخصي ....... أنا كبرت و أصبحت أنضج من عمري أيضا ... كما أنني متفوقة جدا في دراستي و رياضية كذلك .... أي أنني أصبحت مثال للإبنة التي قد يتمناها ...... )
رد قاصي قبل أن يستطيع أن يمنع نفسه
( لديه بالفعل ابنة تحمل كل هذه المواصفات و اقد اختارها هي ...... فلما سيحتاج الأخرى طالما افترقت بكما الطرق ؟؟ .... )
كان فظا .... قاسيا ..... لا يعرف معنى المداهنة في الكلام ....
لقد اعتاد طوال عمره أن يقطع عرقا فيسيح دمه ..... على أن يظل يدور في دوائر مفرغة لا طائل لها .....
ربما سيؤلمها الآن قليلا ..... لكن هذا أفضل من أن تظل معشمة باحلام كاذبة لن تتحقق .....
الا أنها لم تيأس ... فهتفت بقوة
( لا أحد يختار أبنائه ....... أنا ابنته و هذا ليس اختيار ..... يجب عليه أن يتقبلني ...... )
أغمض قاصي عينيه يائسا وهو يضغط أعلى أنفه ..... ثم لم يلبث أن نظر اليها قائلا بهدوء
( اسمعي ..... لقد تكفل بكِ والدك و أمن لكِ حياة مرفهة تتمناها أي فتاة أخرى في مثل عمرك ...... و لديكِ أمك معك ..... فلماذا تتغاضين عن كل ذلك و تنظرين الى ما لا يمكن تحقيقه ؟؟ ........ )
هتفت تيماء بقوة
( أنا ابنته ........ و أريد أن أكون جزءا من عائلته ....... صدقني هو لا يريدني لأنه لا يعرفني ..... لو تعرف الي جيدا فسيعجب بي ... بل و سيصر على أخذي من أمي ....... )
صمتت لحظة و هي تخفض عينيها الى أصابعها الصغيرة في حجرها .... ثم تابعت بصوتٍ اكثر خفوتا ...
( أنا لم أنل الفرصة بعد كي استطيع اقناعه بنفسي ...... انه لا يترك لي رقم هاتف كي استطيع الإتصال به ....... لقد كان الوصول اليك أسهل من الوصول اليه .... وجدت رقم هاتفك و عنوانك لدى أمي .... بينما هو ... لا شيء ..... يضع بيننا حواجز كي لا يراني .... لأنه يعرف تماما أنه لو قابلني فسيقتنع بي ..... وهو لا يريد ذلك ....... )
صمت قاصي وهو يتأملها طويلا .... ثم قال بهدوء
( لو اتصلت به الآن , سيجرحك جوابه ..... و قد تكون عواقب الإتصال سيئة , فقد يغضب و يعاقبك ...... فما هو رأيك ؟!! .... أمصممة على الإتصال به ؟؟ .....)
كانت تبادله النظر بقوة .... دون أن تطرف عيناها , ثم قالت أخيرا
( نعم مصممة .............. أتصل به الآن ......)
ساد صمت مشحون بينهما و كلاهما ينظر لعين الآخر ...... قبل أن يقول قاصي أخيرا بفتور
( حسنا ......... لكن تذكري أنني قد حذرتك .........)
لم ترد تيماء على الفور ... و كأن الرد قد خانها للمرة الأولى , فبقت مكانها تنظر اليه بصمت ... و هو يبادلها النظر و كأنه يمنحها الفرصة الأخيرة .... لكن حين لم تستغلها , نهض من مكانه ليلتقط هاتفه و طلب منه رقما ....ووقف منتظرا أمامها , مخفض الرأس و شعره الكثيف يغطي وجهه .... فيخفي عنها عينيه ...
بينما كانت هذه الثواني الضئيلة مدمرة لتيماء و هي تنتظر مصير حياتها كما اعتقدت .....
سرعان ما رفع قاصي رأسه وهو يرد قائلا
( صباح الخير سيد سالم .......... نعم نعم بخير ..... آسف لأنني أهاتفك في مثل هذا الوقت , لكن ...... )
صمت للحظة وهو ينظر الى تيماء من علو ..... ثم أضاف بجمود
( هناك وضع طارىء ........ ابنتك ..... لا ., ليست مسك .... بل تيماء ..... لقد عرفت الطريق الى بيتي و هي هنا الآن ...... تريد أن ...... )
لم يستطع قاصي متابعة حواره ...... بل أبعد الهاتف عن أذنه وهو يغمض عينيه ... بينما صوت رجولي خشن يندفع صادحا بقوة اخترقت المكان من حولهما
" ماذا ؟!!! .... كيف وصلت اليك يا قاصي ؟؟!! ... لقد حذرتك ... و كيف تخرج وحدها بل و تسافر بالحافلة أيضا دون رقيب ؟!!...... أحجز لها تذكرة حافلة أو قطار أيهما متوفر و أرجعها لأمها على الفور .... لا تنقصني هذه المرأة بمشاكلها مجددا ...... و اصرف لهما مبلغا اضافيا إن كانا يحتاجان للمزيد .... "
كان قاصي في هذه اللحظات لا يزال مغمضا عينيه وهو يعلم جيدا بأن صوت سالم قد وصل تيماء بوضوح ... لكنه في الواقع لم يكن ليهتم ... بل على العكس , يظن أن هذا أفضل لها ...
لذا تابع قائلا
( ما فهمته أنها لا تحتاج لأي مال اضافي سيد سالم .... انها فقط تحتاج الى فرصة في الوصول اليك و التحدث معك قليلا ..... تظن أنها تحتاجك .... )
شدد قاصدا على كلمة " تظن " .... بطريقة مهينة نوعا ما ....
الا أن سالم لم يلحظ نبرته .... بل قاطعه قائلا بقوة
" اياك و أن تمنحها الرقم أو أي عنوان يا قاصي ...... فقد تأكد من وصولها لأمها و أنهي هذا الأمر سريعا و أحرص على الا تعيدها و الا عاقبتها كما لم افعل من قبل ..... أنذرها بذلك ..... "
رفع قاصي عينيه الى عيني تيماء التي كانت قابعة مكانها بصمت تبادله النظر .... لم تبد ملامحها متغيرة
الا أن عيناها الفيروزيتين ابلغتاه بوضوح أنها قد سمعت كل كلمة هادرة .... و الكبرياء بهما يرفض أن تظهر ذلك ....
للحظات ظل النظر بينهما ممتدا .... و كأن هناك حوارا طويلا بين أعينهما .....
جعل قاصي ينهيه زافرا بقوة .... شاتما همسا .... فسمعه سالم و قال بقلق
" ماذا قلت يا قاصي ؟؟ ...... "
ابتسم قاصي بسخرية و رد بتهذيب لا يظهر على ملامحه
( قلت أوامرك مجابة سيد سالم ......... )
رد سالم قائلا بقوة و ارتياح
( جيد ...... اسمعني الآن جيدا , مسك على وشك الوصول الى المدينة , أريدك أن تنتظرها و تقلها الى حيث بطولة الفروسية ...... موعد وصولها بعد ساعتين ..... فلا تجعلها تنتظر ..... )
أغلق قاصي الهاتف دون ان يجد نفسه قادرا على الرد بكلمة ....
بل واقف مكانه ... صلبا متجهما ويداه في خصره وهو ينظر الى تيماء التي انخفض رأسها بانكسار للمرة الأولى منذ أن دخلت الى هنا .....
كانت عيناه تحترقان بنارٍ وهجها قادر على احراق الهواء من حوله ..... و الغل يحرق صدره .....
لقد ساعده سالم كثيرا و لا يستطيع انكار ذلك ..... ولولاه لربما انتهى الى نهاية سوداء لا قرار لها
لكنه في تلك اللحظة يشعر به يكره كرها قريبا من الكره الذي يكنه لوالده .....
عند هذه الكلمة تحولت عيناه الى جمرتين من الجحيم .....
حين تكلم أخيرا .... وجد نفسه يقول بصوتٍ قاتم
( ماذا سأفعل بكِ الآن ؟!! ......... )
رفعت تيماء عينيها و قد بديتا فارغتين بشكل غريب .... لكنها تكلمت بنفس هدوءها و بساطتها
( هلا حجزت لي تذكرة في الحافلة كما طلب منك وا ..... والدي ....... لو كنت أمتلك المال الآن لأعطيتك ثمنها , لكن على ما يبدو أنني تأملت أكثر من اللازم .... ووثقت في نفسي بدرجة تدعو للسخرية فتركت المال كله لأمي .... )
كان كلامها يفوق عمرها بالكثير .... و هو لا يزال يراها لا تزيد عن العاشرة من عمرها
لذا كان هذا يجعله مرتبكا .... غاضبا .....
لا يعرف إن كان غاضبا منها أم من تهورها ...... ام من والدها و تصرفه النذل .... ام ذكريات أشد سوادا تحيط به من كل اتجاه انبعثت بداخله فجأة .....
اقترب منها ليعاود الجلوس أمامها .... ثم قال بحنق و كأنه يحدث نفسه
( لا يمكنني السماح لكِ بالسفر بمفردك مجددا ...... كانت هذه مجازفة بالغة الحماقة من جانبك ...... )
رفعت تيماء كتفيها بلا اهتمام حقيقي و هي تقول بفتور
( الأمر ليس خطير الى تلك الدرجة ....... مجرد ثلاث ساعات على الأكثر بالحافلة ....... )
قال قاصي عابسا بشدة
( مستحيل .............. )
رفعت حاجبيها و هي تقول
( ان كان والدي نفسه ليس قلقا ..... فلماذا تفعل أنت ؟!! ....... )
زم قاصي شفتيه وهو يقول بتذمر
( اعتبريني من النوع قديم الطراز .......... ).
نظر الى ساعة هاتفه ... ثم زفر بقوة وهو يحادث نفسه
( لن يكفي الوقت كي أقلك و أعود خلال ساعتين بالتأكيد ..... اذن ما العمل ؟!! ..... )
رفع عينيه الصارمتين اليها و قال بشك آمرا
( لو تركتك هنا في البيت ...... هل تعدين بالجلوس مهذبة الى أن أعود اليكِ ؟!! ...... )
ارتفع حاجبي تيماء و هي تعطيه الجواب الصادق دون الحاجة للرد ... فقال مغتاظا من بين أسنانه
( هذا ما توقعته تماما ........ تبا لكِ , أين ذهبت تربية الأطفال ؟!! .... )
قالت تيماء بقسوة
( أنا لست طفلة .......... )
الا انه قاطعها بفظاظة
( هلا أمددتِني بسكوتك من فضلك !! ...... يكفي ما فعلتِه حتى الآن ...... )
رفع وجهه اليه و قال بعد تفكير عميق
( لا حل ثاني لدي ..... أنا سأدخل لأخذ حمام و اجهز نفسي ثم ننتظر الى أن يحين موعد خروجي ... ستأتين معي ...... )
ظلت تيماء جالسة مكانها ... صامتة و هي ترفع عينيها الكبيرتين اليه ....
فزفر مرة أخرى قبل ان يستدير مبتعدا عنها ......
نظرت تيماء الى حيث ترك هاتفه مكانه على احدى الطاولات المرتفعة .... فعضت على شفتيها بتوتر و طارت بعينيها الى حيث اختفى و ما أن سمعت صوت انغلاق الباب على ما يبدو أنه باب الحمام
نهضت من مكانها على الفور قافزة الى حيث هاتفه فالتقطته بأصابعٍ مرتجفة ...
و ما أن أضائت الشاشة حتى استدعت تلقائيا الرقم الأخير الذي اتصل به ....
ظلت تنظر الى الرقم عدة لحظات قبل أن تضغط على زر الاتصال ثم رفعته ببطىء الى أذنها و قلبها الصغير يخفق بعنف و ترقب ...
سرعان ما سمعت صوتا رجوليا خشنا يقول بصلابة و بلكنة لم يغيرها الزمن أو السفر المستمر
( ماذا هناك بعد يا قاصي ؟!! .... لم تأخذ وقتك بعد في حجز تذكرة لها , اسمع يا قاصي ..... اريد الانتهاء من هذه المشكلة في اسرع وقت ....... )
كانت تيماء ترتجف بعنف ... و عيناها متسعتان على أقصى اتساع ... منبهرتين ووجنتيها حمراوين و شفتيها ترتعشان بابتسامة و كأنها مراهقة تتصل بحبيبها الأول .....
ابتلعت ريقها حين سمعت صوت سالم الرافعي يقول بخشونة أكبر
( ما بالك صامتا يا قاصي ؟؟ ........ )
استجمعت تيماء قواها الفتية و قالت بخفوت و بصوتٍ ثابت
( هذه أنا يا أبي ..... تيماء ...... )
سمعته يقول بصوت متباعد
( آآه ياللهي ............ )
الا أنها قاطعته بسرعة و كأنها قد منحنت فرصة لعدة ثواني فقط كي تستطيع اقناعه بنفسها
( أبي اسمعني للحظة .... أنا كنت أريد أنني سأبهرك حقا بمستواي التعليمي ... أنا ترتيبي الأول على مدرستي .... لقد كنت أعمل بجد خلال السنوات الماضية .... و يلقبونني بالنابغة ... لقد فزت بعدة مسابقات علمية و أدبية .... و لي صورة مع وكيل وزارة التربية و التعليم وهو يسلمني شهادة تقدير ..... لقد أردت أن تفخر بي .... و أريد القدوم للسكن معك و مع عائلتي .... لقد سمعت الكثير عن عائلتي و اريد أن ...... )
قاطعها صوت سالم الرافعي هادرا
( تيماااااااء ..... توقفي عن هذا الكلام فورا , ما فعلتهِ تستحقين عليه عقابا لا تنسيه لسنواتٍ طويلة قادمة .... كيف تتجرأين على السفر وحدك و زيارة شاب غريب لا تعرفين عنه شيئا ؟!! .... لو كنتِ أمامي الآن لصفعتك حتى يهتز الضوء امام عينيكِ ..... ستعودين الى امك على الفور و تنسين كل الهراء الذي قلتهِ للتو .... والديكِ هما من يقرران حياتك ... لا أنتِ .....
أنا ووالدتك انفصلنا قبل حتى أن تولدي .... تقبلي هذا الإنفصال لانني لن أستطيع تقديم ما هو أفضل ...... و حين تتقبلين الوضع ستجدين كل طلباتك مجابة ..... غير هذا ستجدين وجها آخر لم تريه من قبل ..... )
ثم سمعت صوت غلق الخط بدا قويا و كأنه باب صفقه في أذنها بعنف ....
ظلت تيماء واقفة مكانها و الهاتف على أذنها لفترة طويلة ... قبل ان تسمع صوت حركة خلفها
فالتفتت و الهاتف لا يزال على أذنها .. لتجد قاصي واقفا عند الممر وهو ينظر اليها متجهما .... قبل ان يقول بخفوت قاتم
( علمت أنكِ ستفعلين هذا ........... )
لم ترد تيماء على الفور ... بل أخفضت الهاتف ببطىء و أعادته الى مكانه قبل ان تتراجع خطوتين و هي تقول بصوتٍ غريب دون أن تنظر اليه
( آسفة ..... لم يكن علي فتح هاتفك ..... )
ظل قاصي صامتا قليلا قبل أن يقول بخفوت
( هل ستبكين ؟؟ ........ )
رفعت وجهها شديد الاحمرار اليه قبل أن تهمس بهدوء
( لماذا ؟!! ...... كانت مجرد محاولة ......... )
لم يبد عليه أنه صدقها ... الا أنه عاد ليستدير مبتعدا عنها لكن ليس قبل أن يأخذ هتفه معه هذه المرة ....
دخل قاصي الحمام صافقا الباب خلفه بعنف ....
ثم اتجه الى الحوض ليتمسك به بقبضتيه حتى ابيضت مفاصل أصابعه وهو منخفض الرأس حتى أخفى شعره ملامحه .....
كان يتنفس بصوتٍ عالٍ ... قبل أن يرفع عينيه ببطىء لينظر اليهما في المرآة
عيناه من النوع المخيف وهو يعلم ذلك .... لكنهما لم يكونا كذلك بقوانين الوراثة ...
بل اكتسبتا الشر مع مرور الأيام و السنوات ... و الإدراك .....
جمرتان مشتعلتان .... هذا هو الوصف الذي تكرر أكثر من مرة أمامه .... و معظمها من فتيات أعجبن بعينيه , بينما لم يتركن في ذاكرته اسما أو حتى ملامح .....
أما هو فلم يرى أي اعجاب يوما بنظره عينيه

بل أصبح ينفر من نظرتهما كل عام يمر .... بداخله مرار غير قابلٍ للتداوي ....
وصمة عار غير قابلة للمحو أو التعديل ....
و تلك الصغيرة الواقفة في منتصف بهو منزله .... أثارت بداخله طاقة من العنف تجاه سالم الرافعي ....
على الرغم من أنه كان الأكثر تقبلا له ..... و يحمل له الكثير من العرفان و الإمتنان
لكن تصرفه اليوم رغم أنه كان يتوقعه بنسبة مئة بالمئة ... لكن سماعه على الواقع أثار تقززه ...

تيماء سالم الرافعي ...
ابنة زواج يعتبر من زيجات النزوة في عائلة الرافعي ....
سالم الرافعي و المتزوج من ابنة عمه بحكم قانون العائلة و النسب و التي أنجب منها وردة عائلة الرافعي
مسك سالم الرافعي " "
لم يكن بعيدا عن بضع تجاوزات نسائية لو صح تسميتها بهذا الإسم ...
انتهت بزواج متهور في أحد المدن الساحلية حيث كان يقضي سهرات نهاية الإسبوع عادة ...
فتاة عاملة تعرف عليها و استطاعت بمهارة اجباره على زواج سريع عنها ...
لم تكن ذات أصل معروف أو نسب عريق .... لكنها لم تكن سهلة المنال...
و جمالها الساحلي جعله يسرع في الزواج منها سرا .... على الا تنجب و تنسى حلم الأمومة مطلقا .....
لكن الطمع و ربما الخطأ كما ادعت جعلها تقع في المحظور و تحمل بطفلته .... و كتب القدر كلمته و جاءت تيماء الى الحياة ....
كان سالم من الضمير بحيث سجلها في المشفى على مضض و اختار لها اسمها ... و تكفل بها هي و أمها من يومها ماديا بأحسن ما يكون .... على أن تبتعد والدتها بالطفلة عن حياته ..... و لا ينتظران منه أي تواصل
و تم الطلاق أمام ما كان يدفعه سالم بسخاء .....
حتى اليوم كان قاصي يرى أن سالم أكثر انصافا من كثير من البشر ....
فعلى الأقل هذه الفتاة ... نشأت نشأة مرفهة مادية ... و دخلت أفضل المدارس في مدينتها ....
لكنه لم يتخيل أن تتكون لدى هذه الفتاة غريزة الحنين للأب مع مرور السنوات ....
زفر قاصي بقنوط وهو يستدير مسندا بكفيه و ظهره لحافة الحوض ... ناظرا للبعيد بعينيه الشبيهتين بالجمرتين .... و همس بعدم اقتناع
( لقد حظت بأفضل الفرص في الحياة ...... فلماذا أهتم ؟!! ....... )
.................................................. .................................................. ............
خرج قاصي من غرفته بعد أن جهز تماما .... و صفف شعره المبلل و عقده في ربطةٍ صارمة خلف عنقه ....
قميصه الأسود المفتوح حتى مقدمة صدره .... و بنطاله الجينز الضيق كانا يمنحانه منظرا متمردا ....
منظرا يخالف شيئا ما ..... يخالف جذوره .....
عقد حاجبيه وهو يجيل النظر في أرجاء المكان الخالي .... فلم يجد اثرا لتيماء ...
هل هربت ؟!! ....
هتف فجأة بقوة و قلق
( اللعنة ................. )
ثم اندفع الى باب الشقة ... ينوي الخروج بحثا عنها .... لكن نظرة واحدة منه الى حقيبتها التي لا تزال متواجدة مكانها أرضا ... جعله يقف مكانه و يتنفس الصعداء ....
ثم نفخ صدره وهو يعاود البحث عنها بتأني .... فقادته قدماه الى المطبخ , بما أنها سبق و اقتحمته ....
للوهلة الأولى كان خاليا .... لكن صوت خافت جعله يتسمر مكانه و يدقق النظر ...
فوجد حذائيها الرياضيين الأبيضين ظاهرين من خلف الثلاجة ... و هي مختفية خلها تجلس أرضا و تضم ركبتيها الى صدرها ....
كانت تبكي كالأطفال ... و كان قد بدأ يشك في أنها طفلة من الأساس .....
وقف قاصي مكانه وهو يشعر بشعور غريب ..لم يستطع تفسيره ...
منظر اهتزاز جسدها الصغير ... و صوت نحيبها الذي كانت تحاول جاهدة على كتمانه ...
بعثا به شعور مقلق و غير مريح ....
تحرك من مكانه و اتجه الى الحوض وهو يتظاهر بعدم رؤيتها .... الى أن أعطاها ظهره و قد لاحظ أنها صمتت تماما عله يغفل عن وجودها ....
الا أنه تابع تجاهلها ... و هو يغسل كوبين من الأكواب المتسخة العديدة المتواجدة ....
و ما أن شعر بها تزحف على ركبتيها و كفيها لتهرب منه كي لا يراها في وقت ضعفها و هي تبكي كالأطفال .... حتى قال بصوتٍ عالٍ من خلف كتفه دون أن ينظر اليها ..
( هناك القليل من الحليب المقترب من انتهاء الصلاحية .... أتريدين شربه ؟!! .... لأنني سأعد فطورا بما أن الوقت لا يزال متوفرا لدينا ..... )
بقت تيماء مكانها على ركبتيها و كفيها تنظر اليه بصمت .... حمراء العينين , منتفخة الأنف .....
ثم قالت أخيرا بخفوت
( لاحظت وجود بعض النقانق ..... لقد سال لعابي لها .... هلا أعدت لي بعضها ؟ , هذا لو كانت من لحم كائن صالح للأكل ..... فأنا لم آكل شيئا طوال يوم أمس من شدة الحماس .... لكن على ما يبدو أن للإحباط أثر عكسي ..... )
ابتسم قاصي دون أن يستدير اليها .....
لكنه قال بصوتٍ صارم
( لو أردتِ الأكل فاعملي لأجل لقمة عيشك ..... اذهبي الى غرفة المعيشة و قومي بتنظيفها كي نتمكن من الأكل في بيئة صالحة ..... فعلى الأرجح ستجدين هناك أسرة من الفئران ...... )
قفزت تيماء على قدميها و هي تهتف ماسحة أنفها بظاهر يدها
( أنا ماهرة في اصطياد الفئران ...... هل لديك مصيدة حديدية و سم فئران ؟!! ...... )
توقفت يدا قاصي عن العمل وهو يعقد حاجبيه بذهول !! ....
ثم لم يلبث أن قال بارتياب
( لما لا تبدأين بالوظيفة السهلة أولا ؟؟.... ثم ننظر في امر اصطياد الفئران بعد انتهائنا من الطعام ..... )
حين انتهى قاصي أخيرا من اعداد بعض النقانق ووضعها فوق صينية تحوي كوب من الحليب .... و بعض البيض المقلي .....
خرج الى غرفة المعيشة وهو يتوقع ان تكون تيماء قد عاثت فيها فسادا و دمرت المتبقي منها ....
الا أنه ذهل حين وجدها تمسح احدى الطاولات ... و قد نزعت الشريطة المتعدة الألوان التي كانت تعقدها حول معصمها .... و عاشت الدور لدرجة أن ربطتها حول جبهتها و انسدلت ضفيرتيها من تحتها فبدت كخادمة صغيرة و هي تعمل بمهارة هنا و هناك .... و قد بدت الغرفة مرتبة فعلا ....
قال قاصي بذهول وهو ينظر حوله
( لقد انبهرت ........ حقا ..... )
رفعت تيماء وجهها اليه و قالت بحماس ....
( أنا سأموت من الجوع ..... هل أستحق الطعام الآن ؟!! ..... )
تردد قاصي قليلا وهو ينظر حوله مجددا ... ثم قال بهدوء
( لقد أعددت بيضا اضافيا ...... و هذا يعتمد عليه غسل الصحون المتراكمة في المطبخ ..... )
قفزت تيماء متربعة على الأريكة في حركةٍ واحدة و هي تقول
( سأغسلهم بعد أن آكل .......... )
وضع قاصي الصينية على الطاولة أمامها .... ثم جلس مقابلها أرضا و بدأ يأكل معها ..... لكن عيناه كانتا تتأملان نهمها في الأكل .... و الربطة الملونة لا تزال حول رأسها كالوشاح الريفي ....
يبدو أن الأطفال ينسون أوجاعهم بسرعة أكبر مما كان يظن ......
و هذا أراحه قليلا .... فهو ليس ماهرا في التعامل مع الإنهيارات العاطفية ......
قال أخيرا محاولا جرها الى الكلام
( اذن أخبريني ...... لماذا قمتِ بتغيير اسمك ؟؟ .... أراه مميزا و ملفتا ..... )
أخذت قضمة كبيرة و هي تقول ببساطة دون أن تنظر اليه
( لم أحب معناه ............ )
عقد قاصي حاجبيه وهو يقول
( حقا ؟!! .,....... و ما معناه ؟ ....... )
قالت تيماء بهدوء
( الأرض الواسعة القاحلة ..... من يدخلها يهلك بها ....... )
ضاقت عينا قاصي وهو يتاملها مليا بعد هذا الوصف الغريب ... ثم سألها متعجبا
( و كيف عرفتِ معناه ؟!! ......... )
رفعت تيماء عينيها الفيروزيتين اليه و قالت و هي تمضغ طعامها
( أنا متفوقة جدا في دراستي كما أنني أدخل مسابقات اللغة العربية و أفوز بها باستمرار .... فلا أترك كلمة تمر الا وعرفت معناها ..... هذا بخلاف أنه اسمي فمن الطبيعي أن يكون أول ما ابحث في معناه .... )
رفع قاصي احدى حاجبيه وهو يرى نفسه امام طفلة غريبة للغاية .... حين يتكلم معها يكاد أن ينسى بأنها طفلة فعلا .....
قال قاصي بخفوت وهو يتأملها طويلا
( وهل تعرفين معنى اسمي ؟؟ .......... )
نظرت اليه تيماء مجددا و هي تقول ببساطة
( طبعا ...... ..... )
نظرت الي عينيه و قالت بخفوت
( البعيد ...... البعيد جدا .......... )
ظلا ينظران الى بعضهما طويلا .... قبل أن يمد قاصي قبضته المضمومة عبر الطاولة متنحنحا ..... و قد اخذ لعدة لحظات بجمال لون عينيها ... .
( تشرفنا بمعرفة معاني أسمائنا آنسة تيماء ........ )
مدت قبضتها المضمومة تلقائيا و ضربت بها قبضته .... فقال مبتسما
( قبضتك كقبضة الصبية ........... )
ضحكت تيماء بصوتٍ عالٍ و هي تقول
( هذا لأنني بطلة في رياضة الجودو ...... لكن بصراحة أفضل الخيول رغم أنني لم أراها يوما على الطبيعة ... أتوق الى رؤيتك و أنت تروضها ...... )
قال قاصي بصوتٍ خافت
( ليس هذا مشهدا جميلا تماما ...... أشعر بالذنب و انا أفعل ذلك .... أن أحني ارادتها و أخضعها بينما هي كائنات رائعة الكبرياء و الإندفاع ..... )
صمت قليلا قبل أن يرفع وجهه اليها قائلا بتحذير صارم
( أنتِ أصلا لن ترينني مجددا ...... هل هذا مفهوم ؟؟؟ ....... ستنسين اسم قاصي الحكيم و تمحيه من دفتر عقلك للأبد ...... )
مطت تيماء شفتيها و هي تقول بامتعاض
( أمن جمال عينيك سأرغب في رؤيتك مجددا ؟!!! ........ أو زيارة هذه الزريبة ثانية ؟!! ..... )
عقد قاصي حاجبيه و هتف بصرامة
( احترمي نفسك يا فتاة ..... و الا رميتك خارج الزريبة , أقصد الشقة ....... )
نفضت تيماء كفيها بعد أن انتهت من طعامها و امتلأت معدتها .... ثم قالت
( أنت شخص غريب جدا بالمناسبة ......... )
نظر اليها قاصي بقسوة ثم قال متذمرا نافذ الصبر
( لماذا يا سيدة الحسن و الدلال ......... )
قالت تيماء بخفوت
( من المفترض أنك من نفس بلدة أبي ... و حسب ما أعرفه أنهم يحافظون على مظهر معين نوعا ما ... بينما أنت مختلف ..... طويل الشعر .... تعزف على الجيتار ..... لكن ترويض الخيول قد يناسبهم .... )
قال قاصي بصوتٍ غريب
( يناسب من ؟؟ ........... )
ردت تيماء متعجبة من تغير نبرة صوته
( أهل الجنوب عامة ..... عائلة أبي مثلا .... لا أعرف , لقد رسمت لهم صورا عديدة حسب ما جمعته من معلومات ..... لكنني لم أقابل أي منهم من قبل ..... )
عبث قاصي بطعامه قليلا قبل أن يقول ببرود
( أنت تجمعين معلوماتٍ ظاهرية .... بعيدة كل البعد عن العصر الحالي .... انهم أناس عاديون ... يرتادون أعرق المدارس و الجامعات .... و الكثير من أفراد عائلتك مثلا تابع دراسته في الخارج .... لذا ستجدين منظرهم عصري ... بل شديد العصرية .... الا من بقى متمسكا بجذوره في الشكل ..... و هم قلة ... كجدك مثلا ..... )
انتفضت تيماء و هي تقول بحماس
( جدي !!! ....... كيف هو ؟!! .... و ما شكله ؟!! ........... )
قال قاصي يقاطعها بصوتٍ فظٍ لا يقبل التساهل
( تراجعي يا فتاة ......... اياكِ و التأمل من جديد كي لا تؤذين نفسك ...... اهتمي بنفسك و أمك فقط .... اتفقنا ؟؟ ...... )
ظهر بعض الألم جليا في عينيها ..... كان هذا هو احدى عيوب الأعين الملونة كما اكتشف .... لا تخفي الألم بمهارة .....
لكن كان على أحدٍ ما ايقاف جموح تلك الفتاة ...... فهي تبحث في أرضٍ ترفضها .....
قال عاصي مغييرا الموضوع
( كيف عرفتِ أنني أعزف على الجيتار ؟!! ......... )
أشارت بذقنها الى احدى زوايا الغرفة قائلة
( وجدته و انا أنظف الغرفة ......... هل تجيد العزف عليه أم أنه مجرد زينة ؟!! ...... )
لم يرد قاصي على الفور ..... بل نفض يديه هو الآخر ..... ثم نهض من مكانه و اتجه الى الجيتار و عاد به ليجلس أرضا مستندا بظهره الى الأريكة التي تجلس عليها تيماء و بدأ في العزف بخفوت قائلا
( ستكونين أنتِ أول جمهوري .......... )
بدا عزفه بطيئا .... رقيقا ..... به لمسة من قوةٍ جعلتها تفتن بعزفه .....
كان بعيدا عنها تماما وهو يعزف ....
مخفض الرأس .... ينظر الى جيتاره و كأنه وحيدا معه في عالم آخر منفصل عن كل ما حوله ......
كان كمن يتحدث الى جيتاره .... فيترجم الجيتار حديثه الى لحن عذب .....
نسيت تيماء شفتيها فاغرتين و هي تستمع الى عزفه الذي بدأ يتسارع قليلا .....
وهو يدخل في لحنٍ آخر أكثر همجية و أسرع ايقاعا ...... قبل أن يقفز واقفا وهو يعزف بكل عنف متمايلا بجسده راقصا مع اللحن ....
لم تستطع تيماء السيطرة على نوبة الضحك بهيستيرية و هي تراه يرقص بخصره متمايلا مع ألحان الجيتار ....
كان جسده العضلي المفتول شديد الليونة .... و قد بدا أحمقا تماما ....
فأخذت تشهق من شدة الضحك الى أن دمعت عيناها ... قبل أن تقفز واقفة على الأريكة من خلفه و هي تقلد حركاته ..... فالتفت اليها دون أن يتوقف .... و قال بصوتٍ عالٍ كي يعلو على اللحن الصاخب
( ما هذا اللذي تفعلينه ؟!! .... أنتِ ترقصين كالراقصة الشعبية في المواسم ........ )
هتفت من بين ضحكها الهيستيري
( و كذلك تفعل أنت ............... )
خلع قاصي الجيتار عنه .... ووضعه جانبا ووقف مكانه أمامها وهو يقول بهدوء متمايلا بجزعه و يده على معدته .... بينما الأخرى مرتفعة تعطيها التعليمات
( لا تحركي خصرك ...... بل جزعك كله مع اللحن ........ )
أخذت تيماء تقلد حركاته و هي غير قادرة على ايقاف ضحكها ... حتى انهمرت الدموع على وجهها ....
الى أن باتا يتحركان نفس الحركة تماما ...... و مر الوقت و هي غير قادرة على ايقاف ضحكها ... بينما كانت تهز أكتافها في رقصٍ شرقي دون أن يراها ...... ثم لم تلبث أن رفعت يدها الى أعلى فمها و هي تزغرد عاليا من بين ضحكاتها ....
التفت اليها قاصي ضاحكا و هو يقول دون أن يتوقف جزعه عن التحرك برشاقة
( ألم أخبرك أن نهايتك ستعملين كراقصة شعبية في المواسم ......... )
دوى فجأة صوت جرس الباب بعنفٍ متواصل ....
فصمتا فجأة و هما ينظران الى الباب معا ..... قبل ان يذهب قاصي ليفتحه تتبعه تيماء من خلفه كالعلقة ...
أغمض قاصي عينيه وهو يرى أمامه جارته السيدة امتثال .....
كانت الأعاصير تتلاعب بملامح وجهها و هي تطرق الأرض بقدمها ....
فقال بصوت بائس
( صباح الخير سيدة امتثال ........... )
الا أنها لم ترد على تحيته .... بل قالت بصوت متجمد من شدة الغضب
( أستاذ قاصي .... هل تعرف أي يوم هذا ؟؟ ....... )
فتح قاصي عينيه وهو يقول بملل
( العاشر في الشهر يا سيدة امتثال ....... )
صرخت فجأة
( بل يوم العطلة ....... اليوم الذي يرتاح به الناس و ينامون لبعض الوقت الإضافي .... كي يتمكنون من متابعة روتين حياتهم الاسبوعي الممل في وجود أمثالك من الغير مكترثين لمسؤوليات الحياة ..... )
تأوه قاصي بصمت وهو يهمس يائس
( ها قد بدأنا ............ )
الا ان امتثال هتفت بقوة
( عزفك سيء .... عزفك سيء .... أنت عازف فاشل .... فاشل .... فاشل .... )
كان قاصي يحك أذنه باصبعه من هول عميق صوتها الرفيع و الذي يبدو كمثقاب الحائط .... بينما تابعت هي بصوتٍ أكثر ازعاجا من عزفه لو كانت تعلم ذلك
( الا يكفي الضرب و التحطيم المستمر الذي أسمعه من وكرك الغريب .... و أيضا تصر على أن تتحفنا بعزفك النشاز ....... )
ضحكت تيماء من خلفه و هي تقول
( و كنت تدعي أنني أول جمهورك !! ..... أنا و نصف سكان الحي على ما يبدو .... )
التفت كلاهما فجأة و كأنهما قد انتبها توا الى وجودها .... خاصة قاصي الذي استدار خلفه ينظر اليها ثم عقد حاجبيه وهو يرى الوشاح الملون لايزال معقودا حول رأسها ... و ساقط قليلا فوق حاجبها الأيمن ....
بينما تبدو في حالةٍ مزرية بعد السفر و التنظيف ... و فكر قاصي أنه لربما يكون قد استعبدها قليلا في تنظيف غرفة معيشته .....
قالت امتثال فجأة بصوتٍ خافت مرتاب يضمر التهديد بين طياته
( من ..... هذه ؟!!! ....... هل تحضر فتيات لشقتك ؟؟ ..... )
انتفض قاصي وهو يستدير اليها هاتفا مستنكرا
( أي فتيات ؟!! ...... تلك ؟!! ...... إنها ليست فتاة ..... )
كتفت امتثال ذراعيها و هي تنظر اليه متهمة ..... فتابع قائلا بتوتر
( إنها ..... إنها ......... )
تقدمت تيماء أمامه و هي تقول بصوتٍ خافت منكسر
( أنا أبنة أخته ........ تشرفت بمعرفتك سيدتي ..... )
عقدت امتثال حاجبيها و هي تقول بشك
( أخت !! ..... هل ظهرت لك عائلة فجأة ؟!! .... منذ أن سكنت هنا لم نعرف لك قريبا أو بعيدا .... بل كنت كالنبات البري ... بلا جذور ..... )
أظلمت عينا قاصي فجأة .... و غامت نظراته بوهجهٍ رأته تيماء بوضوح و هي ترفع وجهها اليه ... لذا تطوعت بالرد قبل أن يتهور و يخطىء بحق هذه السيدة
( لقد توفت أمي منذ سنوات ....... كانت لتسر بأن توصيكِ عليه لتهتمي به ... فقد كان المدلل لديها .... )
أسبلت تيماء بجفنيها فانخفضت زاويتي السيدة امتثال تلقائيا و هي تهمس بينما فكت انعقاد ذراعيها و حاجبيها
( آآه .... البقاء لله يا صغيرتي .......وأين هو والدك ؟؟ ...... )
تنهدت تيماء و هي تقول بخفوت
( أسكن معه من يوم الحادث و أعتني به ...... وهذه أول مرة آتي أنا لزيارة خالي , فهو عادة من يأتي لزيارتنا و السؤال عن والدي .... لأنه لم يتأقلم بعد على فقدان أمي .... )
تأوهت امتثال بصمت ... ثم اقتربت لتربت على قمة رأسها الصغير المغطى بالوشاح الملون المعقود و هي تقول بخفوت
( سعدت بمعرفتك ........ )
نظرت الى قاصي الذي كان ينظر بدوره الى تيماء مذهولا , عاقدا حاجبيه ..... ثم قالت بصوتٍ مشتد
( سأتركك مع ابنة شقيقتك اللطيفة .... لكن هلا توقفت عن العزف و الغناء رجاءا ..... فأنت فاشل .... اسمعها مني قبل أن تسمعها من غيري ..... )
ابتسمت لتيماء برقة .... قبل أن ترمق قاصي شزرا و تنصرف الى شقتها ....
أغلقت تيماء الباب و هي تنظر اليه مبتسمة حتى ظهرت غمازتيها عميقتين ..... بينما كان هو متراجعا للخلف , عاقدا ذراعيه وهو ينظر اليها بعينين ضيقتين ... ثم قال بهدوء بطيء
( ما فائدة هذا العرض المسرحي الذي حدث للتو ؟؟ .......... )
رفعت تيماء كتفيها و هي تقول ببساطة
( كان هذا أسرع و ألطف .... و سيفيدك في المستقبل و يحسن علاقتك بها من باب الشفقة عليك ... )
قال قاصي ببرود
( إن كانت لم تشفق علي و أنا نبات بري بلا جذور . فلما ستشفق علي الآن و أنا لدي قردة مثلك ؟!! ..... )
مطت شفتيها و قالت بامتعاض
( أنا المخطئة في محاولة رد الجميل لك ........ )
تنهد قاصي بنفاذ صبر .... ثم نظر الى ساعة معصمه و قال بقنوط
( لقد حان الوقت ..... هيا , اذهبي و احضري حقيبتك لنغادر ..... )
اختفى الهزل من عينيها ... و سكنت شفتيها بلا حركة .... و بدت مترددة في التحرك , فقال قاصي بصرامة لا تقبل الجدل
( الآن يا تيماء ........ هيا .... )
.................................................. .................................................. .....................
من لحظةٍ لأخرى كان يجذبه شيئا ما للنظر الى عينيها عبر مرآة السيارة ....
حيث كانت تجلس في منتصف المقعد الخلفي من السيارة مكتفة ذراعيها ... قانطة الملامح ....
شفتيها اللتين خلقتا في شكلهما للإبتسمام .... ارتسم عليهما خيبة أمل مريرة .....
أعاد نظره الى الطريق وهو يشعر بالغضب ....
مجرد بضعة ساعات و سيتخلص منها للأبد .... لكن يظن أن صورتها هذه لن تبارح خياله لفترة طويلة ...
قالت تيماء فجاة مقاطعة أفكاره
( هل ستقلني لموقف حافلات السفر ؟!! ........ )
رفع نظره الى عينيها اللتين كانتا تنظران الى عينيه في المرآة الآن ..... عينيها شديدتي الجمال كغمازتيها ....
و يعتقد أن هذه هي كل مقومات جمالها .....
قال أخيرا بفتور
( للأسف .... بقايا الضمير المضمحل لدي تأبى أن أدعك تسافرين وحدك كما أخبرتك , لذا سنذهب أولا لإحضار مسك و إيصالها الى النادي ..... ثم أعيدك الى أمك ..... و ننتهي منكِ للأبد )
يبدو
( مسك !!! ..... هل سنحضرها أولا ؟!! ..... هل سأراها ؟!! .... حقا ؟ّ!!! ....... )
قال قاصي على مضض
( نعم سترينها ....... لكن هذا سرا , قسما بالله لو بحتِ به لمخلوق فسوف ..... )
لم تمنحه الفرصة للكلام و هي تهجم عليه و تتعلق بعنقه من الخلف هاتفة بحماس مجنون
( أشكرك يا قاصي ... أشكرك ... أشكرك .... أشكرك ..... )
اتسعت عيناه بذهول وهو يتأكد مما يحدث ... حتى أنه نظر في المرآة ليتأكد بأنها متعلقة بعنقه فعلا ....
صرخ فجأة بعنف
( ابتعدي يا فتاة و عودي للخلف ...... )
انتفضت تيماء بذعر من صيحته المباغتة ... و قفزت للخلف بالفعل .... بينما كان هو يتنفس بسرعة مرجعا شعره للخلف وهو يبدو غاضب العينين بشراسة ....
الا أن تيماء قالت بشجاعة
( ماذا حدث ؟!! ...... لماذا تصرخ ؟!! ....... )
نظر الي عينيها في المرآة نظرة غاضبة .... كانت عيناها كبيرتين و متسعتين بخوف .... فأعاد نظره للطريق بحنق .... قبل أن يقول بصوتٍ أهدأ قليلا
( اسمعيني جيدا يا فتاة ...... بما أنك تسكنين بمفردك مع والدتك .... في مدينة وحكما , عليك البدء في التعلم منذ الآن أن هناك تصرفات لم تعد تليق بعمرك ...... في بلدة والدك تتزوج من هي في مثل عمرك .... ربما لن يكون والدك موجودا ليخبرك بذلك ..... لكن لا تسمحي لأحد في يومٍ ما بأن يقول أنكِ نتاج تربية امرأة .... )
رمشت تيماء بعينيها و هي تقول بفتور
( و ما الذي يعيب تربية المرأة ؟؟!! ............ )
تنهد قاصي وهو ينظر الى الطريق بإصرار مصمما الا يلتقي بعينيها مجددا .... ثم قال بإيجاز مغلقا الموضوع
( تعتبر هذه مدعاة للإتهام عند بعض البشر ......... )
قالت تيماء بإيجاز مماثل و هي تعاود عقد ذراعيها ناظرة من النافذة للطريق
( متخلفون هم اذن ............. )
نقل نظره بين نافذته الجانبية والأمامية وهو يزفر بصمت .... تبا لذلك !! .... لماذا تطوع لنصيحتها و هي المرة الاولى التي يراها اليوم ... و الأخيرة أيضا !! ....
تلك الفتاة تضج بالحرارة ... جسدها مشع بالطاقة و الجنون لدرجة مخيفة ...
وجنتها فوق فكه الخشن كانت حمراء و ساخنة ....
زفر بقوةٍ وهو ينظر من نافذته الجانبية مجددا ....
تلك الفتاة يجب التخلص منها عاجلا و ليس آجلا ......
.................................................. .................................................. .........
مضت عدة دقائق وهما ينتظران في السيارة بعد أن أوقفها قاصي ... مستندا بمرفقه الى اطار نافذته المفتوحة ....
يحاول تجاهل تيماء قدر الإمكان الى أن يتخلص منها ....
بينما كانت هي ملتصقة في النافذة المقابلة بكفيها ... تنتظر أي اشارة لظهور مسك .....
أخيرا سمعت قاصي يقول بإيجاز
( ها هي ........... )
اتسعت عيناها و تحفزت مشاعرها و هي تهتف
( أين ؟؟!! ....... أين ؟!!! ........ )
نظر اليها قاصي نظرة أفلتت منه رغم عنه .... كانت متوهجة و متحمسة بدرجة تثير الوجع ...
الا أنه لم يكن يتوجع من اجلها في الواقع .... فالفتاة محظوظة رغم كل شيء و ستدرك ذلك لاحقا ....
رد عليها بفتور
( الآتية من بعيد ...... الطويلة ذات ذيل الحصان الأسود الطويل و الكنزة الصوفية الواسعة .... )
اتسعت عينا تيماء أكثر و هي تراقب فتاة هيفاء .... طويلة و رشيقة .... تبدو في السادسة عشر لا أكثر ...
لها خيلاء الخيول .... و شعرها ... و جاذبيتها .....
كانت تقترب من السيارة مسرعة بأناقة و هي تجر حقيبتها الجميلة خلفها .....
جذبت عيني كل من يمر بها ......
أنفها مرتفع بكبرياء فطري عريق ,,,, و ابتسامتها ترسم للثقة بالنفس أبعادا أخرى ......
ابسامتها الرقي و الجمال في حد ذاتهما ... و كأن الكون يشرق لابتسامتها الأنيقة ....
عيناها بنيتان للغاية .... ذلك البني المحمر الذي يقترب من لون العقيق ...
تظهر لامعة في الشمس بدفىء عالي .....
كانت مسك قد وصلت الى السيارة فاتجهت الى الحقيبة الخلفية للسيارة و التي فتحها قاصي لها فوضعت بها حقيبتها ثم أغلقتها بقوةٍ عضلية واضحة .... قبل أن تعود و تفتح الباب و تجلس في المقعد الأمامي مبتسمة و هي تقول باشراق
( صباح الخير ,,,....... طبعا تريد ضربي .... )
نظر اليها قاصي بلا مرح وهو يقول من بين أسنانه
( كم مرة أخبرتكم أن وظيفة السائق ليست من مهمامي الرسمية ؟!! ....... )
كانت عينا مسك على تيماء المبهورة .. فاغرة الشفتين بذهول .... و هي تقول
( آسفة جدا قاصي ....... أخبرت والدي عن البطولة منذ عدة ساعات فقط .... فلم يستطع توفير سيارة بسائق في الحال .... و بصراحة اشتقت اليك .... )
نظرت اليه مكشرة أنفها و هي تقول بغضب زائف
( ألم تشتاق ألي ؟!! ..... ما هذه النذالة ؟!! ..... )
رد قاصي وهو يحرك السيارة
( حين تطير ساعات العطلة الثمينة فبالتأكيد لن تجدين سوى النذالة ........ )
قالت مسك مبتسمة و هي تنظر الى تيماء التي كانت تقريبا تجلس بينهما ... و لا تزال فاغرة الفم و عيناها لا تنخفضان عن مسك ...
( من صديقتك اللطيفة ؟!! ........... )
زم قاصي شفتيه دون أن يرد .... مركزا اهتمامه على الطريق ... فتطوعت تيماء قائلة بانبهار
( إنه يعلم لدى والدي ........ )
ارتفع حاجبي مسك و هي تنظر الى قاصي قائلة
( لدى كم والد تعمل بالضبط ؟!! ....... )
قال قاصي ون أن ينظر اليها
( أنا أعمل لدى من يحلو لي ...... هل اشتريتموني ؟!! ..... )
عقدت مسك حاجبيها و هي تقول بلهجة ذات مغزى
( أووووووه ... أحدهم غاضب بشدة , ماذا قلنا عن تمرين تنظيم النفس كلما شعرنا بالغضب ...... )
رد قاصي من بين أسنانه
( بالله عليكِ يا مسك .... أنا في استعداد لقتل أحدهم الآن فلا تكوني أنتِ رجاءا , نظرا لمعزتك عندي .... هذا اليوم ليس عاطفيا منذ بدايته ......)
فتحت مسك شفتيها تنوي الرد عليه ... لكنها صمتت حين شعرت بشيء ما يجذب بعض شعراتها ...
فالتفتت لتجد تيماء تمسك ذيل حصانها و تجري بيدها عليه و هي تنظر اليه مبهورة .... ثم قالت بذهول
( شعرك جميل جدا ...... هل هو مصفف ؟!! ..... )
نظر اليها قاصي في المرآة ... ثم لم يلبث أن ضحك رغم عنه وهو ينظر من نافذته الجانبيه .... بينما ضحكت مسك هي الأخرى و هي تقول بتهذيب راقي
( حسنا هذا لطف شديد منكِ .... لا هو ليس مصففا , لقد ورثت شعر أمي .... و أنت عيناك لونهما غريب و جميل جدا ..... )
رفعت مسك كفها و مدته الى تيماء قائلة
( بما ان قليل التهذيب هذا لا ينوي أن يعرفنا على بعضنا , فاسمحي لي بالتعريف عن نفسي ..... أنا مسك سالم الرافعي .... )
أمسكت تيماء بكفها بلهفة و هي تقول مبتسمة و غمازتيها تظهران بعمق
( أنا .... تيماء ....... )
رفعت مسك حاجبيها و هي تقول
( اسم غريب .... لكن لطيف ..... تشرفت بمعرفتك تيماء )
ردت تيماء و هي لا تزال في حالة انبهار و سعادة
( و أنا أيضا ............ )
نظرت مسك أمامها و هي تبتسم متأملة خاتم الخطبة في يدها بسعادة , فلمحها قاصي ...
فزم شفتيه ساخرا وهو يقول
( كفي عن النظر الى خاتم الخطبة يا مسك .... منذ أشهر و لم تحفظي شكله بعد !! ...... من يراكِ لا يظن أنكِ من النوع المتهافت على الخطبة ..... )
ابتسمت بسعادة و هي تقول
( و لما لا أنظر اليه ؟!! ..... لقد خطبت الى ابن عمي الذي تصادف أن أقع في حبه , .... و الجميع سعداء .... بعكس من تخطب غصبا من عائلتنا الى ابن عمها لمجرد أن هذا هو القانون .... الحياة مثالية يا قاصي يا صديقي .... لا تعب و لا مشاكل .... كل شيء على ما يرام ..... )
مط قاصي شفتيه مبتسما دون أن يرد .... بينما تابعت مسك تقول مبتسمة بخبث
( بالمناسبة ..... هل أخبرتك أن أشرف يغار منك ؟!! ....... )
نظر اليها قاصي نظرة جانبية وهو يقول باستهزاء
( يغار مني أنا ؟!! .......... )
ابتسمت أكثر و هي تقول
( نعم ..... هل تتخيل هذا ؟!! .... لقد تجاوز كل زملاء الدراسة و النادي و يغار منك أنت تحديدا ..... يرفض أن تقوم بايصالي من مكان لآخر و يرفض صداقتنا ..... )
قال قاصي وهو يدور بالسيارة بمهارة
( اذن عليكِ أن تنفذي أوامره و تقطعي علاقتك بي ..... و سيكون هذا من دواعي سروري , صدقيني ستكونين قد أسديتِ لي خدمة لن أنساها أبدا ...... , لتبحثي عن خادم آخر لكِ يا أميرة ..... )
مدت مسك وجهها و هي تقول بغيظ
( في أحلامك ........... لا غنى لي عنك ..... )
ابتسم قاصي رغم عنه ..... بينما تابع طريقه حتى أوصلها الى نادي الفروسية , و ما أن أوقف سيارته حتى خرجت مسك برشاقة و اتجهت الى صندوق السيارة .... الا أن قاصي كان قد سبقها وفتحه ليحمل حقيبتها قبل ان يقول
( ماذا ستفعلين بحقيبتك هذه ؟!! ........ هل أوصلها لشقة والدك ؟؟ ...... )
قالت مسك و هي تمسك بمقبضها
( بل أحتاج لبعض الملابس منها ...... هل يمكنك أن تأتي الى هنا الساعة السابعة ؟؟ ..... أرجوووك ... ارجوووك ... أرجوووووووك ... )
كورت شفتيها و رمشت بعينيها فبدت كجرو مثالي الجمال ... مما جعل قاصي يتافف بصوتٍ عالٍ قبل أن يقول ناظرا الى ساعة معصمه
( حسنا ..... لو تحركت الآن على الفور لربما تمكنت من الوصول اليكِ في الموعد ...... )
كانت تيماء تنظر اليهما من الزجاج الخلفي مبتسمة ... مستندة بذقنها الى ذراعيها المكتفين على ظهر المقعد الخلفي .... فقالت مسك و هي تلوح لها مبتسمة
( ألن تخبرني عن صديقتك ؟؟ .......... )
نظر قاصي هو الآخر الي تيماء التي لوحت لهما مبتسمة .... ثم أعاد نظره الى مسك ليقول بخفوت
( هل لديك من يخفي السر ؟؟ ....... )
اتسعت عيناها بحماس و هي تهمس بثقة
( في بئر ........ )
قال قاصي بخفوت
( انها تيماء سالم الرافعي ........ )
سقط فك مسك بذهول و هي تنظر الى ملامح قاصي المتجهمة و التي لا تحمل أي أثر للهزل ...
و حين وجدت أنه لن يضحك و ان هذه ليست مزحة ... قالت ببلاهة
( ابنة طليقة أبي ؟!!! ........ )
قال قاصي بتذمر
( ربما كانت كلمة أختي أسهل ..... جربيها يوما ..... )
رمشت مسك بعينيها عدة مرات قبل أن تزفر بتوتر قائلة
( حسنا ..... هذه كارثة ...... فلو علمت أمي بتواصل تيماء مع أبي فسوف ...... )
قال قاصي رافعا اصبعه محذرا
( لن تعرف ..... اياك أن تخبري مخلوق انها أتت الى هنا ,..... والدك أقسم أنه قد يعاقبها هي و أمها لو تسببت له في المزيد من المشاكل .... ولا أظنك تريدين اذيتها )
قالت مسك بتأكيد
( لن أنطق بكلمة ...... هل ستتأكد من ايصالها لوالدتها ؟؟ ..... )
أومأ قاصي قائلا
( ربما لو توقفتِ عن الكلام و غادرتِ حالا ......... )
ابتسمت له مسك بتردد ثم همست بخفوت
( حسنا ..... أراك لاحقا ............. )
أومأ لها قاصي قبل أن يتجه الى مقعده خلف المقود ....... بينما ابتعدت هي تجر حقيبتها خلفها ...
لكن و اثناء ابتعادها استدارت تنظر الى تيماء التي كانت لا تزال تراقبها مبتسمة ...
و دون أن تدري ارسلت لها مسك قبلة في الهواء ..... فقابلتها تيماء بالمثل ......
و حين اختفت مسك أخيرا استدارت تيماء الى قاصي و قالت دون مقدمات
( هل تحبها ؟!!! ...........)
نظر قاصي الى عيني تيماء بذهول في المرآة .... ثم قال بلهجة شريرة
( لقد تماديتِ كثيرا يا فتاة ...... و سبحن من يصبرني عليكِ حتى الآن , بينما الصبر ليس من شيمي ..... )
ابتسمت تيماء و هي ترتاح في مقعدها مسترخية ... تشاهد تحرك الطريق من حولها بعينين ناعستين ...
بينما كان قاصي ينظر الى الطريق لفترة طويلة قبل أن يقول
( تيماء ...... لن تهربي من والدتك مجددا .... قد تقابلين وحوشا في هيئة بشر , حينها ستتمنين لو بقيت بين أحضان والدتك للأبد ..... لا تعيديها مجددا , فليست كل مرة تسلم الجرة .... اتفقنا ؟؟؟ .....)
لم تنطق تيماء و لم ترد عليه .... فنظر اليها في المرآة ....
شعر بشيء غريب بداخله وهو يراها قد راحت في سبات عميق .... حتى بدأ شخيرها الطفولي الخافت ...
تنهد قاصي وهو ينظر الى الطريق أمامه قائلا بخفوت
( حسنا ....... فلنترك الإتفاق لما بعد ........) 

طائف في رحلة ابديةWhere stories live. Discover now