الفصل الحادي والخمسون

102K 2K 36
                                    


( بدور !! ...... هل هذه أنتِ حقا ؟!!! .... لم اصدق مبروكة حين أتت الي مهرولة تخبرني بأنكِ واقفة بدمك و لحمك في منتصف بهو الدار !! ..... )
كانت بدور واقفة كالغريبة في بهو دارها .... ذاك الدار الذي لم تشعر يوما بأنه بيتا لها ....
بل مجرد سجن عقيم .... هروبها الأول منه , كان معجزة التحاقها بالجامعة في المدينة و اغترابها بعد رفض والدها لفترة طويلة ....
على الرغم من ضربه لها كلما حصلت على علاماتٍ غير مشرفة في المدرسة مما جعلها تظن بأنه يرغب في أن تلتحق بأكبر الجامعات و أصعب الكليات ... الا أنه على ما يبدو كان يفعل هذا مع ايمانه التام بأنها لن تصل الى اي مستوى مشرف ...
لذا كان ذهولها شديدا حين رفض اغترابها .... و كانت تظن بأنه سيفخر بها للمرة الأولى و هي تزف له خبر نجاحها في الثانوية العامة ....

نظرت بدور الى صورة مذهبة الإطار ضخمة لوجه والدها تحتل البهو بصرامة ملامحه المتجهمة دائما حتى في لحظة التقاط صورة ستظل تلاحقهم حتى بعد وفاته ....
غير قادرة على الجلوس و كأنها ضيفة تنتظر نزول أهل البيت اليها لإستقبالها و هي بكامل حجابها و عبائتها السوداء .... لا تريد حتى التحرر من وشاح رأسها ....
الى أن وصلها هتاف أمها المذعور من خلفها و الذي لا يحمل ذرة ترحيب أو اشتياق ... فقط ذعر طغى على كل شيء آخر ...
التفتت بدور ببطىء و بملامح ثابتة ذات نظرات لا تحمل اي مشاعر .... فأبصرت أمها التي تنزل على درجات السلم متعثرة و ملامحها مضطربة خائفة الى أن وصلت اليها تلهث بعينين واسعتين ...
فبادرتها بدور بإبتسامة لا تحمل أي مرح و لم تصل الى عينيها ... و قالت بخفوت
( أهلا أمي حبيبتي .... اشتقت اليكِ ...... )
الا أن والدتها لم تبادلها الإبتسام و لم يختفي الخوف عن ملامحها و هي تمسك بكتفي بدور تسألها متوترة
( ما الذي حدث و أتى بكما الى هنا و لم تكملا بعد الإسبوعين منذ زفافكما ؟!!! ..... هل حدث مكروه ؟!! .... هل أم أمين بخير ؟!!! ...... )
زفرت بدور نفسا بطيئا و هي تنظر الى عيني أمها الواسعتين .... و قالت تقاطعها بصوتٍ متشنج
( أمي أنا ...........)
الا أن أمها قاطعتها و هي تنظر خلفها و في كل مكان بذعر
( أين زوجك ؟!! ....... أين ذهب و تركك ؟!! .... قلبي كان متأكدا أن هناك أمر جلل كي يأتي بكما الى هنا بعد أيامٍ من زواجكما ..... يا رب العالمين ...)
أغمضت عينيها للحظة و هي تضع يدها على صدرها لتلتقط نفسا مرتجفا و هي تبدو على وشك السقوط أرضا ... ثم فتحتهما لتسأل بدور بصوتٍ مرتجف يتوقع حدوث مأساة
( من مات ؟!!!! ..... هل حماتك بخير ؟؟!!! .......)
هزت بدور رأسها بيأس ثم قاطعت أمها بنبرة عصبية عالية
( لم يمت أحد يا أمي ........ و خالتي أم أمين بخير ....... كما أن أمين لم يأتي معي من الأساس ....)
صمتت فجأة و قد غادرتها بعض من شجاعتها ... و هي ترى عيني أمها تتسعان بعدم فهم ... الا أنه عدم فهم مرتاع !! .... فأخذت نفسا مرتجفا و تابعت تقول بصوتٍ أقل حدة ...
( لقد سافرت وحدي ..... ...... )
ظلت أنها في حالةٍ من الصمت و الجمود التام و هي تنظر الى بدور و كأنها لم تسمعها ... الى أن قالت أخيرا بصوتٍ مصدوم خافت
( سافرتِ وحدك !!! ........ بعد أيامٍ من زواجك ؟! كيف وافقكِ أمين على هذا ؟! .... و لماذا ؟! .... )
نظرت بدور الى عيني أمها للحظات , قبل أن تخفض وجهها ثم قالت بصوتٍ أكثر خفوتا و اضطرابا
( لم يوافقني .... لقد خرجت من البيت دون علمه , الا أنني أخبرته بسفري في اتصال ..... لقد .... لقد انتهى زواجنا يا أمي .... أريد الإنفصال عنه ..... )
للحظةٍ ترنحت أمها حتى ان بدور سارعت محاولة إسنادها , الا أن أمها تماسكت و قبضت على ذراع بدور فجأة بمخالبٍ حادة عنيفة .... و هي تنظر الى عينيها بفزعٍ ثم سألتها بصوتٍ مرتجف
( ماذا قلتِ للتو ؟!!!! ....... لا أظن أنني سمعتك بشكل صحيح ......)
لعقت بدور شفتيها الجافتين و هي تنظر الى أمها دون أن تحيد بعينيها عن تلك العينين المصعوقتين .... ثم قالت بصوتٍ مختنق
( لا يا أمي .... لقد سمعتِني ...... أنا أريد الإنفص....... )
الا أن أمها صرخت بجنون و هيستيريا
( لا!!!!!!!!! ....... لم أسمعك و لن أقف لحظةٍ واحدة لأسمع هذا الجنون الذي تهذين به ..... )
همست بدور بصوتٍ يائس
( أمي ............. )
الا أن أمها صرخت فيها بعنفٍ جديدِ عليها
( اخرسي ....... اخرسي لا أريد سماع صوتك ........ )
ثم نفضت كفها عن ذراع ابنتها و هي تستدير حول نفسها ضاربة على صدرها ... ثم همست بذعر
( سافرتِ دون اذن زوجك بعد أيامٍ من زواجك ... و دخلتِ الى البلد أمام الجميع بمفردك ..... ياللفضيحة !! .... ماذا سيقول الناس عنا ؟!! ...... )
ارتجفت بدور قليلا , الا أنها قالت بخفوت
( لم يرني أحد يا أمي و لا أعتقد أن رؤيتي تهم أحد ........ )
استدارت أمها اليها مجددا و صرخت بجنون و قد بدأت الدموع تفر من عينيها بسرعة البرق
( بل سيهتمون في ظرفٍ كهذا ..... ما الذي يجعل عروس جديدة تخرج من القطار بمفردها عائدة الى بيت والدها الذي غادرته منذ أيام بفستان الزفاف ..... إن لم يهتم بكِ أهل البلدة طوال عمرك , فسيهتمون بكِ الآن و تصبحين مثار تساؤل و تكهنات , ..... الله أعلم كم القصص التي سيتم تأليفها عن عودتك ..... ياللمصيبة .... ياللمصيبة ....... )
كانت تضرب على صدرها مع كل هتاف مذعور ..... فقالت بدور تئن بإختناق
( أمي ....... أرجوكِ لا تفعلي هذا بنفسك ..... )
الا أن أمها صرخت و كأنها لم تسمعها
( و زوجك !!! ...... كيف سغفر لكِ فعلتك السوداء ؟!! ..... كيف سنرفع وجوهنا أمامه بعد الآن ؟!!! ..... ياللمصيبة التي لم تكن في البال أو الخاطر .... )
الا أنها توقفت عن الكلام فجأة و شحب وجهها كشحوب الموتى و هي تحدق في البعيد هامسة
( و ماذا عن والدك ؟!!! ....... ياللخراب الذي هطل على الدار و أهله .... هذا حسد .... حسد أسود ..... لقد حُسِدتِ منذ الليلة الأولى لزواجك ..... و كأن البشر يستكثرون الفرحة لكِ ...... ..... )
رفعت أمها وجهها الشاحب المبلل تنظر الى بدور و همست بقسوة
( عليكِ العودة حالا ....... و قبل عودة والدك , حتى إن اضطررتِ للبقاء في المحطة منتظرة القطار التالي و أنت ترتدين نقاب ...... و إن اقتضى الأمر سأقبل يد زوجك كي يعفو عنكِ و لا يخبر والدك و يحتكم اليه في فعلتك السوداء ..... )
ثم جذبتها من ذراعها بسرعة و هي تتحرك بها تجاه الباب دون تفكير أو تخطيط ...
بينما بدور تتعثر و قد أرهقتها ساقها من الجلوس لساعاتٍ طويلة ... ثم الوقوف لفترةٍ طويلة كالأغراب ..
الا أنها هتفت بقوة
( أمي .... لا يعقل أن تطرديني من بيتي , ..... أنتِ حتى لم تسأليني إن كانت هناك مشكلة أعاني منها ..... )
توقفت أمها بالقرب من الباب تلتفت الى ابنتها و هي تصرخ بجنون
( و لن أسأل ..... لن أسأل ..... هل تسمعين هذا ؟؟ .....لا أريد معرفة أي شيء ...... )
توقفت عن الكلام فجأة و هي تسمع صوت مفتاح في قفل الباب بالقرب منهما تماما .... قبل أن يٌفتح و يطل منه زوجها بملامحه المتجهمة المخيفة ينظر اليها بنظرةٍ تجمد الدم في العروق ثم صفق الباب بعنف وهو يقول هادرا
( لماذا يعلو صوتك يا امرأة ؟! ...... هل فقدتِ عقلك , لقد سمعته قبل أن أفتح الباب ..... )
تراجعت أم بدور للخلف خطوة واسعة العينين .... شاحبة الوجه .... فاغرة الفم و كأنها قد نسيت كيف تتنفس ...
و لم تجد الفرصة للرد ... فقد لمح بدور خلف الباب بالفعل و حدث ما حدث .....
للحظات اتسعت عيناه , قبل أن تزداد ملامحه قتامة وهو يسأل بنبرةٍ منذرة بالشر ... التوتر واضح فيها
( بدور !!! ...... ماذا تفعلين هنا يا فتاة ؟! .... ما الذي أعادكما الى البلد بهذه السرعة ؟! .... )
ساد صمت مرعب بين ثلاثتهم .... و قد فقدت بدور كل شجاعتها في لحظةٍ واحدة و شعرت بنفسها على وشك الموت و كأنه قلبها قد أعلن توقف دقاته .....
و للحظات دار في ذهنها شريط طويل من الكذبات التي يمكن أن تتلوها على مسامعه و ربما تنقذ حياتها بعد أن تعود لأمين .... و هو لن يطردها كما فعلت أمها بل سيستقبلها لفترة مناسبة حتى يحين وقت طلاقهما ....
لكن فجأة ... طالعتها نظرة أمين الساخرة وهو يراها واقفة أمامه متخاذلة عائدة بخيبتها ....
و فراغ ..... فراغ غريب جعلها ترفع وجهها الى والدها بملامح جامدة و قد سكنت روحها بعد أن أوشك الفزع أن يفقدها صوابها ....
و دون تفكير وجدت شفتيها تتحركان قائلة بهدوء
( أنا أريد العودة الى داري يا أبي ...... أريد الطلاق و العودة الى داري ..... لم أكن مستعدة للزواج من البداية .... لا أريد سوى متابعة دراستي , أرجوك افهمني قبل أن تنفعل لمرة واحدة في حياتك ..... أنا ..... )
الا أنها لم تجد الفرصة لتتابع كلامها الخافت الخالي من أي مشاعر .... فقد عاجلتها صفعة عنيفة من والدها أسقطها أرضا وهو يهدر بجنون
( اخرسي ....... هل جننتِ يا بنت ال *** ....... هل جننتِ .... هل جننتِ .... هل تردين جلب الفضيحة لهذا الدار ؟!! ..... )
صرخت أمها عاليا و هي ترى ابنتها واقعة أرضا و قد شُقت شفتيها على الفور و أدميت .....
بينما تابع والدها يسألها بصوتٍ مرعب
( هل زوجك هو من أحضرك الى هنا بعد أن هذيتِ أمامه بهذا الجنون ؟!!! ..... والله كان عليه تكسير عظامك قبل أن يعيدك ...... )
رفعت بدور كفها لتمسح بها طعم الدم الذي سال الى لسانها و هي تنظر الى ملامح والدها الشبيهة بأشرار القصص الخيالية .... و كانت تتنفس بسرعة .... سرعة غضب عنيف ...... غضب أسود لم تدرك أنها تملكه أبدا , لكن على ما يبدو أنها قد ورثته عن والدها و ظل قابعا في زاوية عميقة بداخلها دون أن تدري ...
هذا الغضب جعل عينيها تبرقان بشراسةٍ و تشفي و هي تصرخ هاتفة في وجهه دون خوف
( لم يحضرني ..... أنا أتيت وحدي دون علمه , لذا لن يسامحني و لن يعيدني اليه بعد ما فعلت .... لذا لا تتأمل كثيرا ..... )
و لم تدرك أنها تبتسم ابتسامة خفية و هي ترى والدها ذاهلا من وقاحة ردها و جرأتها الغريبة ..... حتى أنها خشت أن يصاب بنوبةٍ قلبية صدقا .....
صرخت أمها قاطعة هذا الصمت المجنون و هي تنتحب بذعر و ذهول
( بدور ّ!!! ...... ما الذي أصابك ؟!! ..... أقسم بالله هو عمل شرير و أصابك ..... حسدونا على فرحتنا ... )
الا أن زوجها لم يسمع ما قالته .... بل هدر بعنفٍ ما أن استرد وعيه من تلك الطريقة التي خاطبته بها ابنته للتو ....
( أنا سأريكِ أيتها ال *** ......... سأريك من منا الذي لن يتأمل ..... الرحمة ... )
و بحركةٍ واحدة انحنى اليها ممسكا بوشاح رأسها و شعرها و ذراعيها وجرها أرضا بينما هي تصرخ عاليا من شدة الألم ..... و ما أن حاولت أمها التدخل بينهما حتى رفع زوجها وجهه لها و صرخ بعنف زلزل أرجاء الدار
( قسما بالله لو تدخلت للدفاع عنها ولو بكلمة فستكونين طالقا بالثلاث ........ )
ضربت أم بدور فمها بكفها وهي تكتم كل الكلمات التي كانت ستتوسله بها بينما انهمرت الدموع من عينيها بقهرٍ غير قادرة على الحركةٍ أو النطق و هي ترى زوجها يجر بدور أرضا كما تجر الذبائح و هي تصرخ بألم .... الى أن دخل بها غرفة في الطابق الأرضي أغلق بابها خلهما بالمفتاح الذي أصدر صوتا مرعبا ...
و ما هي الا دقائق حتى علا صوت صرخات بدور بنبرةٍ أكثر ألما مترافقةٍ مع صوت ضرباتٍ لا ترحم ....
فسقطت أمها أرضا و هي تضرب وجنتيها صارخة
( ابنتي ....... البنت ستضيع مني ....... )
خرجت مبروكة من المطبخ جريا حتى ارتمت بجوار سيدتها ارضا على ركبتيها و صرخت فيها مترجية
( افعلي شيئا يا حاجة ...... البنت ستموت ....... )
نظرت اليها أم بدور بنظراتٍ مثيرة للشفقة بأبشع صورها ثم هتفت مولولة
( لقد أقسم علي بالطلاق ........ سيطلقني و يرميني خارجا بعد هذا العمر ...... )
صرخت مبروكة فيها
( أقسم بالطلاق إن تدخلت بينهما بكلمة ...... اذن اتصلي بزاهر وهو من سيفعل .... هو شقيقها و سيدافع عنها ...... )
أومأت أم بدور برأسها و هي تمسح دموعها بأصابع مرتجفة و كأنها قد تذكرت ابنها على الفور ... فنهضت من فورها و مبروكةٍ تساعدها و كأن ساقاها قد تحولتا الى هلامٍ الى أن وصلت للهاتف فاتصلت بزاهر و هي تبكي هاتفة
( انجدني يا ولدي ......... انقذ أختك ...... )
.................................................. .................................................. ......................
( لن تدخلي يا أمي ...... لقد أقسم عليكِ بالطلاق ....... )
منعها زاهر هادرا وهو يمسك بكتفيها بكل قوته ... فرفعت أمها وجهها و هتفت باكية
( فليطلقني اذن ...... قلبي لا يحتمل أكثر .... ابنتي تصرخ منذ ساعة و أنا التي ظننتك ستتدخل و تنقذها .. )
هتف زاهر بصوتٍ شبيه بصوت والده .... غاضبا محتدا
( أنقذها ؟!!! ..... والله لو رأيتها لما استطعت السيطرة على غضبي ولخنقتها بكلتا يداي ..... دعيه يربيها على فعلتها ..... أنتِ لا تدركين حتى الآن حرج موقفنا أمام أمين ..... و ماذا إن تملكه العناد و طلقها بالفعل ؟!! ..... من سيلومه حينها ؟!! ...... نحن فقط من سنتحمل القيل و القال في البلدة ..... ابنتك تحتاج القتل لا الضرب ....... و قسما بالله إن حاولتِ التدخل أنا من سيقف لكِ .... )
توقفت امه عن المقاومة للحظات و هي تنظر اليه بعينين واهنتين .... عاجزتين و متورمتين ....
ثم قالت بصوتٍ ضعيف غير مصدق
( و أنا التي ظننتك ظهري الذي سأشتد به في الدفاع عن أختك !! ....... )
الا أن زاهر لم تلن ملامحه .... بل ظلت على خشونتها و قسوتها وهو يرد بفظاظة
( أي دفاع هذا عن مختلةٍ مثلها ستطيح بكرامتنا في البلد ..... فعلا ..." ناقصات عقلٍ و دين " .... )
اتسعت عينا والدته مصدومةٍ للحظات .... ثم تراجعت للخلف و هي تهمس
( هكذا !! ..... سامحك الله يا ولدي ...... سامحك الله ..... )
ثم استدارت عنه و هي تكرر دعائها باكيةٍ بإختناق الى أن ابتعدت عنه تماما .... و ما أن شعرت بنفسها تكاد أن تسقط حتى انحنت و جلست أرضا تستند الى الجدار محدقة أمامها بعينيها المتورمتين ....
تسمع من بعيد صوت ضربات زوجها .... و صرخات بدور ذات الإيقاع الرتيب المفزع .....
بعد ساعةٍ أخرى .....
كان صوت أبا زاهر لا يهدأ وهو يملي على مسامع ابنته ما سيحل بها إن طلقها زوجها .... سيحيل حياتها الى جحيم ...
ستتوقف عن الدراسة و تحيا في الدار تعمل مع الخادمات و ليس لها قيمة أكبر عنده .....
لم يضربها بصورةٍ متواصلة طوال الساعتين .... بل كانت يتوقف كل فترةٍ و أخرى .... ثم يعاود ضربها و كأنه يتأكد من الا تفقد الوعي ....
و الغريب أن بدور كانت تزداد شراسةٍ بطريقة غريبة .....
كان صوتها الصارخ يصل الى أذني أمها على فتراتٍ متباعدة
( لم أعد أخاف منك ....... افعل ما تريد ....... )
فيزيد جنون والدها أكثر .... و يزداد جنون ضرباته .....
أما أم بدور على حالها ... مرمية أرضا بجوار الجدار ككمٍ مهمل .... و قد تجمدت الدموع في عينيها , منتظرة سماع نهاية حياة ابنتها في أي لحظة ....
الى أن جائتها مبروكة على أطراف أصابها و جثت بجوارها تهمس في اذنها
( خذي يا حاجة أتيتك بهاتفك ..... اتصلي بالسيد أمين ........ )
نظرت اليها أم بدور بوجه ميت و هتفت بإختناق
( هل جننتِ يا امرأة !! .... بعد ما فعلته بدور هل أجد الجرأة على الإستنجاد به ؟!!! ...... )
ردت مبروكة بثقةٍ دون تفكير
( السيد أمين ابن الحاج راشد رحمه الله مختلف ...... )
ثم أدركت ما تفوهت به للتو بغباء , خاصة و أن أم زاهر أخفضت وجهها بملامح مكتئبة حزينة ... فسارعت مبروكة تقول بتلعثم
( لم أقصد يا حاجة .... قصدت قفط أنه ..... أن ....... )
قاطعتها أم زاهر و هي تمد كفها هامسة بإعياء
( هاتِ الهاتف ........... )
انتظرت تستمع الى الرنين الرتيب و كأنه رصاصٍ في أذنها .... لا تتخيل كيف ستستجد بأمين !! ....
ترى هل سيغلق الهاتف في وجهها ؟!! .....
عليها أن تتحمل كي تنقذ ابنتها ....
و ما أن وصلها صوته حتى هتفت باكية منتحبة و كأن صوته كان أكثر رحمة من زوجها وولدها ... ابن رحمها .....
( أمين ..... أدركنا يا ولدي ....... بدور ستموت بين يدي والدها .....الباب مغلق عليهما منذ ساعتين و صراخها لا يتوقف ... ابنتي ستموت على يد والدها ..... )
اتسعت عينا أمين وهو يشعر بأنفاسه تتوقف ... حتى أنه نهض من كرسيه ببطىء وهو ينظر حوله و كأنه يحاول ايجاد وسيلة تجعل القطار يزيد من سرعته .... ثم لم يلبث أن صرخ بقوة
( ما بالك تقفين ساكنة ؟!! ...... اكسري الباب .... استدعي الغفر أو اتصلي بالحاج سليمان .... )
شهقت أم بدور باكية و هي تقول بعويل
( لكن الفضيحة ....... حين يعرف الجميع بخروجها من بيت زوجها بعد اسبوعين فقط ... و عودتها و طلبها الطلاق ...... فضيحة كبيرة يا أمين .... )
شعر أمين و كأنه على وشك الإصابة بالجنون فعليا .... فصرخ فيها بعنف
( أفيقي يا امرأة ..... هذه ابنتك و قد تموت ........ لا تقفي عاجزة هكذا و الا طلبت الشرطة ....... )
ظلت أم بدور تبكي و هي تنظر الى مبروكة بعجز .... غير قادرة على الإيتان بأي حركة ....
تخاف حد الرعب من زوجي الوحوش في دارها .....و حين طال صمتها و هي تبكي بإختناق ...
هتف فيها أمين بنفاذ صبر
( اتصلي بزاهر ..... فليأتي و يكسر الباب و ينقذها من بين يديه ..... )
اغمضت أم بدور عينيها بقوة و الدموع تنهمر من تحت جفنيها المجعدين ... ثم قالت بصوتٍ أشد اختناقا و نحيبا
( زاهر هنا .... واقف أمام الباب يمنعني من الدخول و يقسم إن رآها فسوف يخنقها ..... )
اتسعت عينا أمين غير مصدقا لما يسمع ... و ظل صامتا بضعة لحظات , الى أن أظلمت ملامحه و عقد حاجبيه وهو يهدر بصرامة
( أعطي الهاتف لزاهر ....... أريد الكلام معه ...... )
اتسعت عينا أم زاهر برعب ... ثم هتفت مرتجفة
( لكن لو عرف أنني اتصلت بك فسوف ....... )
قاطعها أمين صارخا
( انه ابنك ..... اضربيه على رأسه إن اعترض .... هل تخافين ابنك ؟!!! ..... )
امتقع وجه أم زاهر بشدة و ارتجفت شفتاها و هي تهمس بخزي
( نعم يا ولدي ...... أخاف ابني ........ )
أغمض أمين عينيه غير مصدقا وهو يزفر بحدة نافذ الصبر .... ثم لم يلبث أن أمرها بقسوة
( أخبريه أنني اتصلت بكِ أسأل عن بدور ... و طلبت منكِ الكلام معه .... )
ظلت أم زاهر متربعة أرضا مكانها لا تعرف كيف تتصرف و قد غادرتها البقية الباقية من التصرف الحكيم .... الا أن أمين صرخ فيها
( هيا .............. )
حينها استندت الى مبروكة التي أوقفتها على قدميها و ساعدتها كي تهرول حتى وصلتا الى زاهر الذي كان يدور حول نفسه امام باب الغرفة المغلقة .... مكفهر الملامح ..... عنيف النظرات حتى أبصرها فإزدادت ملامحه تجهما و تهديدا مما جعلها تمتقع و تتعثر الا أنها سارعت بمد يدها بالهاتف اليه و هي تقول بصوتٍ مرتعش
( هذا ..... هذا أمين .... اتصل يسأل عن بدور و يريد الكلام معك على وجه السرعة ....... )
برقت عينا زاهر بحدة ثم همس ملوحا
" تبا لهذا !!! ...... ماذا سأقول له الآن ؟!! ...... بأي عذرٍ سأبرر له تصرف ابنتك الحيوانة .... "
ظلت أمه صامتة تمد له الهاتف غير قادرة على النطق .... الى أن اختطف منها الهاتف بقوة وهو يزفر مجددا ... ثم لم يلبث أن قال بصرامة دون مقدمات
( مرحبا أمين ..... أعرف انك غاضب و لك حق عندنا , لكن ثق أننا سنعيد تربيتها و ستكون تحت قدميك منذ اليوم ..... فقط لا .... )
قاطعه أمين هادرا
( اسمعني جيدا يا زاهر ..... ابعد والدك عن بدور , حتى إن تطلب الأمر كسر الباب .... أنا لا أطلب بل آمر .... هذه زوجتي و أنتما تتعديان على حقوقي .... )
ارتبك زاهر ووقف بمنظرٍ لا يحسد عليه .... ثم قال غاضبا
( لكنها اخطأت و علينا معاقبتها ..... لم تقدم واحدة قبلها على تصرفها ال ........ )
قاطعه أمين مجددا بصوتٍ أكثر صرامة
( أمر معاقبتها عائد الى شخص واحد فقط ..... هو أنا .... و الآن أخرج والدك من تلك الغرفة و الا سأنفذ لها ما تريد و اترك أمرها لكما كما تريدان ..... )
ظل زاهر واقفا ممتقع الملامح وهو ينظر الى وجه والدته المتلهفة بأمل .... و .... المتشفية في ابنها للمرة الأولى .... فزم شفتيه و قال على مضض
( ستكون عندك في الغد على الأكثر ........ )
لكن أمين قاطعه قائلا بقوة
( بل أنا في القطار الآن , في طريقي اليكم ..... و يجدر بكم الا يمسها أحد لحين قدومي .... )
أغلق زاهر الهاتف بعنف وهو يلقي به دون اهتمام ... حتى أنه وقع أرضا و تفكك الى أجزاء ....
لكنه لم ينظر اليه بل اتجه الى باب الغرفة و بدأ يطرق عليه بقوة مناديا
( أبي .... يكفي هذا , افتح الباب ..... افتح يا ابي ..... )
لكنه لم يسمع ردا ..... بل صرخة واهنة من بدور اثر ضربة من والدها ..... حينها زفر زاهر بغضب قبل أن يضرب الباب بكتفه عدة مرات حتى كسر القفل فدخل الغرفة ...
للحظة توقف مكانه مضطربا وهو ينظر الى بدور التي ربطها والدها في أحد أعمدة السرير الموجود الغرفة ... مرتمية أرضا بوجهٍ متورم .... ووالدهما يقف بجوارها بأحد الخراطيم السميكة التي يحتفظ بها ...
متعبا من شدة المجهود الذي بذله .... فسنه لم يعد يسمح بمثل هذه المشقة كالسابق ....
بينما اندفعت أمه من خلفه و هي تولول ضاربة وجنتها لترتمي بجوار ابنتها تأخذها بين أحضانها و هي تنتحب هاتفة
( اسم الله عليك يا ابنتي ..... ليتني كنت أنا و لستِ أنتِ ..... سامحيني , لم يكن بيدي الوقوف دون مساعدتك .... حكم القوي .... )
تأوهت بدور بصوتٍ ضائع متألم بينما تدارك زاهر أعصابه وهو يقول بخشونة
( هذا يكفي يا حاج ...... لقد اتصل أمين و ...... )
مجرد سماع اسم امين جعل ملامح وجه والدها تزداد غضبا وهو يرفع الخرطوم في يده مجددا ....
لكن زاهر اندفع بسرعة ليمسك بساعد والده يمنعه من ضربها وهو يهتف بقوة
( كفى يا حاج ..... لقد اتصل زوجها و طلب الا يضربها أحد .... وهو في طريقه ليستعيدها و لن يطلقها ..... لنغلق الأمر عند هذا الحد .... الحمد لله أنه أبرد دما مما ظننا و الا لكنا الآن حكاية على كل لسانٍ في البلد ..... )
ظل والده ينظر اليه متجهما وهو يلهث من شدة الغضب و الإنفعال .... ثم سأل بشك
( أليس غاضبا منها ؟!! ..... الن يطلقها ؟!! ....... )
رد عليه زاهر بنبرةٍ تحمل القليل من الدهشة الساخرة
( ما لاحظته أنه كان غاضبا لأنك ضربتها .... لم يذكر شيء عن سفرها بتلك الطريقة أو طلبها الطلاق و لقد أكد لي بنفسه أنه لن يطلقها ....... )
ازداد انعقاد حاجبي والده و قد ظهر تعجب غريب في عينيه القاسيتين و قال بعدم تصديق
( ألن يطلقها ؟!! ...... و غاضب لأنني ضربتها فقط ؟!! ..... اي رجال هم شباب هذه الأيام !!! .... بالتأكيد لم تتجرأ على فعلتها الا حين رأت منه ضعف شخصية ..... أتتجرأ زوجتك على فعل ما فعلته قليلة الأدب هذه ؟!!! ..... )
رفعت بدور وجهها المتورم عن صدر أمها لتنظر الى والدها بعينيها المحتقنتين دون أن تصدر صوتا ..... مجرد نظرة غريبة من عينٍ مضروبة ....
بينما ارتفع حاجب زاهر بإستهزاء ساخر وهو يقول بإستنكار غاضب
( زوجتي !!! سامحك الله يا حاج ..... والله كنت دفنتها في فناء الدار ........ المهم عندنا أن ضعفه يناسبنا حاليا ...... على الأقل ليكن ذو كلمة في عدم تطليقها و لا نريد منه أكثر من هذا .... )
القى والده بالخرطوم من يده أرضا .....ثم قال بعنف
( ماذا يحدث إن أعادتها مجددا و هربت الى هنا طالبة الطلاق ؟؟؟ ...... )
رد زاهر بصوتٍ مخيف وهو يرمق أخته بنظرةٍ مهددة
( و هل تجرؤ ؟!!! ......... )
زادت أمها من ضمها الى صدرها و هي تبكي بشدة ... بينما بدور صامتة تماما ....
ثم التفت الى والده و قال بخشونة
( لقد نالت ما سيمنعها من الإقدام على أي عملٍ أحمق المتبقي من عمرها كله ..... لندعو الله فقط الا يكون قد علم بقدومها أحد من البلد ...... و لنبدأ في تحضير أي كذبة لنتدارك بها الوضع إن سأل أحدهم ..... )
زمجر والده بغضب وهو ينظر الى بدور المرتمية على صدر أمها ثم هدر بصوتٍ يهز الأوصال
( أنقذك زوجك مني .... والله لو كنت مكانه لكسرت عنقك و شربت من دمك ..... لكن الله عالم أي غبية أنتِ فرزقك بشخصٍ متساهل ....... اعتبري ما حدث لكِ مجرد انذار ....... )
ثم تحرك ليخرج من الغرفة .... فاقترب زاهر منها كي يفك وثاقها , الا أن والده صرخ بقوة أفزعتهم
( ماذا تفعل يا زاهر ؟!!! ...... والله ستظل بهذا الشكل الى أن يأتي زوجها و يستلمها ..... لا طعام و لا شراب و لن يفك أحد معصميها ...... )
قال زاهر محاولا
( أنا أرى يا حاج أنها نالت ما يكفي ..... لندعها ترتاح في السرير قليلا ..... )
صرخ والده بصوتٍ أعلى
( لقد أقسمت يا زاهر ...... لا أريد كلمة واحدة أخرى ..... )
زم زاهر شفتيه وهو ينظر الى أخته متنهدا .... ثم استقام ليغادر الغرفة , بينما تابع والده آمرا بقسوة
( و أنتِ يا امرأة ..... أخرجي من هنا الى أن يصل زوجها ..... )
رفعت زوجته وجهها المبلل و همست بترجى ...
( اسمح لي أن أعد لها لقمة و شيء تشربه .. الفتاة لم تضع في فمها شيء منذ الصباح ..... أرجوك يا حاج )
الا أن زوجها صرخ بصرامة
( انهضي يا امرأة و اخرجي من هذه الغرفة على الفور أو سأتناسى عمرك و مكانتك و أعاملك بالمثل ....... هيا انهضي ..... )
نظرت أم زاهر الى ابنتها و هي تبكي بحرقة ... الا أن بدور أومأت لها ببطىء و هي تحاول الإبتسام بصعوبة .... ثم همست بصوتٍ متعب
( اذهبي ................ )
تركتها أمها و هي تنهض من مكانها باكية بصوتٍ مختنق .... تلاها زاهر , ثم والده الذي رمق بدور بنظرةٍ محتقرة أخيرة و قال من بين أسنانه بتعب
( حسابك لم ينتهي عند هذا الحد ...... إن كنتِ تظنين أنه بزواجك أصبحت حرة و لن تجدي من يكسر لكِ ضلعا .... فأنا لازلت على قيد الحياة , أكسر لكِ عنقك لا ضلعك فقط ...... إياك أن تظني ان زوجك المتحضر بشكلٍ يدعو للشفقة عليه سيكون جواز سفرك لعالم بلا قيود ....... )
ظلت بدور مكانها تبادله النظر بصمت عبر عينيها المتورمتين ..... دون أن يرمش لها جفن ....
حتى استدار عنها و خرج من الغرفة تاركا اياها أقوى ..... أقوى من ذي قبل .... أقوى من أي يومٍ مر في حياتها المهمشة المهينة .....
.................................................. .................................................. ...................
( قد أتأخر اليوم قليلا ....... لا تنتظرني , يمكنك النزول و تناول طعامك مع والدتك ...... )
قالت هذا بهدوء و هي تلتقط حقيبتها تنوي الخروج من البيت صباحا ... الا أنه أمسك بذراعها بقوة قبل أن تتجاوزه يمنعها من الخروج .... فنظرت اليه بغرور رافعة حاجبيها متسائلة ...
و للحظات شعرت بشيء ما أوجعها في صدرها بسبب نظرته العميقة .... التي تسللت الى أعماقها هي ....
و كأنها فتحت نافذة من روحها الى روحه .... تكشفها تماما أمامه و تجعلها عرضة للخطر ....
أخفضت وجهها و هي تحاول اغلاق تلك النافذة الفاضحة بينهما .... فما كان منه الا أن قال بإصرار
( سأنتظرك ...... لا أحب تناول طعامي وحيدا ...... )
قالت بنبرة حاولت جاهدة أن تجعلها لا مبالية ...
( أخبرتك أنه ليس عليك انتظاري أو الأكل وحيدا ..... تناوله مع أمك و أختك ....... )
ثم أبعدت ذراعها عن يده ببساطةٍ و خرجت .... لكنها لم تلحظ أنه خلفها خطوة بخطوة , حتى وجدت نفسها تستدير اليه بفعل كفيه ...
تأففت مسك و هي تقول بنفاذ صبر
( لقد تأخرت على عملي يا حسيني ..... ماذا تريد الآن ؟!! ...... )
ظل أمجد صامتا للحظات ثم قال أخيرا بجفاء
( أريد الكلام معك ..... حديث تأخر كثيرا ..... )
رفعت حاجبيها بإستفزاز و سألته بهدوء
( الآن تريد الكلام ؟!! ...... طالما أن الحديث قد تأخر كثيرا فلا مانع من أن يتأخر لفترةٍ اضافية ... فأنا لا أملك الوقت الآن ..... )
رد عليها أمجد بنبرةٍ أكثر تسلطا ...
( بل الآن ...... فأنا على وشك الإمساك برأسك و مسح زجاج النافذة بشعرك ...... )
برقت عينا مسك بحدة ... الا أنها قالت بهدوء جليدي
( طريقتك اللطيفة في بدء الحوار لن تفيدك الآن تحديدا يا حسيني ...... فلا تحاول استفزازي أكثر و اتركني من فضلك ..... )
زم شفتيه للحظات ثم قال ببطىء من بين اسنانه
( ناديني حسيني مجددا و صدقيني لن أكون مسؤولا عن تصرفي معكِ ......... )
شعرت بدهشة حقيقية هذه المرة ... لكنها سألته بلامبالاة زائفة
( هل يضايقك لقب الحسيني ؟!! ..... عجبا !! ..... بهذه الطريقة أنا أستحق وسام الشرف لتحملي الكثير من الألقاب التي تكرمني بها .... بدئا من ألمظ ... ظاظا .... )
تابع أمجد بصوتٍ أكثر عمقا حين خفت صوتها و صمتت
( كليوباترا ..... ألماس ........ )
ابتسمت بسخرية على الرغم من ذلك الشعور الغير مرغوب فيه و الذي ينبض داخل صدرها كل حين حتى باتت معتادة عليه ... تألفه ....
ثم همست بإقتضاب و هي تبعد عينيها عن عينيه
( نعم ...... و هذان أيضا ....... )
أخذت نفسا عميقا و هي تسوي كتفيها ثم قالت ببساطة و عفوية قدر الإمكان
( حسنا .... هل تعطيني قائمة بالألقاب التي ترفضها , أو ربما الأسهل في حالتك الألقاب التي تقبلها .... )
نظر أمجد الى عينيها المتهربتين منه و ظل صامتا حتى أصبح جو الصمت بينهما خانقا متوترا ....
فإضطرت الى رفع عينيها اليه أخيرا بتوتر .... حينها ذابت دقات قلبها أمام نظراته الجادة النافذة الى أعماقها ... دون ابتسامٍ حتى ....
فقال أمجد أخيرا بخفوت
( فقط لقبين ...... الأول هو أمجد ...... لا أحب لدي من سماع اسمي أنا من بين شفتيكِ ..... لكِ نبرة غريبة حين تنطقين بها اسمي .... و كأنني الرجل الوحيد الذي يحمل هذا الإسم .... )
ضحكت مسك بسخرية .... الا أنها كانت سخرية زائفة ... فخرجت كضحكةٍ عصبية مختنقة كسعالٍ مجروح من القلب ....
و كي تخفي تلك العصبية ردت بمرح بارد و هي تنفض شعرها ناظرة اليه بثقة
( و ما هو اللقب الثاني ؟؟ ............. )
لم يرد عليها على الفور , ثم قال ببطىء
( ستعرفين حين تنطقين به ............ )
اضطربت مسك أكثر , لكنها قالت بنبرةٍ بدت خشنة أكثر من اللازم
( يجب أن أذهب الآن ..... أنا جادة يا أمجد ..... )
الا أنه شدد قبضتيه على كتفيها و رد بصرامة
( لن تذهبي قبل أن ننهي ما بدأناه من كلام ..... لقد ضقت ذرعا بهذا الصمت الخانق بيننا .... )
هتفت مسك فجأة بحدة و انفعال
( أي كلام ؟!! ...... نحن لم نبدأ أي كلام حتى الآن ........ )
رد عليها أمجد بصوتٍ أكثر عصبية
( كلام مضى عليه أكثر من شهر ..... احترمت رغبتك في العودة اليه لأنه آلمك , لكن النتيجة كانت أن كل ما اقتربناه من خطى من بعضنا .... عادت لتفرق بيننا من جديد ..... أنتِ تتجنبينني منذ فترة ... )
ارتبكت ملامحها و توترت ... الا أنها هتفت بقوة
( هذا من أكثر ما سمعته منك سخافة ...... كيف أتجنبك ؟!! ..... نحن لم نفترق أي ليلة .... لم ينقطع كلامنا أي يوم ...... )
هتف بها أمجد بإنفعال
( كلام مهذب بارد ...... حتى علاقتنا الحميمية ..... )
ارتفع حاجبيها و برقت عيناها بشراسة و هي تضع كفيها في خصرها هاتفة تقاطعة بشعورٍ بالإهانة
( هل ستشكو من هذا أيضا ؟!! ....... انظر الى عيني وواجهني , هل تعاني من مشكلة في هذه النقطة كذلك ؟!! ..... )
نظر الى عينيها بالفعل ..... نظرة أبلغ من أي كلام , الا أنه قال أخيرا ببطىء أجش
( أعاني من عدم وجودك معي .... بين ذراعي فعلا ....... لا تكونين معي بكامل روحك ... )
شعرت مسك بغصة تؤلم حلقها بشدة ... الا أنها قالت بصوتٍ باهت غليظ
( هذا ثاني أسخف شيء أسمعه منك ..... و أظنك تحاول التحجج بأي شيء لتثبت أن زواجنا ليس على ما يرام ..... إن كان هذا هو الأمر فأنا أفضل الصراحة يا أمجد , يمكنك التحرر مني بكل بساطة و أنا لن أعيقك طريقك مجددا ...... )
ضغط على أسنانه بقوةٍ وهو يغمض عينيه لدرجة أنها سمعت صوت صرير تلك الأسنان التي هددت بنهش عنقها في اي لحظةٍ كمصاصي الدماء .... و حين فتح عينيه الغاضبتين , شعرت مسك للمرة الأولى بالخوف فابتلعت ريقها متوترة .... الا أنه دفعها عنه قليلا وهو يقول بصوتٍ قاتم
( اذهبي الى عملك ........ من الأفضل أن نترك الكلام عند هذه النقطة حفاظا على عنقك الجميل ..... )
ظلت مسك واقفة مكانها تشعر بشيء من الندم على هذا الصباح المتوتر بينهما ..... خاصة و أنه ابتعد عنها يوليها ظهره متجها الى النافذة ينظر الى الطريق و يديه في جانبيه و ظهره متشنج و كأنه يحمل حملا أكبر من طاقته .....
مضت بضع دقائق و هي واقفة مكانها تنظر اليه بصمت .... الى أن شعرت بصورته تضطرب أمام عينيها حتى أصبح خيالا ... فأدركت أن هناك غلالة من الدموع تكونت على حدقتيها تكاد أن تحجب الرؤية عنهما ...
حينها شعرت بفزعٍ حقيقي , مما جعلها تستدير بسرعة و تهرع الى باب الشقة لتخرج منه و تصفقه بقوةٍ دون حتى أن تلقي عليه تحيتها الروتينية المعتادة ...
سماع صوت الباب يصفق بدا و كأنه صفعة على قلبه ..... مما جعله يغمض عينيه بألم للحظة ....
ثم فتحهما وهو يأخذ نفسا عميقا حتى كادت أزرار قميصه تخلع من مكانها من شدة ما يحمل في صدره من مشاعر مكتومة و عدم راحة ....
كان يظن أنهما اقتربا من بعضهما و اقترب هو من غايته .... كان قريبا جدا من حد ملامسة قلبها بل يكاد يقسم على أنه كاد يتخلل اعماق روحها دون أي حواجز ...
الى أن تفجر بينهما موضوع الطفل المتبنى و الذي لا يعلم من أين هبط كي يفسد عليه كل ما بناه معها ... و من وقتها و هي رافضة الكلام في هذا الموضوع رفضا قاطعا .....
رآها تخرج من البناية أخيرا و تتجه الى سيارتها .... فابتسم رغم عنه وهو يتذكر تلك الأيام التي كان يراقبها فيها من نافذة مكتبه .... تحمل شطيرتها الصحية لتتخذ المقعد الوحيد المنعزل بجانب الحديقة الصغيرة ....
واضعة ساقا فوق أخرى , تتناول شطيرتها بكل أناقة و هي تنظر للبعيد ...
كانت من أجمل أوقات التلصص التي أمضاها في حياته الى أن قرر اقتحام خلوتها بكل تطفل لم يندم عليه حتى هذه اللحظة ....
فتحت مسك باب سيارتها ... ثم توقفت للحظة مما جعل قلبه يتوقف معها .... الى أن رفعت وجهها اليه ....
فابتسم لها وهو يرفع كفه ....
للحظات لم تتجاوب معه .... بل ظلت واقفة بشكلٍ غريب , تضع نظارة سوداء فوق عينيها مما جعل ابتسامته تتوتر ... ماذا بها ؟!! ..... لماذا تقف بهذا الشكل ؟! ...
هل نست شيئا ؟! .....
عقد أمجد حاجبيه , ثم ابتعد عن النافذة و ذهب يبحث عن هاتفه .... حتى وجده فاتصل بها على الفور ...
و مضى الإتصال دون أن ترد عليه ... فإزداد قلقه و اتصل بها من جديد حتى وصله صوتها و هي ترد عليه بنبرة غريبة
( ماذا تريد يا حسيني ؟!! ....... )
ازداد قلقه و انعقاد حاجبيه , فسألها بخشونة
( ماذا به صوتك ؟!! ..... هل تبكين ؟!! ...... )
وصله صوت ضحكة ساخرة عصبية ... ثم قالت بإستهزاء
( أبكي ؟!! ....... كم تظن عمري يا حسيني ؟!! ...... )
الا أنه لم يتجاوب مع سخريتها , بل قال بصرامة
( انتظري مكانك .... سأنزل اليكِ حالا ..... )
لكنه لم يكد ينهي كلماته حتى سمع صوت صرير سيارة في الخارج ... ثم وصله ردها باردا
( أنا في منتصف طريقي للعمل الآن ..... أراك مساءا ...... )
ثم أغلقت الخط قبل أن تنتظر منه ردا , فسارع أمجد ينظر من النافذة ليجدها و قد خرجت للطريق و اختفت عن ناظريه في لمح البصر ....
أغلق أمجد هاتفه و ألقاه على أقرب كرسي هاتفا
( تبا ..... تبا ..... من أين لي بالصبر عليها ؟! ..... لقد تعبت دون مبالغة .... )
وقف مكانه و يداه في جانبيه و حين شعر أنه على وشكِ كسر أي شيء في البيت ... عاد و أمسك هاتفه و كتب لها رسالةٍ سريعة غاضبة
" أتدرين ما أنتِ ؟!! .... أنتِ صبارة شائكة يحاول من يحبك اختراق أشواكك الحادة و بعد سلسلة من الجروح يتنهد مرتاحا لوصوله الى قلبك , فلا يجد سوى سائل شديد المرارة كالعلقم ....
يمكنك وضع هذا اللقب بين قائمة ألقابك .... أراكِ مساءا يا صبارة .... "
ثم أرسل الرسالة وهو يشعر ببعض الراحة الشريرة .....
و ما هي الا لحظات حتى وصله الرد فأسرع يفتحه و كان ...
" شكرا لذوقك يا محترم ...... يوما سعيدا ... "
فغر أمجد شفتيه وهو ينظر الى الرسالة ...... ثم لم يلبث أن ألقى الهاتف مجددا وهو يزفر بنفسٍ منفعلا عنيفا ...
هناك شيء ناقص بينهما .... سعى بكل جهده كي يملأ فراغه , و ما كاد يفلح في هذا حتى تسرب كل أملٍ من بين يديه فجأة ... تاركا كلا منهما على حافة منحدر , يولي ظهره للآخر ....
قريبان و في نفس الوقت اقترابهما شبه مستحيل ....
أما مسك ...
فقد ألقت هاتفها هي أيضا على المقعد بجوارها , ثم تبعته بنظارتها السوداء لتشهق باكيةٍ بصوتٍ عالٍ دون أي اعتبار للطريق المزدحم الذي تقود سيارتها خلاله أو نظرات الناس الفضولية لبكائها العالي ...
و حين شعرت بأنها على وشك الإقدام على حادث مروع حتى أوقفت سيارتها جانبا و تركت لدموعها العنان ...
فتابعت بكائها رحمة بقلبها المتعب ...
قبل أن تخرج من باب الشقة و حين كانت تنظر الى ظهره أوشكت على النزول الى ركبتيها و البكاء أمامه متوسلة
" أرجوك لا تتركني .... اضمن لي الا تتركني ..... أريد ضمانة عينية , لأنني لا أستطيع الإكتفاء بما تقول , و لأنه ليس من المنطق في شيء ..... ارجوك لا تتركني ..... أتوسل اليك الا تتركني ... "
رفعت مسك وجهها المبلل المحتقن تنظر الى الطريق امامها و هي ترجع رأسها للخلف .... ثم همست بصوت ممزق
( اتوسل اليك الا تتركني ...... لم أعرف سعادة و رضا لنفسي قبل أن تدخل حياتي .... فأرجوك لا تسلبهما مني ...... )
شهقت بنفس آلم صدرها حتى أنها وضعت راحتها عليه و تشرد بعيدا
" لماذا قبلت به من البداية ؟!! ...... دمرت حياته و حياتي لأجل سعادة قصيرة .... مهجة كانت على حق , كنت في منتهى الأنانية و أنا أختار رجلا لا ينقصه شيء .... كي يرتبط بشبه امرأة .....
أعمى الغرور عيني و تصرفت و كأنني مسك الرافعي ..... ناسية أن مقدارها أنا من أقدره بنفسي و ليس من حقي فرضه على حساب حياة رجل كل ذنبه أنه أحبها .... فأعماه الحب عن رؤية يوم آتٍ لا محالة ... يوم ستنتصر فيه رغبة الأبوة على نداء القلب بعد أن يكون قد خفت صوته ..... "
رفعت يدها و عدلت من وضع مرآة السيارة حتى نظرت الى عينيها الحمراوين الظالمتين ....
و أقرت هامسة بصمت
" اعترفي بأنكِ تطيلين عذابه كي تبقين في المنطقة الآمنة .... طالما لا يزال يريد منكِ شيئا غامضا صعب المنال فهو لن يتركك ...... تتلاعبين بقلبه فيظل يدور في فلكك , لكن الى متى ؟! .... يأتي يوم و يمل فيه تلاعبك حتى و إن لم ينالك كما يتمنى ..... "
أغمضت عينيها بقوة و هي تبكي بأنين يمزق نياض القلب ... و ظلت على حالها حتى سمعت طرقا على نفاذ زجاج سيارتها ...
ففتحت عيناها مجفلة و هي ترفع رأسها .... لترى طفلة لا يتجاوز طولها ارتفاع النافذة , لكنها تبدو في العاشرة من عمرها ... , ترتدي ملابس مهترئة .... لكن على الرغم من ذلك ممشطة الشعر بأنوثة و في عينيها بريق شقاوة لم يمحوه شقاء اللف في الطرقات بعد .... و تمتلك غمازة جميلة ذكرتها بأمجد على الفور ...
همست من بين أسنانها بصوتٍ مختنق و هي تفتح النافذة
" أخرج من ذهني يا حسيني ......أخرج بغمازتك الغير مرغوب بها "
نظرت الى فتاة بصمت , ثم قالت أخيرا بصوت باهت
( أهلا .............. )
اتسعت ابتسامة الفتاة و رفعت لها عددا من علب المحارم الورقية و هي تهتف مترجية
( اشتري مني علبة محارم , حفظ الله لكِ أولادك ....... )
ظلت مسك تنظر اليها دون مشاعر و رأسها مرتاح على مؤخرة مقعدها ... ثم قالت بصبر و بنفس النبرة الباهتة
( ليس لدي أولاد ............ )
ظلت الطفلة تفكر قليلا , ثم قالت مبتسمة
( اذن اشتري مني علبة , رزقك الله بأولاد قريبا ......... )
ابتسمت مسك على الرغم من الدموع التي تغرق وجهها , ثم قالت بخفوت
( لن يرزقني الله بأطفال ........... )
نظرت الطفلة الى أصابع مسك المرتاحة على المقود , ثم قالت عاقدة حاجبيها
( أنت متزوجة ...... كل شيء بإرادة الله ...... )
ابتسمت مسك أكثر , بينما انسابت دمعتان ناعمتان على وجنتيها ثم قالت بلطف
( و نعم بالله ...... لكن الله لن يرزقني بأطفال أبدا و هذا أيضا يخضع لإرادته ...... )
ظلت الطفلة صامتة و هي تفكر في طريقة أخرى تستدرج بها مسك كي تشتري منها علبة محارم بينما مسك تسد أمامها كل طرق الدعاء ... ثم لم تلبث أن قالت بحماس
( اذن اشتري مني علبة محارم , حفظ الله زوجك لكِ ....... )
رمشت مسك بعينيها الحمراوين و هي تحاول جاهدة الا تبكي على الرغم من أنها لم تفقد ابتسامتها بعد ... ثم همست أخيرا بصوتٍ واهٍ ضعيف
( ليحفظه الله في كل الأحوال ..... حتى إن ابتعد ..... )
تهللت ملامح الفتاة الجذابة و هي تقول
( و من يترك القمر و يهبط للأرض !! ..... هل تشترين مني علبة محارم يا قمر ؟!! ..... )
أومأت مسك برأسها و هي تلتفت لتفتح حقيبتها و التقطت منها ورقة مالية ناولتها للفتاة في صمت , فأخذتها الفتاة بعينين متلهفتين و هي ترى الورقة الكبيرة ... ثم قالت بفرحة و أمل
( ليس معي ما يكفي ..... هل تأخذين العلب كلها ؟!! .... لكن حتى إن أخذتِها فلن تكفي ..... )
قالت مسك بوقار و هي تمسح وجهها بظهر يدها
( بل احتفظي بالعلب ....... سعدت بالكلام معك ...... )
ظلت الفتاة تدعو لها و تهتف بسعادة , بينما مسك تتحرك بالسيارة .... ثم ابتعدت لتتخذ أول ملف .....
عائدة الى البيت , فهي لن تسمح لأي مخلوق بأن يراها في مثل هذه الحالة مطلقا ..... 

طائف في رحلة ابديةWhere stories live. Discover now