الفصل الخامس والاربعون..الجزء الاول

101K 1.9K 68
                                    


( لم أكن لأتزوج امراة سواكِ يا غبية ...... لم يكن ليحدث أبدا ...... )
توقف بكائها في لحظةٍ كما توقفت عن مقاومته ... و نظرت الى وجه الجاد و عينيه العميقتين بصدقٍ لا يمكن إغفاله .... و بدأت الكلمات تخترق عقلها المغطى بشباك العنكبوت القاتمة بالتدريج ...
الى أن همست بصوتٍ فاتر غير مستوعب
( ماذا ؟! ................. )
لم يبتسم وهو يبادلها النظر , نافذا الى روحها المجروحة بعينيه .... ثم أعاد ببطىء مشددا على كل حرفٍ كي تفهم ...
( لم أكن لأوقع نفسي في ذات الجريمة بحق نفسي مرتين ....... الزواج من غيرك ,ما هو الا مشقة .... و أنا كبرت على تحمل مثل تلك المشقة على قلبي و جسدي ..... )
ظلت سوار تنظر اليه بغباء بضعة لحظات و هي فاغرة الفم ... محمرة العينين و العنينين ..... ثم لم تلث أن سألته بصوتٍ خافت , لا يحمل أي شعور
( هل تعني أنك لم تكن لتتزوجها منذ البداية ؟! ........... )
أومأ برأسه ببطىء .... ثم قال بجفاء
( لكن ليس إكراما لكِ في الواقع ..... بل من أجل نفسي فقط لا غير .... )
حركت رأسها مرة بطريقة غريبة ... ثم سحبت ذراعها من قبضته ببطىء قبل أن ترفع وجهها اليه مجددا و قد بدأت عيناها تبرقان بالتدريج في ظاهرةٍ كونية شديدة الغرابة .... من الضعف الى الشراسة ... الوحشية ...
الغضب في أقصى درجاته .... ثم صرخت فجأة بجنون
( هل تعني أنني قمت بإذلال نفسي ..... لأجل لا شيء !!!!!! ........ )
عقد ليث حاجبيه وهو يجيبها بخشونة
( لم أطلب منكِ فعل ذلك .... كما لم أطلب منكِ أن تقومي بخطبة امرأة أخرى لي ...... )
ضربته فجأة و قد تحولت كل مشاعرها المكبوتة لأيام الى طاقاتٍ و طاقات من الغضب
( كيف يمكنك أن تفعل هذا بي ؟!! ...... كيف أمكنك ؟!! ...... لقد عشت أياما مضنية بسبب نزعتك السادية في تعذيبي ....الى متى كنت تنوي متابعة قهري بتلك الصورة ؟! .... أنت لم تخبرني الآن الا لأنني أرضيت غرورك في اذلال نفسي ...... )
من بين غضبها العنيف , لم تستطع منع المزيد من بكائها فإنفجرت دموعها مجددا و هي مستمرة في ضرب صدره بينما هو يحتجز معصميها دون أن يمنعها .... ثم قال بقوة محاولا أن يوقفها كي تفهم
( لم أخبرك ... لأرى الى متى ستستمرين في تصديق ذلك ..... ربما أردت معاقبتك في البداية , الا أن تصديقك للأمر يوما بعد يوم , جعلني أدرك الى أي مدى لازلتِ لا تثقين في حبي لكِ ...... )
كانت تبكي بعنف و هي تضربه , ثم صرخت بإختناق
( و هل أنت راضٍ الآن ؟! ...... أراهن أنك راضٍ كل الرضا , و غرورك الذكوري مشبع تماما .... )
رفع ليث حاجبيه , بينما ظهر الغضب في عينيه , ليشدد من أصابعه على معصميها فجأة ... حتى حفرت في بشرتها , ثم قرب وجهه منها ليهمس بصوتٍ غاضب مرتجف
( غروري الذكوري ؟! ..... دعيني أخبرك أن غروري الذكوري الذي تتحدثين عنه قد نال منكِ بضعة ضرباتٍ موجعة ..... والله , لو غيرك قامت بنصف ما فعلتِ لكان لي تصرف آخر سيجعلك تدركين حينها كيف يمكن للغرور الذكوري أن يكون معميا .... مهينا ..... )
كانت تشهق بإرتجافٍ و هي تنظر اليه بنظراتٍ شيطانية من بين دموعها .... الا أنها همست أخيرا من بين أسنانها
( اترك معصمي ...... إنه لايزال متورم و ملتوي ......... لا أستطيع تحمل أي ضغط عليه .... )
ازداد انعقاد حاجبيه بشدة وهو يفلت معصمها على الفور ... بينما امسكته هي بيدها الأخرى و هي تحاول تخفيف الألم عنه مغمضة عينيها .....
فقال ليث آمرا بقلق
( أريني معصمك ................ )
أبعدت معصمها عنه بالقوة و هي تهتف قائلة من بين دموعها
( و كأنك تهتم !!! ...... لأيام , لم تحاول النظر الي .... لم تحاول حتى التأكد إن كان مكسورا .... و الآن تتوقع مني أن أصدق إهتمامك الزائف ؟! .... )
اتسعت عينا ليث بذهول وهو يهتف بصوتٍ أجش خائف
( مكسورا ؟!!! ....... مستحيل أن أكون قد كسرت لكِ ساعدك !!! .... أريني إياه حالا ..... )
الا أنها حاولت تجاوزه و هي تقول بعجهية و ازدراء
( ابتعد عني ..... احتفظ بإهتمامك لنفسك ...... )
فما كان من ليث , الا أن امسك بمعصمها بالقوة رغم ممانعتها و رفع كم عبائتها رغما عنها ينظر اليه بتفحص .... بينما هي تنظر حولها الى الطابق السفلي الذي يقفان به بجوار السلم ....
الا أن ليث لم يهتم و لم يفلت معصمها وهو يقول بقلق بينما يحرك مفصل ذراعها و مرفقها بحرص
( ليس متورما و لا أشعر بأي كسر ..... لكننا سنقوم بإجراء أشعةٍ كي نطمئن ...... )
ضحكت سوار بصوتٍ عالٍ و هي تنظر اليه بكره
( تريد التأكد بأنك لم تكسر ذراعي .... بينما كان هذا كل ما تتمناه , يا لك من طيب القلب حقا .... )
رفع ليث وجهه اليها , وهو يترك معصمها ببطىء .... ثم قال أخيرا بجفاء
( لا أنتِ مخطئة ...... لم يكن كسر ذراعك هو كل ما أتمناه , ....... بل عنقك ...... لذا و بما أن ذراعك المسكين هو من وقع ضحية غضبي بالخطأ عوضا عن عنقك الغالي ... لذا ضميري يحثني على الإطمئنان عليه ......... )
زمت سوار شفتيها ثم همست بحقد من بين أسنانها , بينما دموعها لا تزال تنهمر على وجنتيها بقهر
( ابتعد عن طريقي ...... أنا سأتركك للأبد ..... لم أعد قادرة على البقاء معك أكثر , ليست سوار الرافعي هي من تعامل بهذا الشكل .... )
أمسك بكتفيها فجأة و شدها اليه وهو يهتف غضبا
( كفاكِ تكبرا و عنجهية يا ابنة الرافعية .... و اسمعيني جيدا , ستظلين زوجتي خلال المتبقي من عمري ..... و زوجة واحدة تكفيني تماما , و هي أنتِ ...... ضعي هذه المعلومة برأسك و تعاملي على أساسها .... فربما حينها قد ننعم ببعض الهدوء ...... )
دفعته في صدره بقوة و هي تهتف باكية
( ابتعد عني ......... أنا سأتركك , للأبد ....... )
و ما أن نجحت في افلات كتفيها من قبضتيه حتى اندفعت بكل قوتها تريد الهرب منه نزولا على سلالم الطابق الأخير , الا أنها كانت معمية البصر بسبب دموعها الغزيرة و حالتها النفسية اليائسة ... فلم تكد تنزل على أول درجتين , حتى داست على طرف عبائتها الطويلة , فتعثرت بها و سقطت على المتبقي من درجات السلم حتى استقرت أرضا في نهايتها !! ...
هتف ليث بذعر مناديا بإسمها وهو يجري اليها ..... بينما كانت هي قد أسندت نفسها الى مرفقها و هي تبكي ألما بصوتٍ عالٍ ....
جثا ليث بجوارها وهو يحاول رفعها , الا أنه ما أن نظر الى وجهها حتى شهق من سيل الدماء الذي نزف فجأة من أنفها و منتصف شفتها العليا .... بينما بدت كدمة وردية في الظهور أعلى جبهتها .....
كان يتنفس بسرعة و هو يرى احدى الدرجات عليها بقعة دموية صغيرة .... و سوار ترتجف بشدة بين ذراعاه اللتان ضمتاها الى صدره ....
ثم قال بصوتٍ أجش مرتعب
( هل أنتِ بخير ؟!! ...... تكلمي .... هل تشعرين بالدوار ؟!! ..... )
رفع ذقنها محاولا تفحص الكدمة على جبهتها و التي بدأت في البروز على الفور .....
الا أن صوتا أنثويا آتيا من أعلى الدرجة جعله يرفع رأسه وهو يرى دليلة التي نزلت اليهما بسرعة قائلة
( ليث ...... ما الذي حدث ؟!! ....... حاولت اللحاق بكما في المصعد , الا أنني سمعت صوت صراخ زوجتك ..... )
كانت قد وصلت اليهما فتأوهت سوار بقوة و هي تخفي وجهها بخزي في صدر ليث ..... بينما سحبها هو ليجلسها على أول درجة من درجات السلم و أحاطها بذراعيه كي يخفي وجهها عن دليلة .... ثم أجابها بقلق
( لقد تعثرت سوار و سقطت .......... )
ارتفع حاجبي دليلة و تأوهت بتعاطف , ثم عرضت بهدوء
( هل هي بخير ؟؟ ..... يمكنني أن أقلكما الى المشفى إن كنت غير قادرا على القيادة يا ليث .... )
رد عليها ليث وهو يزيد من ضم سوار التي كان صوت بكائها المختنق مسموعا بوضوح و هي تدفن وجهها اكثر بصدره , تتمنى أن تنشق الأرض و تبتلعها
( أشكرك يا دليلة ..... أستطيع القيادة و سآخذها بنفسي حالا .... )
أومأت برأسها متفهمة , بينما راقبتهما وهو يقف ليسحب سوار معه حتى أوقفها على قدميها , فتأوهت بصوتٍ متحشرج
حينها سألها ليث بقلق
( هل تستطيعين السير ؟؟ ....... يمكنني حملك الى السيارة .... )
هزت رأسها نفيا بسرعة و هي تتجنب النظر الى دليلة ... و قالت بإختناق
( أريد إخفاء وجههي ..... و السير دون أن ألفت انتباه أحد .... )
لم يحاول ليث الجدال معها و دون أن ينتظر الإذن منها , كان قد رفع طرف حجابها الحر و غطى به وجهها حتى دسه في الجانب الآخر برفق ... و لم تتمالك نفسها من النظر اليه , بعينيها العسليتين الواسعتين المتورمتين الباكيتين .... و بادلها هو النظر بألم طويلا , ثم ربت على وجنتها فوق غطاء وجهها بحنان وهو يقول لها بخفوت
( استندي الي ........... )
سارعت بإخفاض وجهها و هي تتشبث بمرفقه محاولة السير بإعتدال .... الا أن دليلة نادت من خلفهما بسرعة
( سلامتك يا سوار ....... )
توقفت سوار مكانها للحظات غير قادرة على الإلتفات و مواجهة دليلة , و ازداد انهمار دموعها بمزيدٍ من الشعور بالمذلة .... لكن دليلة لم تنتظر منها ردا , بل تابعت تقول بهدوء
( لم يعلم أحد بما حدث ..... الآن أو من قبل .... بإستثناء ناريمان , و هي مضمونة تماما ...... كما لن يعرف أحد في المستقبل ..... )
أغمضت سوار عينيها و عضت على شفتها .... و ظن ليث أنها ستتابع سيرها متظاهرة بأنها لم تسمع شيئا ...
الا أنها نطقت فجأة بصوتٍ مرتجف دون أن تلتفت الى دليلة
( شكرا لكِ ............. )
ابتسمت دليلة ابتسامة متزنة و ردت عليها بصوتٍ عادي
( أنتِ على الرحب ....... )
ألتفت ليث الى دليلة و ابتسم لها شاكرا وهو يومىء لها , فردت عليه بنفس الإيماءة دون رد .....

في السيارة و ما أن أجلسها و دار حولها حتى جلس خلف المقود .... ثم قال بصوتٍ جاد حازم
( سنتجه الى المشفى أولا , كي نطمئن على كل شيء .... بدئا من ساعدك حتى وجهك و ساقك ..... )
الا أن سوار صرخت فجأة تقاطعه ,
( والله لن أذهب ..... والله لن أذهب الى أي مكان أو أقابل أي مخلوق آخر اليوم ...... أقسم أنني لن أفعل )
عقد ليث حاجبيه بشدة وهو ينظر اليها بقلق من صرختها العنيفة و كأنها صادرة من أعمق أعماق روحها ...
ثم قال أخيرا بصوتٍ أجش وهو يعيد عينيه الى الطريق
( حسنا لا بأس ..... سنتجه الى البيت , و نراقب حالتك حتى الغد ...... )
نظرت سوار من النافذة و هي ترد عليه بصوتٍ باهت مختنق
( كما لن أعود الى البيت ..... أعدني الى شقة أخي , و في الغد سأسافر الى جدي .... )
ساد الصمت لبضعة لحظات ..... ثم انتفضت حين شعرت بقبضته تمسك بذقنها فجأة وهو يدير وجهها اليه ..
فنظرت اليه بحذر من تحت غطاء وجهها .... أما هو فكان ينظر الى عينيها بنظراتٍ شبيهة بعيني ليثٍ أبي ...
حتى ظنت بأنه قد نسي الطريق ... ثم قال بصوتٍ هادىء قاطع لا يقبل الجدال
( أن تفقد عيناكِ لون الشهد بهما .... سيكون هذا أكثر قابلية للحدوث من ذهابك الى بيت أخيكِ أو جدك ..... انسي الأمر و حاولي النوم قليلا الى أن نصل ... )
ظلت تنظر اليه للحظتين من تحت غطاء وجهها , الى أن حرر ذقنها أخيرا وهو يعيد عينيه الى الطريق ... ثم قال بصوتٍ هادىء ... دون أن ينظر اليها
( اسحبي الذراع الصغير بجوار و أرجعي المقعد للخلف كي ترتاحي قليلا الى حين وصولنا .... )
أدارت سوار وجهها عنه و قالت بصوتٍ صلب جاف
( لا يمكنني الإستلقاء أمام الجميع بهذا الشكل ....... )
رد ليث قاطعا ,
( بلى يمكنك ..... تبدين على وشكِ الإنهيار ..... ارجعي ظهر المقعد و أغمضي عينيكِ .... )
أرادت أن تعارضه ... أن تصرخ رافضة .... أو حتى أن تفتح باب السيارة و تهرب منه الى الأبد ....
لكنها كانت تشعر بضعف جسدي عنيف يسري في كافة أنحاء أوصالها ....
كانت أضعف من أن تعارض .... أو تقاوم .....
و كان النوم بالنسبة لها حاليا هو النعيم .... لذا وجدت يدها تتحرك دون ارادة منها لترجع ظهر المقعد قليلا ... وهي مستندة اليه و كأنها مسلوبة الإرادة ... حتى أغمضت عينيها و دعت ربها أن تهرب الى عالمٍ آخر ...
لكن و قبل أن تفعل شعرت بيده خلال دقائق تمسك بكفها المستريحة على ساقها ...
دافئة هي يده و كأنها حضن آمن .... يحيط بها بكل عالمها ... و ليست أصابعها فقط ....
.................................................. .................................................. ......................
( سوار ...... افتحي الباب ........ سوار .... )
كانت طرقاته على باب غرفتهما تبدو كقصفٍ عالٍ يلاحقها و هي تنزع الغطاء عن وجهها بعنفٍ ... على الرغم من الإجهاد المسيطر عليها ....
لتخلع حجابها أخيرا و تلقي به بعيدا , قبل أن تتجه الى المرآة و تستند بكفيها على طاولة الزينة , مسقطة رأسها بتعب ....
ما أن فتح باب الشقة لدى وصولهما , حتى تمكنت من الهرب منه بسرعة الغزال حتى فرت الى غرفتهما و أحكمت غلق الباب و هي تتمنى أن تصله الرسالة في رغبتها كي تبقى وحيدة ...
لكنه لم يتراجع و لم يفهم ... بل طرق الباب مجددا بقوةٍ أكبر وصوته يهدر عاليا
( سوار افتحي الباب و توقفي عن تصرفات الأطفال تلك ..... احترمي سنك قليلا .... )
رفعت وجهها مصدومة من فظاظته , الا أنها واجهت صورتها في المرآة .... و هالها ذاك المنظر المثير للشفقة أمامها ....
لقد تورمت شفتها تماما و تحولت الى لونٍ مختقن و به بقعة زرقاء داكنة .... أما أنفها فلم يكن أفضل حالا ...
فقد تورم أيضا و كبر حجمه ...... و بقعة دموية صلبة متجمعة أسفل فتحة أنفها .....
و الكرة في جبهتها كانت تبدو زرقاء أرجوانية و تشبه البيضة ..... و بخلاف تلك اللوحة اللونية البشعة , فخلفية وجهها بدت كصفحة شديدة البياض و الشحوب ...
كل جسدها كان يؤلمها بطريقة مؤلمة ... لا تعلم إن كان هذا إثر السقطة , أم أن الوجع في قلبها قد بهت على أعضاء جسدها و أطرافه ...
طرقة أخرى من ليث ساهمت في انهيار قدرتها الأخيرة على التحمل ....
فصرخت فجأة بعنف و هي تبكي منهارة ...
( ابتعد عني ...... الا ترى أنني أريد البقاء وحدي .... بل أحتاج الى البقاء وحدي .... لا أريد أن أراك .... )
ساد صمت طويل , مما جعلها تظن بأنه قد امتثل الى صرختها و ابتعد .... فأشعرها هذا بال ....
بالمزيد من الوجع و الفراغ المخيف ....
لذا سقط وجهها مجددا و تركت العنان لشهقاتها العالية التي أخذت تتوالى و تعلو حتى باتت عويلا طال كبته .....
و بعد أن نال منها التعب أخيرا ,و جفت دموعها .... ظلت مطرقة و هي مرهقة الروح و الجسد ....
ترهف السمع , علها تسمعه يناديها مجددا ....
لكنه ابتعد .... ربما يكون قد خرج بعد أن زهد في بكائها الذي لم يتوقف منذ ساعةٍ أو أكثر .. ....
لذا استقامت ببطىء و تعب ... و هي تستدير محاولة خلع عبائتها , لتبقى بالفستان القطني البسيط الذي ترتديه تحتها .... و أخذت تتفحص مرفقيها و ساقيها ...
لم تكن اصابات وجهها هي الوحيدة .... بل كانت هناك بقعتين داكنتين أسفل ركبتيها ....
و أخرى شديدة الإحمرار فوق مرفقها الأيمن .....
كانت حالتها أسوأ مما تظن .... و ساقها مغطاة بالغبار الممتزج بالجرح الذي بدأ يجف في ركبتها ....
لكنها لم تكن قادرة على المجازفة بمواجهته .... لذا اتجهت و هي تعرج ببطىء حتى وصلت الى الباب فوضعت أذنها اليه تحاول سماع أي صوت .... و حين لم يحدث ... أدارت المفتاح بحذر لتفتحه ثم خرجت ببطىء و هي تنظر الى الردهة الخارجية بصمت ...
ثم اتجهت الى الحمام .... لكن و ما أن وصلت اليه , حتى وجدت ذراعا تمتد من مكان مجهول لتحيط بخصرها مما جعلها تشهق بصوتٍ عالٍ و هي تضع يدها على صدرها بذعر ....
و تعثر تنفسها بضعة لحظات , بينما كان هو ينظر اليها متجهما , ثم قال أخيرا بجفاء ...
( أخيرا خرجتِ ...... كنت على وشك كسر الباب , ..... )
رفعت سوار ذقنها و نظرت اليه بغضب ما أن استردت أنفاسها ثم ضربته في صدره هاتفة بخشونة
( ظننتك خرجت , ولو كنت أعرف أنك لا زلت هنا لما خرجت من الغرفة مطلقا ..... )
الا أنه لم يرد على عنف كلماتها , بل انعقد حاجباه بشدة وهو يمسك ذقنها لينظر الى الكدمات التي ظهرت أكثر , فهمس مستاءا
( يالله !! ........... لقد كانت وقعة بائسة جدا )
صرخت سوار به و هي تقاومه بعنف
( الوقعة البائسة هي زواجي منك و الذي لم يجلب لي سوى الذل و المهانة ...... )
رفع ليث عينيه القاتمتين الى عينيها الشرستين .... ثم قال ببرود دون أن يفلت ذقنها
( علي أنا أن أقول هذا الكلام , و ليس انتِ ..... لكنني أكثر أدبا منكِ يا ابنة الرافعية , لذا لن أهبط الى مستواكِ المتدني في الهجوم ..... و الآن اخلعي ملابس و تعالي ... )
للحظات ظنت بأنها لم تفهم ما قال ... ثم اتسعت عيناها و فغرت فمها تريد الهتاف بأقذع الألفاظ , الا أنه سبقها و رفع كفه قائلا بفظاظة
( قبل أن يتطرق ذهنك المريض الى أي أفكار أكثر مرضا .... يكفيكِ أن أذكرك بمظهرك الذي يبدو و كأنكِ قد نلتِ ضربا جماعيا كلصٍ تم ضبطه في حافلةٍ مزدحمة ..... )
رمشت سوار بعينيها مجفلة و هي ترفع يدها رغما عنها لتتلمس الكدمات في وجهها بينما عبست ملامحها بأنوثةٍ مجروحة ....
الا أن ليث تابع كلامه قائلا بجفاء ...
( لقد أعددت لكِ الحمام , كي تستريحي .....و بعدها سأهتم بوجهك .... )
رفعت سوار وجهها و قالت بصوتٍ جهوري صلب
( لست في حاجةٍ الى مساعدةٍ ...... يكفيني ما نالني منك حتى الآن ..... ثم أي حمامٍ هذا الذي حضرته ؟! ..... ما هو الإنجاز الذي قمت به !! ...... )
رفع ليث حاجبا وهو ينظر اليها ببرود ثم رد عليها بصوتٍ جليدي
( ادخلي و انظري بنفسك ........ )
أرادت أن تتجاهله و تعود في الإتجاه المعاكس الى غرفتهما .... الا أن الفضول تغلب عليها و لم تستطع الا أن ترمقه بنظرة استهانة .... ثم دخلت خطوة الى الحمام و هي تعتزم السخرية من أي شيء فعله , حتى و إن كان قد وضع منشفة نظيفة فقط لا غير ....
الا أنها تسمرت مكانها و هي تنظر الى المغطس فاغرة فمها .....
كان المغطس ممتلئا بالماء الساخن و الذي لا يزال البخار يتصاعد منه .... لكنه كان ممتلئا بالفقاقيع الملونة من صابونتها الخاصة التي تلون الماء ... ليس هذا فحسب ... بل كانت هناك شموعها المعطرة كذلك , مضاءة و متراصة حول المغطس .... و الروائح الزيتية العطرة منتشرة بطريقة تسلب الروح ...
ظلت سوار مكانها تنظر الى ما أعده بصمت طويلا .... الى أن تطوع هو قائلا بفظاظة
( سيبرد الماء بينما أنتِ واقفة تفكرين في طريقةٍ جهنمية تجعلك تسممين بها حياتي .....)
أخذت سوار نفسا طويلا مرتجفا .... محاولة طرد هذا الوهن العاطفي الذي انتشر بداخلها , ثم زمت شفتيها قائلة ببرود
( من أذِن لك بأن تستخدم صابوناتي و شموعي ؟!!! .........)
ضيق ليث عينيه وهو ينظر اليها بملامح جبسية متحجرة , ثم قال ببرودٍ مماثل
( لم أستخدمها لنفسي ..... كما أنني لم أبيعها و أقبض ثمنها , و الآن هل ستدخلين الى المغطس أم ستضيعين المزيد من الوقت في المزيد من التفاهات .... )
كتفت سوار ذراعيها و هي تنظر اليه بحقد ... ثم قالت بصوتٍ خافت أجوف
( هل تظن أنك ببعض الشموع المعطرة , تستطيع أن تنسيني الذل الذي ممرت به بسبب خداعك لي ؟!! ....)
مط ليث شفتيه ثم قال وهو يهز رأسه نفيا بلامبالاةٍ قائلا
( ليس هذا ما كنت أحاول فعله ..... لأن الذل الذي تعرضتِ له كان بسببك , لا بسببي ..... كما أنني لم اطلب منكِ الإعتذار منها ...... كل ما يحدث هو نتيجة أفعالك في الواقع ...... أما أنا فكنت أحاول أن أهيء لكِ جو مريح للأعصاب بعد حالة الإنهيار الذي مررتِ بها في الغرفة منذ لحظات .....)
شعرت سوار أنها على وشك ضربه أو صفعه .....
بالفعل وصلت الى المرحلة و الحالة النفسية الغير المستقرة التي قد تمكنها من صفع ليث الهلالي ... لذا أغمضت عينيها بسرعة و هي تحاول السيطرة على تخيلاتها الخطيرة ... ثم قالت بجفاء
( لا أريد ...... شكرا ....)
ثم حاولت تجاوزه .... الا أنه اعترض طريقها , و قبل ان تدرك ما يفعل , وجدت نفسها محمولة في الهواء فجأة بين ذراعيه .... فاتسعت عينيها للحظة , قبل أن تبدأ في الصراخ و هي تضربه و تلوح بساقيها , الا أن كل حركة منها كانت تجعل الألم ينبض في أماكن الإصابات فتتأوه بين كل صيحة و أخرى ..
الى أن صرخ ليث فيها بعنف هادرا
( توقفي عن الغباء ....... أقسم بالله أنني لم أتحمل من امرأة من قبل ما تحملته منكِ ... و أنا الذي كنت أظن نفسي سأرتاح بعد الزواج منكِ أخيرا .... )
و قبل أن ترد عليه بما فيه النصيب .... وجدت نفسها تنخفض فجأة ليضعها بفستانها القطني داخل المغطس برفق ...
استقامت سوار نصف جالسة و هي تنظر الى الماء الملون بالصابون بذهول غير مصدقةٍ لما حدث ....
أما فستانها الذي تبلل تماما و ثقل وزنه عليها كان هو خير دليل .... حينها ضربت الماء من حولها بجنون و هي تصرخ
( ما هذا الجنون الذي تفعله ؟!! ........ لقد بللت ملابسي بالكامل !! ...... )
جثا ليث على عقبيه بجوار المغطس , ثم بدأ يفك شعرها من رباطه و كأنها لم تصرخ أو تعترض للتو ...
و كأنها لعبته الخاصة التي يتسلى بها قبل أن يضعها بجواره في الفراش ....
حاولت ابعاد رأسها بعنف .... الا أنه فك موجات شعرها أخيرا و أخذ يبلله و يغرف بكفه من الماء الملون ليبلل مقدمة رأسها برفق و كأنه يحمم طفلا صغيرا ....
و كانت لتلك الحركة مفعول السحر على أعصابها المنهارة .... و التي أخذت تهدأ بصورةٍ متسارعة .....
فأغمضت عينيها للحظة .... فقط لحظة و هي تعد نفسها بمعاودة الصراخ فيه بعدها .....
لكن اللحظة باتت اثنتان ... ثم ثلاث .... و خمس .....
و يده تمسح على جبهتها مرورا برأسها ثم كامل شعرها .... و بعد فترة وجيزة , شعرت بالخسارة حين تركت يده رأسها ..... لكنه لم يتركها الا ليرفع لها ساقها فوق طرف المغطس .... و بدأ في تنظيف جرحها برفق ....
فتحت سوار عينيها تنظر اليه بعجز ... و كأن لسانها قد انعقد عن محاولة منعه .... الى أن قال هو أخيرا دون أن ينظر اليها
( هل يحرق الصابون جروحك ؟!! ...... أردت تطهيرها أولا , لكن غبائك المعتاد لم يسمح .... لكن عاملة جروح ساقيك ما هي الا خدوش بسيطة .... و الكدمات ستأخذ وقتها و تزول ..... هل يؤلمك تحريك أي من ساقيك ؟!! ..... )
ظلت سوار صامتة و هي تنظر الى وجهه المنحني بإهتمام على ساقها .... و حين طال الصمت , رفع وجهه ينظر اليها متسائلا .... الا أنه توقف حين وجد الدموع تنساب في صمتٍ على وجنتيها من جديد ....
ظل ليث ينظر اليها طويلا بحزن .... الى أن تنهد أخيرا وهو ينظر الى الموجات الملونة فوق سطح الماء الساخن .... فمد اصبعه يداعب تلك الموجات و يعبث بتدرجاتها اللونية .... الى أن قال أخيرا بصوتٍ عميق دون أن ينظر اليها ....
( أتعرفين ما هي المشكلة ؟؟........ المشكلة أننا أردنا اختصار الزمن .... تخيلنا أنه بإمكاننا اقتطاع عشر سنوات من حياة كل منا , و البدء من حيث آخر لقاء لنا قبلها ...... و كأن شيئا لم يكن ......
لو كنتِ من نصيبي , لكبرتِ خلال هذه العشر سنوات بين ذراعي ..... لكنت معلمك الأول و الأخير كما كنت قبلها ...... لكن ما حدث هو أنكِ تحولتِ خلال تلك السنوات الي صخرة يابسة .... و أنا لم أصبح أفضل حالا منكِ ....كقوتين متضادتين تحاول فرض كل منهما ارادتها على الأخرى ......... )
كتفت سوار ذراعيها أمام صدرها وهي تطرق بوجهها الباكي ناظرة الى موجات الألوان التي يعبث بها كحياتها تماما .....
الى أن تابع ليث بصوتٍ أكثر جفاءا ......
( ربما كنت شديد القساوة في التعامل معكِ ..... لكن عليكِ الإعتراف بأنه لم تكن هناك من هي أكثر منكِ غباءا في مشاعرها و طريقة اظهارها لحبها ...... )
رفعت سوار وجهها و هي تنظر اليه من بين دموعها الحارقة .... فرفع يده يداعب وجهها المبلل , ثم تابع بصوتٍ أكثر عمقا وهو يحدق بعينيها
( كنت مخطئا منذ سنوات حين ظننتك ثابتة كالأرض في هدوء مشاعرك ..... كم كنت مخطئا و كأنني لم أعرفك مطلقا ..... فأنتِ كموج البحر , عاطفية بشكلٍ لا يصدق ..... مشاعرك جامحة كالطوفان .... و حبك قد يقتلك و يقتل حبيبك معكِ في احدى عواصفه المجنونة ..... )
ابتلعت سوار الغصة في حلقها .... ثم همست بصوتٍ باهت
( تبدو و كأنك قد أصبت بخيبة أمل ...... لكن هذا عادل , فخيبة الأمل متبادلة .... لأنني أنا أيضا لم أتخيل أن تكون وغدا الى تلك الدرجة في معاقبتي و التعامل معي ..... )
اطرق ليث وجهه قليلا ,متجهما ... و كأنها يحاول امساك لجام غضبه بضراوة , الا أنه لم يلبث أن ضحك فجأة ضحكة أفلتت من بين شفتيه .....
ثم أحاط وجهها فجأة بكلتا كفيه يرفعه اليه , .... يقربه من وجهه بالقوة , قبل أن يهمس بعنف من بين شفتيه
( أحبك يا ابنة وهدة ....... ولو تطلب الأمر أن أمحو العشر سنوات لفعلت ... كي نعود كما كنا .... )
وجدت سوار نفسها تهمس فجأة بسرعة
( لكنني لا أريد العودة الى ما كنا عليه ....... يومها لم أدرك بأنني أحبك كما أفعل الآن , ولو كنا تزوجنا ..... ربما لما عرفت تلك الدرجة من العشق ...... هذا العشق الذي نما بداخلي ليس امتنانا بما فعلته لأجلي ......... لكن لأنني كنت أرى فيك البطل , مرة بعد مرة ........ أنا .... )
صمتت فجأة مفجوعة مما نطقت به للتو و كأنها قد نست تماما خداعه لها , لذا صرخت بعنف و غضب يائس
( الا أنني لن أسامحك على الموقف الذي وضعتني به أبدا ..... أبدا ..... )
لكنه لم يمهلها لتصرخ بالمزيد بل انحنى عليها وهو يضمها بين ذراعيه , ليقبلها بقوةٍ ... حتى انحنت الى الخلف و انخفض وجهها تحت سطح الماء .... فأغمضت عينيها تلقائيا و هي تحيط عنقه بذراعيها ....
رفعها ليث بسرعة ... ووجه كلا منهما يقطر ماءا ملونا .... بينما الأعين لم تتوقف قبلاتها بعد .....
فهمس لها بصوتٍ أجش لاهث
( لنفتح صفحة جديدة ....... أنسي ما فعلته أنا , و أنا سأحاول التغاضي عما قمتِ به ...... )
عقدت سوار حاجبيها على الرغم من مشاعرها التي تعزف لحنا صاخبا مجنونا .... ثم هتفت بإستياء
( الا تظن نفسك مغرورا متعجرفا ... سيء الطباع ... متسلط .... و كاذب مخادع و ...... )
قبلها مجددا حتى انخفض وجهاهما تحت سطح الماء مرة اخرى .... ثم عاد و انتشلها من الغرق هامسا بنفسٍ غير مستقر
( هل ستقبلين بالصفقة أم أغرقك مع سبق الإصرار ؟؟ .............. )
ذراعاها حول عنقه لم تتركه بعد ... بينما هي تحارب كي تتنفس , ناظرة الى عينيه المتقدتين , ثم همست بصوتٍ متداعي
( أغرقني ................ )
.................................................. .................................................. ....................
( من ....... من بالباب ؟؟ ......... )
ابتسم قاصي ابتسامة من عمق قلبه وهو يسمع الصوت الطفولي المحفور على قلبه .... فرد قائلا بعفويةٍ آمرا
( إنه أنا والدك يا فتى ..... افتح الباب ..... )
سمع صوت صراخ عمرو مبتهجا من الداخل ... و الباب يضرب عدة مرات الى أن تمكن من فتحه أخيرا ....
ثم قفز الى حضن قاصي الذي رفعه بين ذراعيه بقوة وهو يتأوه عاليا و كأنه يعتصره عصرا .....
ثم أبعده عنه قليلا وهو ينظر الى الوجه الأقرب الى قلبه مبتسما بإشتياق جائع موجع .... قبل أن يسأله بصرامة مدعيا الغضب
( لماذا تفتح أنت الباب ؟؟ ..... الم نتفق على أن تفتحه أمك دائما ؟؟ ....... )
رد عمرو مبررا بلهفة
( لم أفتحه الا بعد أن تأكدت بأنه أنت من بالباب .......... )
ابتسم قاصي رغم عنه , الا أنه تجهم مجددا و قال بخشونة
( لكنك لم تعرف أنني سآتي .... و سألت .... لا تفعل هذا مجددا ..... مفهوم ؟؟ .... )
رد عمرو قائلا بحماس
( مفهوم ......... اشتقت اليك بابا ........ جدا جدا ...... )
نظر اليه قاصي للحظة و كأنه يرتوي من ملامحه الطفولية ..... قبل أن يضمه الى عنقه مجددا وهو يتأوه بصوتٍ أكثر عمقا هامسا
( و أنا اشتقت اليك اكثر ........ أكثر و أكثر ..... )
همس عمرو وهو لا يزال دافنا وجهه في عنق قاصي
( متى سآتي اليك كما كنا نفعل من قبل ؟؟ ......... )
أغمض قاصي عينيه وهو يحاول تشرب أكبر قدر من عطره الفطري ثم قال بصوتٍ هادىء .... ظاهريا
( اسمع ....... سأحاول أنا المجيء اليك قدر الإمكان ..... )
رد عليه عمرو قائلا بصوتٍ غير مقتنع و كأنه قد فقد الثقة بكلامه ووعوده
( دائما تقول هذا .... ثم تأتي لتراني من أمام الباب و تغادر سريعا ....... هل ستحصل على طفلٍ آخر من تيماء ؟...... )
أبعد قاصي وجهه عن عنق عمرو ليسأله بدهشة قائلا
( ماذا ؟؟ ....... من أين أتيت بمثل هذا الكلام ؟!! ....... )
رد عليه عمرو قائلا بصوتٍ بدت فيه الغيرة الطفولية واضحة
( أخبرتني أمي بضرورة الإعتياد على عدم تواجدك معنا ...... فسرعان ما ستحصل على أطفال آخرين من تيماء غير أخي الذي ذهب الى السماء ...... و سيكونون هم الأهم .... )
تصلبت ملامح قاصي بشدة و تحولت الى قناعٍ قاسي غاضب ... لكن سرعان ما سيطر على نفسه , ثم سأله بهدوء
( اذن هذا ما أخبرتك به أمك !! ....... لكن دعني أخبرك بأنها كانت تخدعك مازحة ... و لا شيء من هذا سيحدث , فتيماء ستسافر و أتفرغ أنا لك ..... و لها .... أين هي أمك , لماذا لم تفتح الباب ؟؟ .... )
رد عمرو قائلا ببساطة وهو يشير الى الباب
( في الداخل ............. )
أنزله قاصي على قدميه ثم أمره قائلا
( اذهب و نادها اذن .... و أخبرها أن والدك قاصي يريد رؤيتها حالا ...... )
ظل عمرو واقفا مكانه مترددا .... ثم قال بصوتٍ قانط
( لا أظنها ستأتي ..... فهي ليست بخير ........ )
عقد قاصي حاجبيه وهو يسأله بقلق
( هل هي مريضة ؟؟ ........... )
أومأ عمرو قائلا
( نعم ..... قليلا , لكنها تكون بخير بعد أن تخرج لشراء الدواء ...... )
ضاقت عينا قاصي بعدم ارتياح ثم سأل عمرو بنبرة غريبة
( الا تتصل بالصيدلية كي يرسلون اليها ما تريد ؟؟ ......... )
هز عمرو رأسه نفيا , و قال ببساطة
( بل تخرج لتحضر الدواء بنفسها ........ )
سأله قاصي بصوتٍ أكثر جدية
( و هل تأخذك معها ؟؟ ..... )
هز عمرو رأسه نفيا مجددا و رد عليه
( أنا أنتظرها هنا الى أن تعود ................. )
باتت ملامح قاصي شاحبة و مخيفة , قبل أن يسأله ببطىء
( و كم مرة تكرر الذهاب لشراء الدواء ؟؟ .......... )
نظر عمرو الى أصابعه ..... و أخذ يحاول التذكر , ثم قال أخيرا بتركيز .....
( خمسة ..... عشرة .......... )
رفع قاصي وجهه وهو ينظر من الباب المفتوح الى الشقة الفوضوية بشكل مريع .... ثم همس و كأنه يكلم نفسه
( عشرة مرات و لم تشفى بعد ؟!! ......... )
أخذ نفسا عميقا وهو يزم شفتيه قبل أن يقول آمرا بحزم ....
( اسبقني الى مكان أمك يا عمرو .... سأدخل معك .......... )
جرى عمرو صارخا بفرحة لا توصف , بينما تبعه قاصي مظلم الملامح وهو يغلق الباب خلفه بهدوء ....
ثم نظر في أنحاء المكان بتقزز ....
كانت بقايا الطعام في كل مكان ....و أكواب الزبادي الفارغة و التي التهمها عمرو على ما يبدو ملقاة أرضا ..... و قشور البرتقال ..... و الغبار يعلو الطاولات ......
هتف عمرو في بداية الرواق
( أمي في غرفتها يا بابا ....... تعال بسرعة , ستفرح حين تراك ..... )
تبعه قاصي ببطىء حتى وصل الى غرفة نوم ريماس التي دخلها عمرو وهو يصرخ بسعادة
( ماما ....... لقد جاء بابا لزيارتنا .... و يريد أن يراكِ .... )
دخل قاصي من باب الغرفة دون حرج ...... لم يبدو في حاجة للإستئذان , فقد كانت ملامحه غريبة .... غامضة .... وهو ينظر الى ريماس المستلقية على سريرها , تبدو مرهقة ..... شديدة النحافة , جافة الملامح و البشرة ...... فقال بصوتٍ أجش
( ماذا بكِ يا ريماس ؟؟ ...... ما الذي تعانين منه ؟؟ ...... )
فتحت ريماس عينيها و نظرت الى السقف بضعة لحظات ..... قبل أن ترفع رأسها بصعوبة و هي تسأل بصوتٍ منهك
( قاصي !! ...... متى أتيت ؟..... و كيف دخلت الى هنا ؟!! ..... )
رد عليها قاصي بصوتٍ جاف صلب وهو يراقب أدق حركة منها .....
( أتيت منذ فترة ..... و فتح لي عمرو و قد نبهك الى دخولي عدة مرات , الا أنك في حالة تعب شديدة على ما يبدو فلم تسمعيه ...... )
استقامت ريماس لتجلس و هي تترنح , قبل أن تسند رأسها بكفها ...... ثم قالت بإختصار
( نعم ....... أنا متعبة قليلا .......... )
ظل قاصي صامتا لبضعة لحظات وهو يراقبها , قبل أن يسألها
( هل تحتاجين شيئا ؟؟ ....... هل هناك دواء معين يمكنني جلبه لكِ ؟؟ ........ )
ظلت ريماس على وضعها قليلا الى أن رفعت وجهها الشاحب تنظر الى قاصي بعينين حمراوين .... ثم قالت فجأة بصوتٍ متردد
( في الحقيقة نعم ...... أنا كنت محرجة قليلا , لكن ..... المال الذي أرسلته لي , لا أعلم كيف أنفقته ...... )
رد عليها قاصي قائلا بصوتٍ قاطع
( اكتبي كل ما تحتاجين في ورقة .... و سأحضرها لكِ .... )
عضت ريماس على شفتها قبل أن تبلع ريقها و هي تتجنب النظر اليه ... ثم قالت بصوتٍ متأرجح ...
( ليست أغراض معينة ...... هناك بعض الفواتير ........ و ..... )
ضيق قاصي عينيه أكثر وهو يدقق النظر بعينيها المتهربتين منه ...... ثم سألها مباشرة
( ما هو اسم الدواء ؟؟ ............. )
حكت ريماس جبهتها قليلا و هي تقول بتلعثم
( لا أتذكر ...... كنت أتسائل , إن كان بإمكانك اقراضي بعض المال .....و أعدك أن ..... )
قاطعها قاصي وهو يلف حول السرير قائلا بهدوء مقتضب
( لستِ في حاجة لقطع الوعود ........ )
لم تفهم ريماس ما يقصده , الا أنها عقدت حاجبيها بحيرة و هي تراه يقترب منها الى أن جلس على حافة السرير بجوارها ... فاتسعت عيناها بتوتر .... ثم شهقت حين قبض على معصمها فجأة و رفع كم سترتها القطنية بالقوة ..... فضربته و هي تصرخ فيه
( ماذا تفعل ؟؟؟ ....... اتركني ..... ما الذي تفعله ؟!! ...... )
لكن قاصي كان اقوى منها فكبلها بعنف حتى قيد حركتها تماما و تابع رفع كم سترتها وهو ينظر الى باطن مرفقها .... حينها فقط أظلمت عيناه بشدة , و اتسعتا بذهول ..... بجنون .... قبل أن يلقي بمعصمها بعيدا
و امسك برأسها بين قبضتيه ليهدر فيها بعدم تصديق ....
( هل عدتِ للسم القديم من جديد ؟!!!!! ...... هل فعلتِ ؟!!! ....... متى و كيف ؟!!! ...... بعد ست سنوات من الإقلاع عنه ؟!! ....... )
أغمضت ريماس عينيها بشدة و هي تشعر برأسها يكاد أن يقتلع من جذوره بين قبضتي قاصي الهمجيتين ....
لكنها صرخت ...
( لم أفعل ..... هذه آثار حقن لبعض التحاليل ..... أقسم لك ..... )
صرخ قاصي فيها بهياج
( لا تقسمي ....... اياك و أن تفعلي ........ أتظنين بأنني قد أنسى كل عرض و كل نظرة و كل تبرير أحمق ؟!! ....... هل نسيتِ أنني أحفظ عن ظهر قلب كيفية التعامل مع تلك الأكاذيب بعد حربٍ مضنية خضناها بضراوة كي تقلعي عن تلك القذارة المسممة ؟!! ...... كيف لكِ أن تقضي على سنواتٍ من التعافي بمثل تلك البساطة ؟!! ...... كيف ؟!!! ........ )
صرخت ريماس باكية بجنون و هي تهتف
( أتركني أرجوك .......... ارجوك يا قاصي ..... أشعر بصداعٍ مريع ..... )
لم يتركها قاصي وهو ينظر اليها كالمسعور .... الا أنه التفت جانبا ليرى عمرو يراقبهما بخوف ....
فتركها ليقول آمرا
( عمرو ....... أخرج الى الردهة .....و خلال عشر دقيقة , أريد اللحاق بك لأجدها تلمع من النظافة ..... خذ كيس قمامة و اجمع به كل القمامة الملقاة أرضا .... ثم امسح الطاولات بقماشة التنظيف ..... هيا .... )
أسرع عمرو لينفذ أوامر قائده ..... بينما نظر قاصي الى ريماس بتقزز , قبل أن يستجوبها بصوتٍ خافت كي لا يصل الى عمرو
( كيف عدتِ الى التعاطي من جديد ؟؟ ...... من أين حصلتِ عليه ؟؟؟ ...... انطقي ... )
كانت ريماس تبكي و ترتجف بشدة ..... الا أنها همست بصوتٍ مختنق ...
( تا ..... تاجر جديد ......... )
صرخ فيها قاصي قبل أن يستطيع منع نفسه
( كيف تعرفتِ اليه ؟!! ............ )
أسقطت ريماس رأسها و هي تشق باكية .... تضم ذراعيها بقوة و كأنها تشعر بالبرد ..... ولم تستطع الرد , فتطوع قاصي بالنيابة عنها قائلا بجنون
( العصابة القديمة ....... اليس كذلك ؟!! ...... عدتِ للتواصل معهم مجددا ..... )
دفنت ريماس وجهها بين كفيها و انهارت بشكلٍ مريع .... بينما نهض قاصي من مكانه منتفضا و كأن أفعى سامة قد لسعته .... فاتجه نافرا الى النافذة وهو يغرس أصابعه في خصلات شعره بعنف , قبل أن يضرب الحائط بقبضته وهو يصرخ
( لماذا الآن ؟!!!! ........ لماذا الآن تحديدا ؟!! ........ لماذا بعد كل هذه السنوات ؟!! .... كيف يمكنني مساعدتك الآن ؟!! ...... لماذا بعد أن تركتك ؟!! ..... )
رفعت ريماس وجهها و صرخت به فجأة من بين بكائها المثير للشفقة
( لأنك تركتني ........ لأنك تركتني ...... هل لك أن تتخيل حياتي , بعد أن كنت لي كل شيء .... تفعل كل شيء بالنيابة عني ...... رجلي أنا ..... سندي أنا ...... ظهري الذي منحته الحياة لي كي أشتد به ......ثم تركتني فجأة في منتصف الطريق ...... ماذا تنتظر مني ؟!!! .... بعد كل هذه السنوات أجد نفسي وحيدة و مسؤولة عن طفل ..... يريد والده سرقته مني بشتى الوسائل .... في حربٍ قذرة بينكما , انا من ستكون ضحيتها الوحيدة بين الأقدام ..... بعد أن يأخذ هو ابني مني ... و أنت تنجب المزيد من الأطفال من حبيبتك التافهة الصغيرة ..... فماذا عني ؟!! ...... ماذا تنتظر مني بعد ما حدث ؟!! ... )
ابتسم قاصي ابتسامة ساخرة متوحشة وهو يهز رأسه يائسا .... ثم قال بصوتٍ قاتم دون أن يلتقت اليها
( لماذا تركتك ؟! .....بكل وقاحة تمتلكين الجرأة على السؤال ...... لقد كنت على وشك محاولة اقناع الفتاة الوحيدة التي أحببت على تقبلك في حياتنا ...... الى أن دخل راجح في الصورة , و إن تركتك على ذمتي يوما واحدا اضافيا لكنتِ خنتِ اسمي معه ...... )
صرخت ريماس بعذاب
( اخرس ........ لا تقل هذا , لم أكن أبدا بخائنة ........ )
التفت ينظر اليها بصمت , ثم قال بصوتٍ باهت ميت
( حين يتعلق الأمر بضعفك المزري أمام راجح و استسلامك الدائم له ...... اعذريني اذن حين لا أترك الأمور حد المجازفة بشرفي ...... )
صرخت ريماس بقسوة
( ها أنت تركتني ..... هل تتخيل أن هناك علاقة غير شرعية جمعتني به بعدها ؟!! ..... اقسم أنه لم يمسني ........ فأين هو ضعفي و استسلامي الذي تتحدث عنه ؟!! ....... أخبرني .... )
ابتسم قاصي بقسوةٍ أفظع و رفع كفيه يصفق لها ببطىء .... ثم قال أخيرا بنبرة مريعة
( انظري الى باطن مرفقك ...... حينها ستجدين الجواب ..... لقد عدتِ للتعاطي و أنت تظنين بأنكِ تحسنين صنعا في مقاومة تأثيره عليكِ ..... )
شعرت و كأنه قد صفعها بقوةٍ فأفقدها النطق ..... فظلت تنظر اليه بوجهٍ ممتقع , الى أن تمالكت نفسها و نهضت تتعثر من على الفراش .... حتى وصلت اليه مترنحة , ثم قالت بتوسل
( أنا ....... حسنا , لقد عدت للتعاطي مرة ..... لكن هذا لا يعني أنني عدت للإدمان , صدقني ...... مجرد انتكاسة قصيرة , لن تترك أثرها .... )
أغمض قاصي عينيه للحظة , ثم فتحهما و قبض على شعرها فجأة ليجرها جرا الى المرآة وهو يصرخ فيها و هي تصرخ برعب
( انظري الى نفسك ....... انظري الى نفسك و أخبريني أنها مجرد انتكاسة قصيرة , من غبائك تظنين أنكِ قادرة على خداع الرجل الذي سبق و ساعدك على التعافي ..... تبا لك ..... )
دفعها عنه بقوة .... فلم تستطع ساقاها الضعيفتان حملها , فانحنت حتى جثت على عقبيها و دفنت وجهها بين كفيها لتبكي بمرارة , بينما وضع هو يديه في خصره وهو يوليها ظهره و كأنه غير قادر على النظر اليها ....
ثم قال بصوتٍ ميت
( لقد ربح راجح القضية قبل حتى أن تحكم المحكمة له بالحضانة ...... لم يعد لدينا أي أمل .... لقد خسرنا الولد الى الأبد ...... )
رفعت ريماس وجهها المتورم اليه ..... ثم قفزت واقفة و كأن الحياة قد دبت فيها فجأة ... فجرت اليه و امسكت بكفه هاتفة
( لا يا قاصي .... أرجوك ...... لا تسمح لهذا بالحدوث , أرجوك ..... عمرو هو الخيط الوحيد المتبقي و الذي يربطني بهذه الحياة ..... أرجوك أمنع هذا , و سأكون خادمة لك ..... سأبقى تحت قدميك للأبد .... )
نزع كفه منها بعنف وهو ينظر اليها بإزدراء ..... ثم همس بصوتٍ يائس
( اخبريني ما الحل الآن ؟؟ ...... فقط اخبريني ......... )
احنت ريماس وجهها و هي تبكي ..... بينما رفع قاصي وجهه وهو يغمض عينيه محاولا التفكير ....
و حين طال الصمت به ووقوفه على هذا الحال , نظرت اليه ريماس و همست برعب
( قاصي .... قل شيئا أرجوك ..... طمئنني بأنه لن يأخذ ابني مني ...... )
ظل قاصي على صمته لحظتين اضافيتين ... ثم قال أخيرا بنبرةٍ آمرة
( أعدي حقيبة ملابسك ......... و أنا سأعد حقيبة عمرو ...... )
همست ريماس برجاءٍ و أمل
( هل ستأخذنا الى بيتك ؟؟ ....... أرجوك أعدني الى عصمتك و سأكون خادمة لك و لزوجتك ..... )
استدار قاصي اليها بطىء وهو ينظر الى التوسل المؤلم على وجهها , ثم قال أخيرا بصوتٍ هادىء
( لا يمكنني يا ريماس ........ لا أريد خادمة لزوجتي ...... أنا فقط أريدها أن تظل زوجتي , ووجودك معي سيهدم ما أسعى الى بنائه معها ...... لا يمكنني خيانتها مجددا ........ )
ارتجفت شفتي ريماس بألم و هي تبكي , بينما قال قاصي متابعا
( سأدخلك الى مصحٍ لعلاج الإدمان .......... عمرو سيظل معي .... )
اتسعت عيناها بذعر و صرخت
( ماذا ؟!! ....... لا يمكن لبضعة مراتٍ من العودة للتعاطي أن تكون سببا كفيا لدخولي الى المصح !! ......أنت تسهل الأمر على راجح , ما أن يعلم حتى أكون قد خسرت حضانة ابني لأبد ...لن أفعل يا قاصي , هل تسمعني ؟؟ .... لا يمكنك اجباري .... )
اقترب قاصي منها حتى أمسك بكتفيها ....حتى رفعت وجهها المبلل المتوسل اليه فنظر اليها و قال ببطىء
( لن نخدع أنفسنا يا ريماس .... لقد عدتِ اليه من جديد , و عليك البدء في العلاج ..... ربما كان الأمر أهون مما نظن لكن علينا البدء على الأقل ..... أنا لن أستطيع مساعدتك و أنا بعيد .... لذا ستحتاجين الى مساعدةٍ بشكلٍ أكيد ...... انظري الى حالة عمرو و حالة البيت ..... هل يقبل ضميرك بأن يبقى معكِ و أنتِ في هذه الحالة ؟! .... إن كنتِ أنتِ تقبلين , فأنا سأتدخل و أمنع وجوده معكِ حاليا الى أن تتعافي تماما .... أنا أظل والده .... و أنا لا أضمن من ستستقبلين ان بقيت على هذه الحالة , و أي موادٍ سامة قد تتواجد في البيت .... سآخذ عمرو معي ...... ولو تمتلكين ذرة متبقية من الأمومة , فلن تعارضي ..... )
.................................................. .................................................. ......................
( أنا لن أخسر ابني مجددا ...... حتى و إن اقتضى الأمر أن أقتله هذه المرة فلن أتردد .. )
هتف قاصي بهذا أمام محامي جده ... الأستاذ فاروق الذي كان ينظر اليه بهدوء وهو يشعل سيجارا فخما ...
ثم قال ببساطة
( حسنا هدىء نفسك قليلا ..... واجلس ....... )
لكن قاصي انحنى ليضرب على سطح المكتب بقبضته صارخا
( سأقتله هذه المرة ........... افعل شيئا ..... )
نفث فاروق الدخان ببطىء , ثم ابتسم قائلا
( أنت عنيف الطباع يا ولد ....... و التعامل معك يرهق أعصابي والله , ولولا توصية الحاج سليمان بنفسه , لكنت تركت كل ما يخصك الى أحد المحامين لدي ....... الآن اهدأ قليلا و دعني استوعب الأمر ....
ما فهمته منك هو أن أم الولد حاليا في المصح ....... )
وضع قاصي يديه في خصره وهو يتنهد بقنوط قائلا
( لقد دخلته للتو ..... حتى أنني خرجت منه و جئت اليك مباشرة , لذا اعذرني إن كنت فظا قليلا ..... تركها هناك مرغمة و هي تبكي و حرمانها من ابنها كان أكبر من احتمالي ..... لقد اضطررت لفعل هذا ..... ما الذي كان بإمكاني فعله سوى ذاك ؟!!! ...... أتراني خسرت عمرو للأبد و مهدت الطريق لراجح عبر دخول ريماس الى المصح ؟!! ...... )
قال فاروق ببساطة و سرور
( اطلاقا ........ بل فعلت طيبا , ..... دعنا نحلل الموقف .... لدينا الآن والدين متنازعين على حضانة الطفل .... الأم متواجدة في مصحٍ لعلاج الإدمان .... و الأب لا يخلو من القضايا و التهم ..... سنحرر عدة محاضر ضده بكل ما ارتكب .و نرفع أكثر من دعوى قضائية تجاهه , هذا بخلاف طريقة زواجه بأم الولد و هجره لها طيلة السنوات الماضية دون أن ينفق على طفله , سيساعدنا هذا في اثبات عدم جدارته كأب ... سنقلب عليه الطاولة حتى يكون سجله حافلا بكل ما لا يليق بحضانة طفلٍ صغير ..... خلال كل هذا , سيتقدم شخص ثالث بطلب الحضانة ..... )
عقد قاصي حاجبيه وهو يسأل بعدم فهم
( شخص ثالث !! ....... من يكون ؟ ........ )
رد عليه فاروق قائلا ببساطة
( جد الطفل ..... الحاج سليمان الرافعي ....... )
اتسعت عينا قاصي ببطىء , بينما نهض فاروق من مكانه ليتابع بنفس الصوت الهادىء , فاتحا كفيه ببديهية
( و حضانة الحاج سليمان للطفل تعني ............. ؟؟؟ .... )
أكمل قاصي بصوتٍ ملهوف
( أن عمرو أصبح في جيبي .......... )
ابتسم فاروق فاتحا كفيه اكثر , فلم يتمالك قاصي نفسه , فهجم على المحامي الذي لا يتجاوز طوله كتف قاصي .... واحتضنه بقوة مما جعل فاروق يجحظ قليلا , قبل ان يضحك بحرج وهو يقول
( حسنا .... حسنا ........... سأعتبر هذا شكرا مقدما .... )
و انتظر أن يتركه قاصي , الا أنه لم يفعل .... بل ظل ممسكا بالمحامي بين ذراعيه ... ثم قال بعنف
( أنت نعمة للبشر يا أستاذ فاروق ....... منذ أن دخلت حياتي و أنا أشعر بها أصبحت أسهل والله .... )
ضحك فاروق و قد ازداد حرجه ..... الا أنه قال مربتا على كتف قاصي ...
( حسنا لندع العواطف جانبا .... و دعنا نتحدث بالعقل قليلا ...... )
ابتعد قاصي عنه وهو ينظر اليه بقلق قائلا
( تفضل ..............لكن أرجوك الا تفسد الأمر ..... )
رد فاروق بحذر
( هذا يتوقف عليك .............. أهم الأسلحة التي سترجح فوز سليمان بالحضانة , هي دخول راجح للسجن .... )
أظلمت ملامح قاصي قليلا , الا أنه ظل ساكنا .... حتى تابع فاروق قائلا ببطىء
( سنسعى الى اثبات اشتراكه في تهمة تهريب الآثار مع والده ..... بالنسبة للحاج سليمان , فهو يريد أن يقتص من راجح لأسبابٍ معينة ..... و لا يمانع في دخوله الى السجن ..... فماذا عنك ؟! لقد فهمت أنك لم تشأ ذلك منذ البداية .... لأن العداوة كانت بينك و بين والده ...... لكن الآن , الأمور قد تغيرت ..... فهل نبدأ في طريقنا ؟؟ ....... )
ظل قاصي ينظر الى المحامي طويلا , الى أن قال أخيرا ببطىء و بملامح خالية من الشعور تماما
( ابدأ .................. )
.................................................. .................................................. .....................
( أنا لا أعلم لماذا يفعل هذا كل مرة ؟!! ....... لماذا يتعمد الا يجيب اتصالاتي ؟!! ..... لماذا يختفي و يتركني أنا أحترق متسائلة عن مكانه ؟!! ...... )
نظرت ثريا الى تيماء بإمتعاض .... بينما كانت ابنتها جالسة بجوارها على طرف الأريكة , و جبهتها بين كفيها ..... غير قادرة على تحمل المزيد من القلق ....
فقالت ثريا بقسوة
( لأنه لن يتغير ..... هذا هو السبب ببساطة ..... هذا هو طبعه و لن يتغير ....... عدم مراعاة مشاعرك في أي شيء ,,,, أنتِ آخر اهتماماته دائما .... )
رفعت تيماء رأسها و مدت يدها محذرة دون أن تنظر الى ثريا
( أمي .... أرجوكِ ....... أعصابي لن تحمل كلمة أخرى منكِ ........ )
هتفت بها ثريا بغضب
( أنت من كانت تتسائل للتو .... فماذا تنتظرين مني ؟! .... أن أسمعك ما تريدين سماعه , وهو أنه يتجاهلك دائما لأنكِ الأغلى على قلبه مثلا ؟!! ...... )
ظلت تيماء مستندة بمرفقيها ناظرة الى الأرض و هي تهز ساقها بعصبية ..... الى أن قالت فجأة بعد وقتٍ طويل
( أنا فعلا الأغلى على قلبه يا أمي ....... لست في حاجةٍ الى من يؤكد لي هذا ....... )
ارتفع حاجبي ثريا قليلا , قبل أن تهمس ساخرة بإستياء
( يالكِ من أكثر الأغبياء إثارة للشفقة ........ )
نظرت اليها تيماء بطرفِ عينيها .... ثم قالت بهدوء خافت
( أنا ابنة أمي ....... ربما كنت غبية في الإختيار دون تفكير أو منطق ..... لكن على الاقل قاصي لا يزال متمسكا بي منذ سنواتٍ طويلة ..... أما أنتِ فقد أسئت الإختيار مرتين , لرجلين لم تكوني لهما سوى نزوة و مصلحة ..... )
بهت لون ثريا تماما و هي تنظر الى ابنتها التي ترميها بسهامٍ قاتلة و بكل دمٍ بارد .... فهمست بألم
( كيف لكِ أن تجرحيني بهذه الطريقة الفظيعة يا تيماء ؟؟!!........... )
ردت عليها تيماء هاتفة بقوة
( لأنكِ تجرحيني بالمثل يا أمي ....... و لا تملين من ذلك أبدا ...... )
صرخت فيها ثريا بعنف
( هذا لأنكِ ابنتي يا غبية و أريد مصلحتي ....... )
نظرت اليها تيماء بعينين حزينتين , ثم قالت بأسى و بنبرةٍ مشتدة ....
( اطمئني يا أمي ... بات لا يفصلني عن مصلحتي سوى أيام .... مجرد أيام قليلة و أسافر بعدها يا أمي لأهتم بمصلحتي ..... و قاصي هو من يدفعني دفعا الى ذلك .... لأن يريد " مصلحتي " لذا رجاءا و حتى موعد السفر ... لا أريد السماع عن ما يعرف ب " مصلحتي " .... )
ظلت أمها تنظر اليها بخوفٍ حقيقي ... ثم همست أخيرا بنبرةٍ مرتجفة
( و ماذا عني يا تيماء ؟ ...... ماذا سأفعل بعد سفرك ؟؟ ....... )
التفتت تيماء تنظر اليها بصمت و دون رد ..... بينما غامت عيناها أكثر , و تعمق الألم في صدرها ....
لكن و قبل أن ترد ..... فتح قاصي باب الشقة و دخل , فنهضت تيماء على الفور و هي تتنفس أخيرا براحة .... لكنها صرخت بعنف
( لماذا لا تجيب اتصالاتي ؟!!!!!! ...... متى ستتوقف عن تجاهل قلقي بتلك الطريقة ؟!! .... أنا لن .... )
لكن و قبل أن تتابع كلماتها الحانقة وجدت عمرو يخرج من خلف قاصي وهو ينظر اليها بوجه حزين .... بينما كان قاصي يحمل في يده حقيبة صغيرة بدا من الواضح أنها حقيبة ملابس الصغير .....
اتسعت عينا تيماء بذعر و هي تضرب على صدرها شاهقة
( هل خطفته مجددا ؟!!! .............. هل خطفت الولد من أمه مجددا يا قاصي ؟!! ..... ألن ننتهي من هذه القصة ؟!! ........ )
نظر اليها قاصي نظرة مبهمة ثم قال مكلما عمرو بنبرة حنونة
( اذهب الى خالتك تيماء و حييها يا عمرو ..... و لا تأبه لهذا التشنج الذي تعاني منه , فهي متوترة لإقتراب موعد سفرها فقط لا غير ..... )
أظلمت عينا تيماء و هي تنظر الى قاصي الذي بادلها النظر ببرود .... فقالت بقسوة على الرغم من تألمها من لامبالاته التي تعرف جيدا مدى زيفها .... و على الرغم من ذلك تؤلمها ...
( لست متوترة ......... كل ما أطلبه فقط هو أن أسافر و أنا مطمئنة بأنك لم ترتكب جريمة خطف جديدة ...... لذا هل يمكنك أن تخبرني بما يحدث رجاءا .... )
قال قاصي بنبرة عالية بدت شديدة القسوة
( هل يمكنك أنتِ أن ترحبي بالصغير , فيومه لم يكن سهلا أبدا .......... )
انتبهت تيماء بالفعل الى أن ملامح عمرو ليست طبيعية أبدا .... فهو مرهق شاحب الوجه , حزين العينين ....
كما أنه لم يهرع الى معانقتها كما كان يفعل دائما ..... و انتبهت أيضا الى أنها قد اشتاقت اليه جدا , لكن خوفها على قاصي حجب عنها هذا الإشتياق للوهلة الأولى .....
لذا وجدت نفسها تنحني حتى جثت على عقبيها و هي تقول بحنان قلق
( تعال يا عمرو ....... ألا تريد معانقتي حبيبي ؟! ..... تعال و أخبرني عن يومك .... )
ظل عمرو واقفا مكانه مطرق الوجه ... فحثه قاصي قائلا بخفوت
( هيا اذهب ......... ألست سعيدا بالإقامة معنا كما كنت تتمنى ؟!! ...... )
" الإقامة معنا !! " ... ما الذي يحدث بالضبط ؟! ......
انعقد حاجبي تيماء بشدة .... لكنها ظلت جاثية أرضا , فاتحة ذراعيها , ثم ابتسمت و هي تقول برقة
( لن أنهض قبل أن تأتي و تعانقني و تخبرني بما يزعجك ...... )
سار اليها عمرو ببطىء في البداية مطرق الوجه .... ثم لم يستطع تمالك نفسه فجرى اليها في الخطوات الأخيرة حتى ألقى بنفسه بين أحضانها ..... فضمته اليها بقوة و هي تقبل وجنته لتهمس له بنعومة
( آآآآه .... اشتقت اليك يا ولد ....... اشتقت اليك جدا ...... )
حضنها عمرو بشدة فربتت على شعره هامسة في أذنه
( ما الذي حدث ؟؟ ............. )
رد عليها عمرو قائلا بقنوط
( ماما كانت تبكي حين تركتها .... لم تكن تريد ان تتركني ...... )
عقدت تيماء جاحبيها و هي تنظر الى قاصي الذي كان يراقبهما بدوره متجهم الوجه ... مكتفا ذراعيه ....
فأعادت تيماء عينيها الى عمرو و سألته بإهتمام
( و أين هي ماما ؟!! ..... في بيتها ؟!! ...... )
هز عمرو رأسه نفيا ببطىء , ثم قال متبرما
( بل في المشفى ...... كي تتلقى العلاج ....... )
اتسعت حدقتا تيماء و هي تنظر الى قاصي , ثم سألته قائلة قبل أن تستطيع منع نفسها
( هل أمه مريضة حقا .... أم كالمرة السابقة ؟!! ........ )
نظر اليها قاصي دون أن يجيبها ... و كأنه لم يعد يكتفي من تأملها , ثم قال أخيرا بصوتٍ هادىء
( لما لا تذهب مع جدتك ثريا يا عمرو ..... ستبدل لك ملابسك و تنظفك , ثم تنام بجوارها في الفراش الوحيد الموجود في البيت .... الذي هو فراشي الا أنها تحتله مؤقتا ..... من كرم أخلاقي .... )
نطق آخر كلمتين بصوتٍ عالٍ مشددا عليهما وهو يرمق ثريا بنظرة تهديد ..... أثناء هتافها معترضة بجنون
( من هي تلك الجدة يا عديم النظر ؟!! ............. )
كانت تيماء قد نهضت واقفة تنظر الى قاصي مكتفة ذراعيها ...... ثم قالت مصدقة على كلامه دون أن تلتفت الى ثريا
( من فضلك نفذي ما يقول يا أمي ... لأن عمرو سينام على السرير , فاما أن تشاركيه السرير الوحيد .... أو أشاركه أنا و تنامين أنتِ على الأريكة .... )
قيمت ثريا الوضع بنظرةٍ سريعة قبل أن تزفر بحدة
( حسنا ..... تعال أيها القصير .... لننتهي من تلك الأمور المضنية ..... لكن أحذرك من أن تبلل الفراش او تصدر أي صوت أثناء النوم ..... )
راقبتهما تيماء وهما يبتعدان ..... الى أن دخلا الغرفة , فنظرت الى قاصي مسرعة و سألته بقوة
( ما الامر ؟!! ...... هل ريماس مريضة بالفعل ؟!! ....... )
استدار قاصي عنها وهو يلقي بالمفاتيح بعيدا بإهمال , ثم بدأ يخلع قميصه , ليقول بصوتٍ أجش
( لقد عادت للتعاطي ....... و قمت بإدخالها الى مصحٍ لعلاج الإدمان .... )
شهقت تيماء و هي تضع يدها على صدرها هاتفة بذعر
( ادمان ؟!!! .......... ياللها من مصيبة !! ......... و هل قبلت بأن تدخل الى المصح و تترك لك عمرو بهذه البساطة .... )
رد عليها قاصي قائلا بصوتٍ قاتم
( لم يكن لديها العديد من الخيارات ...... )
رفعت تيماء كفها الى وجنتها و همست بارتياع
( ياللمسكينة !!! ......... لقد أرغمت هذه المرة على ترك ابنها ..... )
قال قاصي بلامبالاة قاسية
( هي من فعلت هذا بنفسها ............. )
هتفت به تيماء همسا
( كيف لك أن تكون قاسيا الى هذا الحد ؟!! .............. )
رد قائلا بجفاء
( تيماء , لقد كان يوما طويلا و متعبا ..... هل يمكنك تأجيل محاضراتك الإنسانية الى وقتٍ آخر .... )
راقبته وهو يخلع بنطاله الجينز ليبقى بسرواله الداخلي الشبيه بالرياضي ..... فشعرت بالشوق الى أن يضمها الى صدره .... أن يداعب أنوثتها و يوقظ بها تلك المشاعر الجديدة عليها و التي تستجلبها بصعوبة .... الا أن صعوبتها بين يديه هي المتعة بعينها ....
هزت رأسها نفيا بسرعة كي تبعد عنها تلك الأفكار المجنونة .... ثم شبكت أصابعها و هي تسأله بخفوت
( هل أحضر لك الطعام ؟!! ..... من المؤكد انكما جائعان ...... )
رد عليها قاصي وهو يضع بنطاله على ذراع المقعد
( لقد تناولت أنا و عمرو بعض الشطائر ....... لم أكن لأتركه دون طعام حتى هذه الساعة ..... )
اتجه الى الحمام , فلحقت به بسرعة و سألته هامسة بقلق
( و ماذا عن عمرو يا قاصي ؟!! ...........ماذا سيكون وضعه ؟!! ..... )
دخل قاصي في اتجاه المرحاض دون أن يأبه لوجودها ...... ثم قال بإختصار
( أسعى الى ضمه الي ........... )
شهقت تيماء و هي تستدير عنه محمرة الوجه كي تمنحه بعض الخصوصية ..... و لم تنسى أن تسحب الباب معها كي تغلقه جزئيا ..... ثم سألته بإرتباك و هي تحاول تمالك نفسها
( كيف لك أن تضمه اليك بينما والداه على قيد الحياة و يتنازعان على حضانته .... هل عدنا الى البلطجة من جديد يا قاصي ؟! ..... اعرف مدى أهمية عمرو بالنسبة لك ..... لكن لا يمكنك أخذه بالقوة ...... الأمور لا تتم بتلك الصورة ..... )
فتح الباب بجوارها فجأة فالتفتت تنظر اليه بإرتباك ... فلم تطل عيناها سوى صدره ..... و اخذت وقتها في تأمل كل جزءٍ يشع حرارة منه ... قبل أن يرد عليها قاصي بخشونة
( ستتم تسوية الأمر ..... لا تشغلي بالك أنتِ ....... )
عاد الى الردهة مجددا , فتبعته بحنق هامسة
( كيف لا أقلق ؟!! ....... أنت تريد مني السفر , بينما الأمور جميعها مرتبكة ..... عمرو عاد اليك و أنت تنوي استبقاؤه .... و سرعان ما سيعلم راجح بالأمر .... والله أعلم برد فعله , الا أنه لن يكون محترما اطلاقا ..... )
ضحك ضحكة ساخرة قصيرة ... ثم قال ببساطة
( سافري أنتِ و لا تهتمي .......... أنا كفيل بحل هذه المشاكل ...... )
راقبته وهو يعد الغطاء على الأريكة ..... فسألته بصوتٍ خافت
( هل ...... هل ستنام بهذه السرعة ؟! .........)
أجابها قاصي قائلا دون أن يلتفت اليها
( كان يوما مرهقا من جميع النواحي ..... لذا فالإجابة هي أنني سأنام نعم , ...... اذهبي لتنامي بجوار أمك .... سيكفيكم الفراش ..... )
ظلت تيماء على صمتها تنظر اليه بخيبة أمل .... ثم قالت أخيرا بصوتٍ ميت
( لقد تحدد موعد سفري .......... )
توقف قاصي عن الحركة تماما ..... و استقام وهو لا يزال رافضا النظر اليها ... فقالت تسأله بشجاعة
( لماذا لم تجبني ؟؟ ....و لماذا تعاملني بهذه الطريقة ؟! ...... لماذا تبعدني عنك في الأيام المتبقية لي معك بينما أنت من دفعني دفعا الى السفر ...... )
ظل قاصي صامتا ظهره اليها , ثم قال أخيرا بجفاء
( مبارك لك ...... عسى أن تكون هذه المرة موفقة ..... )
ارتفع حاجبي تيماء و سألته بألمٍ قائلة
( هل هذا كل ما لديك لتقوله ؟!!! .......... )
رد عليها قاصي بنبرةٍ عنيفة دون أن يستطيع تمالك نفسه
( ما الذي تريدين مني قوله غير ذلك ؟!! ............ )
" أريد منك أن تمنعني من السفر بالقوة ..... "
لكنها لم تستطع النطق بذلك , لذا عوضا عنه همست بألم
( أريد منك أن تضمني الى صدرك و تعوضني خلال الأيام المقبلة عن سفري و ابتعادي عنك .... )
ظل قاصي واقفا مكانه رافضا النظر اليها , الا أنها أجفلت حين ضحك فجأة بصوتٍ عالٍ ساخر ... فراقبته بقلبٍ غائر الجرح ... الى أن خفتت ضحكاته فسألها متسليا
( هل يعني هذا ما فهمته ؟!!! .......... )
ردت عليه تيماء بملامح ممتقعة وصوت هامس
( ربما ............ )
صمتت ضحكاته تماما ..... ثم ساد صمت طويل و ثقيل بينهما .... الى أن قال أخيرا بهدوء خالٍ من المشاعر
( اذن أنتِ أكثر وقاحة مما ظننت ...... أنتِ تفاجئينني كل مرة .... )
همست تيماء بألم و هي تقترب من ظهره
( وقحة لأنني أريدك ؟!! ........... )
استطاعت أن ترى عضلات ظهره تنقبض في حركاتٍ متوترة لا ارادية .... فتجرأت على لمس ظهرها بأطراف أصابعها .... فما كان منه الا أن انتفض وهو يستدير على عقبيه لينظر اليها بشراسة جعلتها تشهق دون صوت و تتراجع الى الخلف , بينما هدر هو بها بعنف
( ما الذي تفعلينه ؟!!! .......... )
لعقت تيماء شفتيها و هي تنظر الى ملامحه الشرسة , ثم همست بصوتٍ مختنق
( آسفة ....... لم أدرك أن لمستي أصبحت ثقيلة عليك الى هذه الدرجة ....... )
أظلمت عيناه بشدة ., و استطاعت أن ترى الشراسة كلها تذوب أمام عينيها في معجزةٍ غريبة .....
وودت لو يتكلم .... أو حتى يقلبها بقوة كما اعتاد أن يفعل دائما ...... لكن ثريا اختارت تلك اللحظة تحديدا كي تخرج من الغرفة و هي تهتف فيه بغضب
( لماذا تصرخ فيها ؟!! ....... لقد تماديت كثيرا يا قاصي و أنا لن أتهاون معك في حق ابنتي .... )
أغمضت تيماء عينيها بيأس على دموعٍ ترفض أن تمنحها بعض الراحة في الإنسياب على وجنتيها ....
لكن ثريا صمتت و هي تشهق مستديرة عنه لتصرخ بغضبٍ أعلى
( كيف تقف بملابسك الداخلية في ردهة بيتِ به نساء ؟!! ........ الا تملك ذرة أدب أو حياء ؟!! ... )
رد عليها قاصي بنبرةٍ جليدية
( لا يوجد هنا سوى امرأتين .... احداهما هي زوجتي و التي يمكنها أن تراني بدون المتبقي إن أرادت ..... و الأخرى متواجدة هنا لما تمر به من ظروف .... و هذا من " كرم أخلاقي " ... فلا تتمادي أنتِ و عودي الى فراشي الذي أعيرك اياه .....و حاولي بدءا من اليوم التعامل معي بطريقةٍ أسهل لأننا سنبقى معا لفترة طويلة بعد سفر ابنتك ..... )
نظرت تيماء اليه بحزنٍ دفين .... بينما بدأت ثريا تفكر في الأمر و سألته بنبرة مختلفة تماما .. حذرة ... خافتة ... مهذبة .... بها أمل واضح ...
( هل سأبقى معك بعد سفر تيماء ؟؟ ........ )
نظر اليها قاصي و قال بجفاء
( مع من ستبقين غيري ؟!! ..... و من سيلبي لكِ طلباتك التي لا تنتهي ؟!! ...... )
تنفست ثريا بارتياح لم تستطع اخفاؤه ... بينما كانت تيماء تراقبهما بصمت , الى أن قالت أخيرا بهدوء
( سعيدة بأنكما قد رتبتما أموركما بدوني بمثل هذه السرعة ........ و بما أنني قد اطمئنيت على كلاكما , لذا سأذهب للنوم مرتاحة البال ..... تصبحان على خير .... )
نظرت الى قاصي نظرة أخيرة .....فأسر عينيها بعينيه لفترة طويلة بنظرةٍ قاتلة ..... لكنها تحررت منها بالقوة و هي تستدير لتهرب منه فنادتها
أمها من خلفها تقول مبتسمة
( انتظريني يا تيماء ..... )
و ما أن ظل واقفا وحيدا ..... حتى أغمض عينيه , و تحشرجت أنفاسه ليطرق برأسه هامسا لنفسه
( كيف استطعت مقاومة المهلكة و هي تهمس .... أريدك .... لا الطفل و لا أي شيء سواك ... فقط تريدك .... و أنت بكل غباءٍ تبعدها !! ..... و كأنك إن قبلت عرضها فلن تسمح لها بالسفر أو الإبتعاد عنك أبدا !! ...... )
.................................................. .................................................. ....................
( سيد جمال ..... توقف عن هذا ....... )
دوت صيحتها بعنفٍ في أرجاء مكتبه مما جعله يجفل بشدة .... قبل أن تبرق عيناه بغضبٍ و كبر .... ثم سألها بحدة
( سيدة ياسمين .... هل أذكرك أنكِ في مكتب مديرك , لذا لا يسمح لكِ بالصراخ هنا أو تجاوز حدود الأدب في المعاملة ..... تبسطي في التعامل معكم عن طيب خاطر لا يسمح لكِ بأن .... )
قاطعته ياسمين هاتفة بقوة
( لا تتبسط في التعامل ..... و أنا بالتأكيد لا أقبل تجاوزاتك اللفظية معي .... )
نهض من مكتبه فجأة و دار حوله وهو ينظر اليها بنظراتٍ جعلتها تنكمش خوفا و نفورا ..... ثم وصل اليها , فاستعدت للهرب في أي لحظة .... لكنه لم يلمسها .... بل وقف أمامها ينظر اليها بتفصيلٍ محرج مقزز ... الى أن قال أخيرا بصوتٍ خافت مشتد .....
( من يسمعك يظن بأنني أتحرش بكِ ؟!! ............. )
قالت ياسمين و هي تحاول لملمة كنزتها الى صدرها فوق فستانها البسيط .... لكن ما فعلته جعل الكنزة تضيق فوق صدرها أكثر جاذبة عينيه الشهوانيتين ....
( أنا أعتبر التجاوز في الكلام تحرشا لفظيا ...... و انا لا أقبل به ...... )
ضحك مديرها ضحكة عالية , ثم سألها متسليا
( أنتِ تكثرين من قراءة كتب المرأة و حقوقها ..... حتى باتت أي كلمة مدح أو مزاح بالنسبة لكِ ما هي الا نوعا من التحرش .... أنا رجل متزوج يا حبيبتي , وبالتأكيد لن أغامر بحياتي لمغازلة احد موظفاتي ...... )
صمت للحظة وهو ينظر اليها بخبث ... ثم سألها بنبرة غريبة
( أنا أيضا قرأت بعض الكتب .... و أعرف أن المرأة التي تظن كل كلمةٍ ما هي الا غزل بها و بجمالها , في الواقع تعاني من كبت عاطفي ..... )
رفعت ياسمين عينيها تنظر اليه بإزدراء , بينما سألها بخفوت
( كم مر على طلاقك ؟!! .......... )
عقدت ياسمين حاجبيها بشدة و هي تقول بحذر
( عام و نصف تقريبا ..... لماذا ؟!! ................ )
رد عليها مبتسما وهو يتأملها جسديا بدقة ....
( عام و نصف دون رجل ؟!! ...... لابد و أنكِ تعانين كبتا موجعا .... )
شهقت ياسمين و تراجعت للخلف هاتفة
( سأشكوك يا سيد جمال ......... و لنرى إن كان ما نطقت به للتو يعد تحرشا لفظيا أم أنني ..... أعاني كبتا !!!! ..... )
و دون أن تترك له فرصة الرد استدارت لتخرج جارية , الا أنه استوقفها مناديا بقسوة
( سيدة ياسمين ...... فكري الف مرة في موضوع الشكوى ..... فأنتِ سيدة " مطلقة " ... و شهادة الموظفات ضدك ستسيء الى سمعتك .... )
تجمدت ملامح ياسمين و هي تقرأ التهديد الخفي في نظراته ..... بينما وقعت ابتسامته عليها كأقصى درجة من درجات الإمتهان النفسي .....
اطرقت برأسها في النهاية و خرجت من مكتبه تجر قدميها ....
ربما عليها أن تسد أذنيها عنه و لا تهتم .....
لكن لماذا تشعر بكل هذا القدر من القذارة و كأنها في حاجة لأن تستحم بعد كل مرةٍ تخرج فيها من مكتبه .....
الموضوع به انتهاك مؤذي نفسيا ان لم يكن جسديا ..... بأي حق يعتبر جسدها من أدوات مزاحه يوميا ؟!! ... و يدعي أنها هي من تعاني نقصا لرفضها ما يصدر عنه ؟! ....
تعلم جيدا أنها ليست الوحيدة التي يتحرش بها ...... فهو يفعل مع معظم الموظفات , الا أن واحدة منهن لم تقدم ضده شكوى .....
الغريب أن لكل مهن وضع يجعلها تتردد الف مرة قبل أن تقدم هذه الشكوى .... و كأنه يختار ضحاياه بعناية ...
وصلت ياسمين الى مكتبها فجلست خلفه و اسندت جبهتها الى كفها ناظرة الى الورق أمامها دون أن تبصر منه رقما واحدا ....
الى أن نادتها احدى زميلاتها قائلة
( ياسمين .... هل نطلب لكِ شطائر دجاج للغذاء معنا ؟ ......... )
رفعت ياسمين وجهها الشاحب تنظر الى زميلتها بعدم شهية و رغبة في التقيؤ .... ثم هزت رأسها نفيا و هي تقول
( لست جائعة ......... شكرا لكِ ........ )
ضحكت زميلتها بصوتٍ عالٍ و هي تقول ساخرة
( ياسمين ترفض طعاما ؟!! .... من المؤكد أن سببا قويا هو ما أفسد شهيتك على غير العادة .... )
ردت ياسمين قائلة بصوتٍ متعب
( يمكنك القول أن سببا مثيرا للغثيان هو ما يفسد شهيتي .....لكن عامة اطلبي لي معكن شطيرتين ..لكن ليكن المشروب الغازي خالي السعرات ارجوكِ .... نصف العمى و ليس العمى كاملا .... )
ضحكت زميلها و سجلت شطيرتين اضافيتين بينما كانت ياسمين تنظر اليها بيأس ..
هي ليست جائعة ... فلماذا تلجأ الى الطعام دائما و وكأنه الصديق الذي يفهمها ... لا العدو الذي يشوه جسدها .....
الطعام .... لطالما كان الرفيق الذي لا يخذلها أبدا .... الا فوق الميزان ...و على الرغم من ذلك , تقبل خذلانه بكل رحابة صدر ....
نظرت اليها زميلتها و سألتها بعفوية
( اذن ..... ما الذي يشغل بالك الى تلك الدرجة ؟!! ....)
نظرت ياسمين اليها بصمت , ثم قالت بعد فترة محتدة
( السيد جمال ... تجاوزاته اللفظية معي لا تنتهي أبدا ...... )
شعرت ياسمين فجأة و كأن الأعين جميعها باتت مثبتة عليها بينما ارتبك وجه زميلتها و شحب , قبل أن تنهض من مكانها مسرعة كي تقترب منها حتى انحنت على أذنها و همست بحدة
( هل جننتِ ؟!! ...... إياكِ و الكلام بحرية هكذا في المكتب , فهو له جاسوس في كل مكتب , ينقل له كل الأخبار .... و إن زدتِ في هذا الأمر قد يتهمك أنتِ بتشويه سمعته و محاولة ابتزازه ..... فعلها مع موظفة سابقة و ساءت سمعتها تماما .... حتى كرهت حياتها , و استقالت من العمل هربا من الجميع ..... اسمعي يا ياسمين .... هنا مدخل رزقك , حافظي عليه بأظافرك و أسنانك .... تخيلي لو فقدتيه , بماذا ستفيدك الشكوى حينها ..... آلاف غيرك يتمنون وظيفة بنصف راتبك ..... و بما أنكِ خسرتِ زوجك , فالمتبقي لكِ هو راتبك ...... هو أمانك و الظهر الذي تستندين اليه ...... )
تركتها لتزن الكلام في رأسها .... و بالفعل , بقت مكانها تفكر و تتخيل ان تركت العمل و بقت في البيت مع اختها و زوجها دون دخل أو استقلال مادي ..... أي سم زعاف سيسقيانها منه يوميا ؟!! ......
.................................................. .................................................. .....................
( هل أنتِ واقفة في محطة الحافلات ؟؟ ..... أنا قريب منكِ , يمكنني رؤيتك و ..... الاطمئنان عليكِ )
ابتسمت ياسمين و هي تستمع الى صوته المتردد عبر الهاتف و كأنه يخشى أن تحرجه ....
كل يوم تكتشف أنه أكثر أدبا مما كانت تظن ....
يتكلمان يوميا لمدة دقيقة واحدة أو أقل ..... صحيح أنها تود لو طالت المكالمة حتى الصباح , الا أن تلك الدقيقة كانت كافية كي تنسيها عذاب اليوم بأكمله ...
رجولته بالنسبة لها ترياق ... يشفي أنوثتها الجريحة من كل اتجاه ....
لقد تقابلا مرة أخرى عند محطة الحافلات ... بدت مختلفة عن المرة الأولى ,,,, و كأنه كان سعيدا , متلهفا لرؤياها .... حتى أنه مازحها بضعة مرات ... و هي كانت تضحك بسعادة مستندة الى مظلة المحطة كمراهقة هربت من المدرسة كي تقابل حبيبها ....
لكن اليوم حالتها النفسية كانت في الحضيض ... لذا أجابته بهدوء
( أنا لست في المحطة .... أنا أجلس في أحد المقاهي .... )
ساد صمت قصير على الجانب الآخر , ثم سألها قائلا بتوتر
( بمفردك ؟! .......... )
أجابته ببساطة
( بالتأكيد بمفردي .... مع من سأكون اذن ؟!! ............ )
ساد الصمت بينهما مجددا , ثم قال أمين بصوتٍ بدا رسميا قليلا
( خسارة أنني لن أراكِ اذن ........... )
ردت عليه ياسمين بصوتٍ خافت مجهد
( المقهى بجوار محطة الحافلات ..... يمكنك القدوم إن أردت ....... )
صمت مجددا ....لكنه طال هذه المرة , حتى عقدت حاجبيها بقلق , ثم سألته قائلة
( أمين !! ..... الا زلت معي ؟!! ........ )
رد عليها قائلا بصوتٍ جاف
( أنا معك ...... أخبريني اسم المقهى و سآتي اليكِ خلال دقائق ....... )
و بالفعل خلال دقائق كانت تجلس في انتظاره .... لكنها كانت شاردة تماما , حتى نبضات قلبها لم تكن متسارعة ككل مرة تراه او تسمع صوته .... فالإنهاك النفسي الذي تمر به قد نال منها و جعلها تجلس مكانها وحيدة فاترة الشعور تماما ......
حتى أنها لم تلحظ الثلاث شباب الجالسين على طاولة بجوارها .... حيث كان يتغامزون و يتهامسون عليها ... و نظراتهم أبعد ما تكون عن الأدب ....
لكن هو لاحظهم ما أن دخل .... بنظرة واحدة الى المكان رآها .... و رأى الثلاث شباب يتهامسون في اشاراتٍ وقحة عليها ....
لم يشعر أمين في تلك اللحظة الا و النار تدب في أعماقه و تحرك ساقيه بسرعة في اتجاه طاولة الشباب ....
و ما أن وصل اليهم حتى هدر فيهم بقوة
( هل لدى احدكم مشكلة ؟!! ......... )
انتفضت ياسمين على صوته الجهوري و استدارت تنظر اليه بفزع بينما أجفل الشباب الثلاثة , ثم سأله أحدهم بفظاظة
( ماذا بك يا أخ ؟! .........هل خاطبك أحدنا ؟! ...... )
رد عليه أمين و قد أعمت العصبية عينيه
( تلك المرأة التي تتهامسون عليها بوقاحة تخصني ,فهل لدى أحدكم مشكلة و يريد أن يناقشها معي ؟!! ... )
نظر الثلاثة الى بعضهم بتذمر , ثم قال آخر بينهم
( ربما كان في الأمر سوء تفاهم ..... لقد ظننتنا نتحدث عنها , بينما نحن لم نلحظ جلوسها من الأساس ... )
رد أمين بفظاظة و همجية
( آه .... ربما ظننت بالفعل , عامة وجب التوضيح ........ )
و دون أن يفسح لهم مجالا للرد اتجه الى ياسمين التي نهضت من فورها , فأخرج من حافظته ورقة مالية , ألقى بها على الطاولة ثم أمرها بتسلط
( اخرجي من هنا ........ هيا ....... )
نهضت ياسمين أمامه مسرعة دون معارضة .... و لم يرى ابتسامتها البراقة وهي تسير أمامه , كانت سعيدة و تشعر بالروح تدب في أوصالها من جديد و هي تختبر ذلك المعنى الجديد من الغيرة و الذي لطلما تمنت أن تستشعره ....و حين فعلت , لم يكذبها توقعها .... لقد كان رائعا .... يذوب في الدم , يحي الخجل و يزيد الأنوثة ....
لكن كل تلك المشاعر الجميلة البريئة انتهت ما أن خرجا الى الشارع فصرخ فيها فجأة
( اي نوع من النساء أنتِ كي تجلسين بمفردك في مقهى خاص بالرجال .... وتسمحين لنفسك بأن تكوني عرضة لوقاحة كل من يمر بكِ ؟!! ...... )
بهتت ملامح ياسمين أمام تلك اللهجة التي يخاطبها بها , الا أنها قالت بخفوت
( هذا المقهى مخصص للرجال و النساء على حدٍ سواء .... ليس للرجال فقط .... )
رد عليها أمين بعصبية أكبر
( لم أجد هناك سوى امرأة واحدة فقط .... هي أنت و الجميع ينظر اليها و يتهامس بإشاراتٍ وقحة .... )
توترت أعصاب ياسمين أكثر , الا أنها ردت بخفوت باهت
( لأنه لم تأتي سيدة أو فتاة بعد ..... لكنه عادة يكون مليئا بالسيدات كالرجال تماما ..... )
اتسعت عينا أمين و هدر بها
( هل أنتِ مقتنعة بهذا التبرير ؟! ....... )
عقدت ياسمين حاجبيها و سألته بدهشة
( أنا لم أبرر شيء .... لأنني ببساطة لست في حاجة للتبرير ..... )
كان هذا هو دور أمين كي يجفل و يتراجع رأسه أخيرا , ليقول بصوتٍ غريب
( ما معنى هذا بالضبط ؟!! ......... )
ردت عليه ياسمين بثقة
( معناه أنني شعرت بالفعل بشعور جميل و انا أراك تندفع لتحميني من نظراتهم .... لكن هذا لا يعطيك الحق في التحقيق معي و محاسبتي بهذا الشكل ..... )
كان أمين ينظر اليها مذهولا .... و كأنه لم يستوعب بعد , أو ربما هي من لم تستوعب بعد ....
كيف لا يحق له التحقيق معها أو محاسبتها ؟!! ؟؟..... هل ظنت أنه سيكون ذو عقلٍ متفتح ليمرر الأمر بصورةٍ طبيعية و كأن الدم لم يغلي في رأسه منذ دقائق !! ....
على أي أساسٍ يتكلمان يوميا اذن ؟! ..... الصداقة ؟! .... الأخوة ؟! ..... علاقة استقلالية من الطرفين ؟!!..
هز أمين رأسه قليلا وهو يسألها ببطىء
( دعيني أفهم هذا ...... الا تشعرين ولو لحظة بأن تصرفاتك قد تكون متحررة و متهورة ؟!! .... )
بدأ الغضب يشتعل بداخلها فجأة فقالت محتدة
( أي تصرفاتٍ متحررة ؟!! ..... تتكلم و كأنك وجدتني في مرقص !! ..... )
رد عليها أمين بحدة أكبر
( و ما الفارق بين المرقص و المقهى طالما أن الوقاحة التي تتعرضين لها واحدة في المكانين ؟؟ .... )
هتفت ياسمين بغضب عنيف
( لا اعذرني .... الفارق ضخم , أنا امرأة ناضجة و محترمة , قررت الترفيه عن نفسي فاخترت مكانا محترم لأجلس به ..... أن تجد به نموذجا قذرا لا يترك شيئا مؤنثا الا و تحرش به , فهذا ليس خطئي ..... )
كان أمين ينظر اليها مذهولا و كأنه يدعو الله أن يثبت عليه العقل و الدين .....ثم سألها بخفوت مفاجىء
( الا ترين خطأ في ملابسك كذلك ؟؟ ....... )
أخفضت ياسمين نظرها تنظر الى فستانها الذي يصل الى أسفل ركبتيها مظهرا جزءا من ساقيها الجذابتين في امتلائهما .... و يشد الجزء النحيف من خصرها لينسدل على منحنياتها المكتنزة .... ...
ثم رفعت وجهها اليه و قالت بهدوء
( كان يجب أن أعرف بأنك لن تتغير بسهولة ..... نفس التفكير العقيم المتخلف في محاسبة الفتاة على قذارة رجل ...... )
ضاقت عينا أمين وهو ينظر اليها بصمت , بينما هي تتنفس بسرعة تبادله النظر بغضب .... الى أن قال أخيرا بهدوء
( أتغير ؟!!! .... من أخبرك أنني أريد التغير ...ربما كان تفكيري عقيما بالفعل ..... اعذريني إن كنت غير قادرا على استيعاب كل تلك النظريات , عوضا عن مبدأ واحد بسيط .... هو الا تعرضي نفسك لكل من لا يسوى ..... لكن عامة ليس لدي شيء أزيده سوى ...... اعتني بنفسك جيدا يا ياسمين ..... )
و دون أن ينتظر منها الرد كان قد استدار و تركها بالقرب من محطة الحافلات تنظر اليه بهلع خوفا مما يقصده ..... هل هذا خصام أم فراق ؟!! .......
لكن هل كان بينهما شيء من الأساس كي يفارقها ؟! ..... هل هي مخطئة أن وضعت له الحدود من البداية ؟!! .....
أرادت أن تناديه و تترجاه أن يسامحها , لكن روح التمرد بداخلها لم تقبل بهذا .... فعضت على شفتها و استدارت متجهة بتخاذل الى الحافلة الواقفة ....
أما أمين فقد قاد سيارته بعصبيةٍ .... حتى وصل الى البيت بأعجوبة ......
ليدخل الى غرفته معتكفا عن الجميع .....
و ظل مستيقظا حتى الفجر ما أن دخلت أمه كي توقظه للصلاة فوجدته جالسا بملامح صلبة ... حازمة , فسألته بقلق
( ما الذي يشغل بالك حتى الآن يا حبيبي ؟؟ ............ )
نظر أمين الى وجه والدته ثم قال أخيرا بهدوء
( لقد استخرت الله يا أمي .......و قررت خطبة بدور ..... )
تهللت ملامح والدته و برقت عيناها بسعادة و هي تهتف تضمه الى صدرها بقوة
( والله لولا أنه وقت آذان الفجر لملأت الدنيا بالزغاريد ..... مبارك لك يا حبيبي ..... عسى أن يجعلها الله زيجة العمر لك يا ولدي .... )
ربت أمين على يدها برفق قائلا
( بدور فتاة طيبة يا أمي ..... و أنا أتعجب لماذا استغرق مني الأمر كل هذا الوقت كي أتخذ قراري ...... ليتني كنت فعلت منذ البداية , لكنت وفرت على نفسي حرجا بالغا ...... )
قبلت أمه وجنته , ثم قالت بسعادة حقيقية
( ما أن يشرق الصباح , حتى أتصل بوالدة بدور و أزف اليها الخبر .... الآن قم للصلاة , زد ركعتين شكر لله أن أضاء قلبك للقرار أخيرا ..... )
.................................................. .................................................. ...................
كانت بدور جالسة منذ الفجر و حتى الصباح تذاكر بصمت ..... محاولة الإنشغال عن مشاكلها بالدراسة قدر الإمكان ......
الدراسة بالنسبة لها في هذه الفترة من حياتها هي كل ما تبقى له , العالم الذي يشغلها عن عالمها القاتم و الغير مبشر بأي مستقبل , فعلى الرغم من نيتها الصادقة في النجاح ....
الا أنها تعرف بأن والدها لن يقبل بأن تعمل مطلقا ..... أي أن حياتها متوقفة حتى أجل غير مسمى .....
انتبهت بدور فجأة على صوت صيحة أمها و هي تهتف
( استحلفتك بالله قولي الصدق ؟!!! ...... حقا تتكلمين ؟!!! ..... نهار أبيض , نهار مبارك ....... بالتأكيد سأخبرهما ...... سلمتِ لي يا أم الغالي ..... )
رمشت بدور بعينيها قليلا و هي ترى والدتها تضع الهاتف من يدها .... ثم ودون مقدمات بدأت في اطلاق الزغاريد العالية التي وصلت الى الشوارع المجاورة
بالنسبة لبدور ...
كان صوت الزغاريد يعني فضيحة .... مذاق الدم ..... جلد الأحزمة ..... صراخ و عويل ...
تلك هي بعض الصور التي تراءت لها ما أن سمعت صوت الزغاريد ......
و ما ان انتهت أمها من احتفالاتها الصاخبة , حتى اندفعت الى بدور و ضمتها الى صدرها بقوة و عنف و هي تبكي شاهقة
( مبارك يا حبيبتي .... صبرتِ ولو يخيب الله صبرك و رجائي ...... مبارك يا صغيرتي ..... لقد خطبك أمين ابن عمك ..... )
لم تبكي .... لم تسقط مغشيا عليها ......... بل ظلت في حضن أمها و هي تنظر أمامها بعينين ثابتتين
المكتوب لا مفر منه ...... كفى هربا و ايقاعا بالبشر نتيجة خطأ واحد ارتكبته هي و ستبقى نادمة عليه العمر بأكمله ...
ستوافق .... و تسلم للمكتوب ........ 

طائف في رحلة ابديةWhere stories live. Discover now