الفصل الاول

210K 3.4K 212
                                    


  الفصل الأول :
( مرحبا تيماء ............لقد مر وقت طويل ... .. )
تسمرت تيماء مكانها و أغمضت عينيها .....
بينما اشتعلت العينان الرجوليتان خلفها بجمرتين من اللهب .....
هل هذا حقيقي ؟؟ .... أم أنها تتوهم ؟!! ....
نعم ربما كانت تتوهم ... فلقد غرقت في بحرٍ من الذكريات خلال ساعات السفر الطويلة ...
ربما جعلها ذلك تحيا الماضي من جديد بخيالها ....
و حين بدأت تقنع نفسها بتلك النظرية ...و هي تهمس
" اللهم اجعله وهما ....... "
لكن انتفاضتها القلبية ... تلك الإنتفاضة التي لن تخطئها أبدا ؟!!! ......
حينها انبعث الصوت الخافت المزلزل من خلفها .... صوت لا يقبل النسيان ... يرفضه ....
( ستضطرين للإلتفات في النهاية .......تعلمين أنكِ ستفعلين .. )
و لم تكن في حاجة لسماع صوته للمرة الثالثة حتى انتهى الشك .... فتركت لقلبها حرية الإستسلام أخيرا , فتحت عينيها ببطىء دون أن تستدير .... بينما نظراته النارية تلفح ظهرها ....
فهمست بصوتٍ لا يسمع
" قاصي ....... "
لم تعرف كيف سمع همستها ذات الحنين المتأوه .... فرد عليها التحية بمثلها و همس بصوته الحارق و الريح تصفر من حوله و تختلط بنبرته الخافتة
" تيماء ....... "
أغمضت عينيها و هي تبتلع الغصة المؤلمة بحلقها .... الإنتفاضة تزيد و تتدافع ....
الا أنها تمكنت من قمعها و هي تستدير ببطىء بدا و كأنه استغرق أعواما ... بل دهور ....
قبل أن تستقر أمامه مخفضة الوجه .... و صدرها ينتفض بعنف ....
رفعت وجهها اخيرا , ثم عينيها ..... فالتقتا بعينيه !! .... حينها تزلزل كيانها كله دفعة واحدة
نعم ... هو قاصي ....
لن تتوه عينيها عن الجمرتين المشتعلتين بعينيه ..... و اللتين اشتعلتا الآن كحمم بركانية ما ان التقتا عينيها
طال بهما الصمت و كأنهما يتذوقان تلك النظرة بعد سنوات طويلة .... و كأنها لم تمر .....
تحركت عيناها دون ارادة منها تتأمله بصدمة ....
لن تخطىء عيناها عينيه و لن تخطىء اذناها صوته .... لكن هذا اللذي يقف أمامها كادت أن تخطئه للمرة الأولى !!...
اتسعت عيناها و هي تميل بوجهها دون ان تشعر ... لتبحث عن قاصي الذي تعرفه في هذا الرجل
كان طويلا ..... ضخما ..... بعض الجروح تعلو وجهه ... و احداها يشق شفته العليا ...
مفتول العضلات بدرجة أكبر مما كانت تتذكر!! ....
فغرت تيماء شفتيها و دون تفكير همست بصدمة
( لقد قصصت شعرك !! ......... )
لم يرد قاصي على الفور .... لكن شفتيه ابتسمتا وهو ينظر اليها نظرات اخافتها من هول اشتعال الذكريات بهما ....
" آه ياقاصي .... مرت الأعوام و لم تتغير ابتسامتك الخفية و لم تختفي لمحة الحنان منها و التي تتناقض مع جمرتي عينيك "
قال قاصي أخيرا بصوت خافت مداعب و عيناه تشملانها بنظرة بدت .... مدمرة
( دائما تغارين من شعري ..... وهو أول ما تلاحظينه , حتى بعد مرور الأعوام ..... )
تأوهت دون صوت .... فصوته وحده يدغدغها ....
و بينما كان الجو من حولهما شديد البرودة ... الا أن كيانها كان يشتعل ... و النار تستعر بها ....
لقد اختفى الزحام فجأة ... و تاه أفراد العائلة المتناثرين من أمام عينيها و هي تنظر اليه بعدم تصديق ....
فقد كانت تقف أمام قاصي الحكيم ....
خرج صبيان صغيران من باب القصر المفتوح فجأة وهما يركضان ... فارتطم أحدهما بظهرها , قبل أن يتابعا طريقهما طلبا للهو ....
لكن هذه الارتطامة كانت كفيلة بدفعها اليه .... حتى كادت تسقط على صدره , ...
الا أن كفيه امتدتا لتمسان مرفقيها في اللحظة الأخيرة لتوقفان سقوطها ....
فارتعشت شفتيها و هي ترفع أصابعها تمس بهما الوشاح حول وجهها المخفض المحمر ....
بينما استقرت عيناها على حلقُه الذي تحرك بصعوبة و بحركة نافرة قبل أن يبعد كفيه عنها فجأة ... كما مسها فجأة ....
ثم قال أخيرا مازحا بصوته الخافت المُدمِر
( كبرتِ يا تيماء .... لكن لا تكبرين على السقوط فوق صدري .... )
انتفضت للمرة الثالثة و هي ترفع وجهها الأحمر اليه بصدمة ...
لكن عيناه كانتا تلاحقان طرف الوشاح الوردي وهو يتطاير مع الريح الباردة التي تزيد من احمرار وجهها ....
الكنزة الوردية تحت السترة بلون الزيتون الأخضر ... بينما دست كفيها الصغيرين في جيبيها حتى تخفي ارتجاف أصابعها عن عينيه المشتعلتين ....
الى أن رآها تتراجع فجأة للخلف خطوتين و هي تهمس بارتجاف
( يجب أن أدخل ......... )
عقد حاجبيه ... و توهجت الجمرتين بعينيه أكثر وهو يقول بخفوت قاسٍ محذرا
( تيماااااء .... )
الا أنها تراجعت خطوتين أخرتين مكررة و هي ترتجف بشكلٍ ظاهر .... تحول الى انتفاضات أشبه بالذعر ..
( يجب أن أدخل ....... )
و دون أن تنتظر منه الرد كانت قد استدارت واندفعت هاربة الى داخل القصر و كأن شياطين الأرض تلاحقها .....
.................................................. .................................................. ...................
صوت حذائيها يضربان الأرض الخشبية القديمة و التي قد يصل عمرها الى مئة عام .....
و يتردد صداهما بين الجدران العتيقة المحملة بصورةٍ غير ملونة .... لأفراد آخرين من العائلة على الأرجح لم يعودوا من سكان هذه الحياة معهم ...
لكنها لم ترى الصور ... و لم تسمع الصدى ....
فقد كان كيانها كله يصرخ بذعر
" قاصي هنا !! ..... قاصي فعلا هنا !!! ...... "
ازدادت سرعة خطواتها و علو صوتها و هي تهرول ناظرة الى الألواح الخشبية التي تغطي الأرض دون أن تبصر حقيقة .... الى أن ارتطمت فجاة بجسدٍ أنثوي ... قبل أن تسندها يد قوية و صوت ناعم يقول
( على مهلك ......... )
رفعت تيماء وجهها لترى نفسها أمام شابة جميلة .... شديدة الجاذبية ....
ترتدي عباءة سوداء شرقية فضفاضة تغطيها من قمة رأسها و حتى أخمص قدميها .... دون أن تخفي كمال قسماتها .... و جمال عينيها العسليتين صريحتي النظر .....
رمشت تيماء بعينيها و هي تقول بتردد خافت
( آنا آسفة ..... هل آذيتك ؟؟ ...... )
ابتسمت الشابة و قالت بهدوء
( الحمد لله مرت الصدمة على خير .... لكن على ما يبدو أنكِ أنتِ من تحتاجين السؤال ... هل أنتِ بخير ؟!! ... )
رفعت تيماء عينين متسعتين و همست بتشوش
( هل أنا بخير ؟!! ....... )
كانت و كأنها تحدث نفسها ..... فقالت الشابة بهدوء
( أنتِ تبدين شاحبة للغاية ....... ياللهي هل ستصابين بالإغماء ؟!! .... )
كان العالم بالفعل يدور من حول تيماء فرفعت يدها المرتجفة الى جبهتها و هي تغمض عينيها ....
فأمسكت الشابة بذراعها بيدٍ قوية لا تتناسب مع جمال ملامحها الرقيق و قالت بدعم
( من المؤكد أنكِ آتية من سفرٍ بعيد ........ تعالي معي لترتاحي .... )
رفعت تيماء وجهها الشاحب الى الشابة الممسكة بها بقوة .... و من قوة يديها عرفت تيماء أنها لن تقع أرضا ... و هذا أراحها الى حدٍ ما ... فسلمت لها أمر قيادتها و هي تعلن الهدنة مع روحها المذعورة لبضعة لحظات
أدخلتها الشابة الى قاعة مصغرة من القاعة الخارجية ...
ذات أرضية خشبية مصقولة و لامعة .... سقفها عالٍ جدا .... تتدلى من الثريات الشرقية بديعة الشكل ....
بينما يزين الأرابيسك الخشبي كل شيء في المكان ... بدئا من الأثاث العربي و حتى أطر النوافذ الطويلة المتتالية ....
كانت الفخامة تحيط بالمكان من خارجه و حتى داخله و بنفس الوقت تشعرها أنها نقلتها الى زمنٍ آخر داخل فيلم قديم .... في بلادٍ بعيدة ...
أجلستها الشابة على احدى المقاعد الضخمة الوثيرة ... ثم انحنت اليها تقول باهتمام
( كيف تشعرين الآن ؟؟...... )
رفعت تيماء وجهها الشاحب اليها ... لكنها تدبرت الإيماء ببطىء و هي تقول بخفوت
( أنا بخير ..... لقد كانت رحلة طويلة فعلا .... )
ابتسمت الشابة مما زادها جمالا ... و قالت بلطف
( لا أضمن لكِ الراحة قريبا ... فستقابلين جموعا من البشر قبل أن تصعدي لإحدى الغرف .... )
استقامت لتنادي فجأة بصوتٍ قوي
( يا أم سعيد ........ )
جائتها احدى الخدم مسرعة و هي تقول
( تحت أمرك يا سيدة سوار ........ )
التفتت سوار الى تيماء لتقول مبتسمة
( أكرمي ضيفتنا يا أم سعيد ..... فلقد أتت من مسافة بعيدة و هي متعبة .... أريني أفضل ما عندك هيا ... )
اسرعت الخادمة تبتعد بينما عادت سوار الى تيماء التي كانت غائمة العينين ... شاردة بعيدا ...
فجلست في المقعد المجاور لها و سألتها و هي تراقبها بإهتمام
( ابنة من أنتِ ؟؟ ............ )
انتفضت تيماء و هي تنظر اليها .... بلحظةٍ واحدة مزق السؤال المفاجىء شباك العناكب الذي احاط عقلها لدقائق ....
كان هذا السؤال كفيلا بأن يعيد اليها شيئا من صلابتها ... و يذكرها بشخصها و قوتها ...
فرفعت ذقنها لتقول بإباء
( أنا تيماء ......... )
ضيقت سوار عينيها و هي تقول باهتمام مجددا
( تيماء ....اسم جميل , من اسمائنا .... لكن ابنة من ؟؟ .....للحظة خدعتني عينيك فظننتك زوجة غريبة أو خطيبة أحد الأحفاد .... لكن شيئ ما أخبرني بأنكِ لستِ ضيفة .... بل من أهل البيت .... )
زمت تيماء شفتيها و هي تنظر الى عيني سوار العسليتين ... قبل أن تقول باختصار
( أنا من العائلة نعم ...... أنا ابنة ثريا ..... )
عقدت سوار حاجبيها و هي تتسائل
( من ثريا ؟؟ ..... ابنة من ؟؟ ...... )
أغمضت تيماء عينيها و هي تهز رأسها بنفور... هذا السؤال يثير أعصابها و يجعلها متحفزة لضرب أحدهم ... رغم أنها مدركة كونه مجرد سؤال للتعارف ....
اخذت نفسا قويا في النهاية قبل أن ترفع رأسها و تقول بصوتٍ مشتد
( زوجة سالم الرافعي .......... )
كانت أسنانها تصطك دون أن يظهر ذلك على شفتيها المضموتين .... قبضتها مغلقة حتى ابيضت مفاصل أصابعها ...
الغضب أبعد اللون الغائم عن عينيها .... و حولهما الى شعلتين من اللون الفيروزي ... و هي ترى اتساع عيني سوار التي قالت بدهشة
( أنت ابنة عمي سالم اذن ؟؟ ......... ماشاء الله .... لم أعلم أن ابنته الأخرى باتت شابة الى هذا الحد ... لقد مرت سنوات طويلة على زواجه دون أن نشعر بها اذن .... )
حاولت تيماء السيطرة على كل ذرة نفور بداخلها ... حتى تصلبت ملامحها بدرجة مؤلمة و باتت كتمثال رخامي بارد
الا أن سوار وضعت القشة الأخيرة ... فقالت مبتسمة و هي تتأملها
( لقد احسن تربيتك ........ و إن كنتِ بعيدة عنا ... )
حينها فقدت تيماء ذرة السيطرة المتبقية لديها فانتفضت قائلة بقوة
( أنا لم يربيني أحد ....... )
تراجعت سوار للخلف قليلا مرتفعة الحاجب ... بينما وقفت أم سعيد التي كانت قد وصلت بصينية تحمل أطباق الحلوى و أكواب الشراب الملون .... و هي تنظر اليها بنفس الحاجب المرفوع ...
نقلت تيماء عينيها بينهما قبل أن تتمالك نفسها قائلة بهدوء
( لقد ربيت نفسي بنفسي ..... الحياة مدرسة .... )
مطت ام سعيد شفتيها لسوار و هي تظن أنها تفعل ذلك في الخفاء ... فقالت تيماء بهدوء
( أم سعيد ....... هل تقربين للعم الطيب الذي أوصلني من المحطة الى هنا ؟؟ .... )
عقدت ام سعيد حاجبيها و قالت دون تفكير
( عبد الكريم ؟؟ ....... نعم انه ابن عمي ...... )
ابتسمت تيماء و هي تقول ببشاشة
( سبحن الله .... لا تعلمين كيف استنتجت الأمر ..... )
ثم مدت ذقنها و هي تتفحص محتويات الصينية .. قبل أن تقول
( هل تنوين تقديم النذر اليسير منها لي .... أم ستقومين بالتقاط صورة لكِ مع الصينية و نشرها على موقع التواصل ؟؟ ..... )
فغرت أم سعيد شفتيها و هي تقول عاقدة حاجبيها
( ها ؟!! ..... ما هذا الذي تقولين عنه ؟؟ ....... )
قالت تيماء ببساطة و هي تلتقط قطعة حلوى من إحدى الأطباق لتدسها في فمها
( انه مكان للفضائح العلنية ..... لكن يمكنك نشر صورتك به ليراها العالم ...... )
رفعت أم سعيد طرف وشاحها بيدها الحرة ... لتغطي وجهها أسفل عينيها المذعورتين و هي تولول
( للللللليييييييييي ...... )
رفعت تيماء حاجبها و هي تقول
( هل هذه زغرودة ؟؟؟ .......... )
مطت سوار شفتيها و هي تلتقط الصينية من يد أم سعيد قائلة بحزم
( اذهبي الى المطبخ يا أم سعيد و أشرفي على اعداد الطعام ..... الكميات ضخمة و أخبريني ان احتجتِ الى مزيد من الفتيات كي نتصرف مبكرا ..... )
غادرت أم سعيد مهرولة ... بينما التفتت سوار الى تيماء التي كان فمها ممتلىء بالطعام .. و تبادلها النظر ببراءة ....
فقالت سوار بعتب
( كدت أن تصيبين المرأة المسكينة بنوبة قلبية ....... هلا ترأفتِ بالناس هنا رجاءا ..... لا يزال هذا اليوم الأول لكِ و لا نريد ضحايا .... )
قالت تيماء من بين أكلها
( أنا لن أطيل البقاء ...... )
ضيقت سوار عينيها و هي تتأملها بدقة ... قبل أن تقول باهتمام
( هل جدي هو الذي طلب رؤيتك ؟؟ ........ )
قالت تيماء ببساطة
( الحقيقة الرغبة مشتركة بيننا .... و تصادف ان كان هذا هو الوقت المناسب .... )
قالت سوار و هي تومىء برأسها مفكرة
( ربما اذن لن تطيلي البقاء بالفعل .... من يعلم .... و ربما تذهبين و ترجعك قدميك الى هنا مجددا ... )
ابتسمت تيماء و هي تقول بتأكيد
( ما أن تطىء قدمي القطار في طريق العودة .... سيكون من المستحيل الرجوع الى هنا .... أنا أريد جدي بشيء هام ثم سأنصرف لحياتي الخاصة .... )
ظلت سوار تتأملها قليلا قبل أن تقول ببطىء خافت
( ربما ........... )
رفعت تيماء وجهها و هي تقول بقوة محتدة قليلا
( ليس هناك من " ربما " ..... هذا ما سيحدث ..... )
قالت سوار بقوةٍ تفوق قوة تيماء
( ماذا قلت يا فتاة ؟!! ....... قدمي مشيئة الله و اسكتي ...... )
نظرت تيماء اليها بقنوط بينما وجنتها منتفخة و ممتلئة بالحلوى .... و عينيها مظلمتين تطلبان الشجار في تلك اللحظة ... الا ان سوار تأففت و هي تقول بخفوت
( أنت حقا تبدين كالشوكة في الخاصرة ......... لقد خرجت عن أعصابي بسببك خلال الدقائق الأولى .... و هذا ليس طبعي ...... )
نظرت الى تيماء بطرف عينيها ... قبل ان تتابع بحدة
( ابتلعي ما بفمك ........ )
قالت تيماء تلقائيا بحدة مماثلة
( حاضر ........ على مهلك ...... )
استندت سوار بظهرها الى المقعد بفخامة و هي تتأمل تيماء باستياء ... ثم قالت أخيرا بصرامة
( و شيء آخر .... حين يسألك أحد آخر" ابنة من أنت " ... تجيبي باسم ابيكِ ... و ليس اسم أمك .. لأن هذا عيب كبير .... فهمتِ ؟؟ ..... )
برقت عينا تيماء بنفورٍ أكبر ... لدرجة أن القشعريرة أصابت بشرتها الحساسة ....
و هذا ما أغضبها حقا .... كانت تظن أنها قد تصالحت مع نفسها منذ سنوات .... لكن ذكر ابيها و دوره في حياتها لا يزال يعيدها الى حالة التمرد القديم ... و هي تكره تلك الحالة ...
لقد تعبت جدا الى ان استطاعت بناء كيانها و شخصيتها المستقلة ... و على تلك الشخصية أن تكون باردة و غير متأثرة بأي عوامل عاطفية تافهة .... و أولها مسألة غير ذات قيمة مثل مسألة ال .... الأبوة ....
أسبلت تيماء جفنيها و هي تقبض أصابعها و تشبكهما ....
تلك السفرة لم تكن القرار الأمثل .... لم يمر على وجودها ساعة و ها هي تنهار لمرتين متتاليتين ....
أقصاهما ..... قاصي .....
رفعت عينيها الى البعيد و هي لا تزال تتسائل
" هل قابلت قاصي الحكيم فعلا ؟!! .... هل هو خارج هذه الغرفة مباشرة ؟!!! ... هل حقا يفصلهما باب فقط ؟!!! ..... "
أرادت السؤال عنه بجنون ....
لقد أوشكت أن ترمي بالحرص جانبا و تسأل تلك الشابة سوار عن قاصي .... من المؤكد أنها موسوعة هنا و تعرف الجميع ...
شردت عينا تيماء و هي تتسائل بجنون صامت
" هل عاد ليعمل لدى سالم الرافعي ؟!! ..... هل هذا معقول ؟!! .... "
لكم شعرت بالخيبة حين وصلت الى تلك النقطة الصادمة .....
لم تتخيل أبدا أن يتنازل و يعود للعمل لدى سالم بعد كل الذي كان .....
هل لا يزال يقل مسك من مكان لآخر ؟!! .... أيزال يحمل لها حقائبها ؟!! ......
رفعت تيماء عينيها المظلمتين الى البعيد و هي تهمس لنفسها
( كم عمره الآن ؟!! ..... الرابعة و الثلاثين ؟!! .... حقا ... هل مر كل هذا الوقت ؟!! .... )
قالت سوار بهدوء
( من هو الذي تتسائلين عن عمره ؟!!........ أنا والله الحمد أعرف تسعين بالمئة من أفراد العائلة ... على الرغم من أن عددهم يزيد عن المئة ..... )
نظرت اليها تيماء بصمت متبلد ... و الروح هائجة تريد رمي الإسم بجنون .... قاصي ...
الا انها غالبت نفسها بصلابة تحسد عليها و قالت بفتور
( أنا أتناقش مع نفسي ..... بعض الخصوصية النفسية ..... )
لم ترد سوار على الفور ... ثم قالت أخيرا
( كان يجب أن أحزر بأنكِ أخت مسك ...... فهي ماشاء الله , تحمل نفس جينات الفظاظة الأقرب للتراجع الذهني .... )
ارتفع حاجبي تيماء و هي تقول بخفوت
( مسك ؟؟ ....... هل هي هنا ؟؟ ....... )
قالت سوار ببرود
( لم تأتي بعد ....... ربما ستصل آخر النهار ....... )
شردت تيماء قليلا و هي تفكر بمسك .... لقد اشتاقت اليها بالفعل .... لقد تواصلت معها دون مقابلة من بعد المرة الأولى ... عن طريق الهاتف و البريد فقط ....
كانت محادثات قصيرة و غير شخصية تماما ... الا أنها كانت لطيفة و تبهج الروح ....
لكن منذ فترة توقفت مسك تماما عن التواصل معها .... و هذا ما عزز رغبة الإبتعاد لدى تيماء
الإبتعاد عن كل ما يخص اسم " سالم الرافعي " .....
ربما كان انقطاع مسك عنها خير لها ... و مع ذلك لا تنكر أنها اشتاقت للطفها ...
انتفضت تيماء على صوت سوار و هي تقول مستاءة
( لا تختلف عنكِ .... صحيح كلاكما تحملان جينات و موروثات عمي سالم بجدارة .. )
برقت عينا تيماء رفضا و زاد نفور جسدها ... الا أنها آثرت السلم و قالت رافضة
( لا أظنك منصفة بحق مسك .... فهي غاية في اللطف )
نظرت اليها سوار بصمت ... ثم قالت بلهجةٍ ذات مغزى
( مسك صديقتي و أنا أحبها ..... لكن متى كانت آخر مرة تواصلت معها ؟!! ....... )
تنهدت تيماء بحرج قبل أن تقول باختصار
( منذ فترة ..... أنا سافرت و هي انشغلت ....... الحياة مشاغل .... )
اومأت سوار بوجهها متفهمة ... ثم قالت بحذر بطىء
( اذن ربما عليكِ تهيئة نفسك بأن البشر يتغيرون قليلا في البعد ...... )
عقدت تيماء حاجبيها بحيرة ....و هي تسمع كلمات سوار الغريبة
هل من الممكن أن تتغير شخصية لطيفة مثل مسك ؟؟ .....
تلك الشخصية النادرة التي تجمع بين الكبرياء و الرقي و اللطف ....... مما يؤلها لتحصل على هيئة ملوكية بجدارة ..... فكيف تتغير و كل المقومات تؤهلها كي تكون سعيدة و معطاءة ؟!! ....
نهضت سوار من مكانها و هي تقول بود
( قد يأخذني الكلام معك طويلا ..... بينما هناك عمل لا ينتهي قبل وصول المزيد من الأفواج ... لذا سأتركك الآن قليلا ثم أعود اليكِ .... هل ستجدين صعوبة في التآلف مع الباقين ؟؟ .... )
نظرت اليها تيماء بصمت ...
هي لم تأتي هنا كي تتآلف مع الباقين .... لقد أتت في مهمة محددة و ستتجنب الدخول في وهم العائلة المترابطة هذا بكل جهدها ..... لذا قالت بهدوء رافعة ذقنها بكرامة
( سأجد طريقة ما .... لا تقلقي ..... لكن هل كل هذا العدد من سلالة أعمامي ؟!! .... كيف تمكنوا من فعل هذا ؟!! ..... )
ارتفع حاجبي سوار و هي تقول بشك
( سلالة !! ...... أنتِ تتكلمين مثل عم عبد الكريم حين يكون في الاسطبل !! .... عامة .... هناك أعمامك و أبناء أعمامهم ... جدك الرافعي أنجب الكثير من الذكور من عدة زيجات ... و كذلك فعل أشقائه , على أنه الوحيد المتبقي على قيد الحياة منهم فليمنحه الله الصحة .... لكن ستتعرفين على أبنائهم و بناتهم و أطفالهم أيضا ... لكن أشك في أن تتذكريهم من مرة واحدة ..... الآن سأتركك ثم أعود اليك بعد حين ... حاولي الا تستفزي العاملين هنا ..... )
استدارت لتغادر الا أن تيماء نادتها قائلة
( لم تعرفيني بنفسك ......... )
التفتت اليها سوار و هي تقول بزهو
( أنا سوار ... لم أظن أن هناك من لم يعرفني بعد في هذه العائلة .... )
قالت تيماء تستفز وهم العائلة بداخل تلك المزهوة بها
( ابنة من ؟؟ .......... )
ارتفع حاجبي سوار بصدمة .... قبل أن ترفع اصابعها قائلة بفخر
( ابنة وهدة الهلالي ..... )
كان دور تيماء كي يرتفع حاجبيها بتبلد و هي تفكر
" ألم تعرف نفسها بأمها للتو ؟؟!! ...... "
الا أن سوار كانت قد اختفت فجأة كما ظهرت فجأة ... فنظرت تيماء الى أرجاء القاعة الواسعة و هي تهمس
( ما تلك الحياة الغريبة ....... أناس عصريون بينما آخرين يرتدون الزي القديم , لكن لهجتهم تدل على تعليم عالي و معرفتهم بعدة لغات على الأقل !! ...... الدراسة هنا ستكون غنية و البحث رائع ... لكن للأسف النهاية قد اقتربت ..... )
تراجعت للخلف و هي ترتاح قليلا مغمضة عينيها تسرح بعيدا ..... بعيدا جدا .....
و الذكريات تلاحقها من كل صوب و اتجاه .......
ذكرى اليوم الأول الذي عرفت به قاصي ..... ذلك اليوم الذي كاد ان ينتهي بكارثة في شقتها ....
حين أوصلها الى أمها ....
ابتسمت و هي تتذكر صورة أمها حين فتحت الباب ... ناعسة العينين ... مشعثة الشعر .... ترتدي منامة ذات بنطال قصير يصل الى الركبتين ...
بدت غير مستوعبة و هي تنظر الى تيماء في الخارج ... و شاب يفوقها طولا يقف خلفها ....
شاب غريب و مريب .... شعره طويل , معقود في ذيلٍ ناعم يصل الى كتفيه .... بينما يده في جيب بنطاله الجينز و الأخرى تحمل حقيبة تيماء و كأنه يحمل فأر ميت ....
حين تكلمت ثريا قالت بصوتٍ خشن من النوم ...
( تيماء !! ...... ألستِ نائمة بالداخل ؟!! ....... )
مطت تيماء شفتيها و هي تقول
( هلا تأكدت من وجودي في الداخل رجاءا يا أمي ..... و إن وجدتيني في سريري فستكون غلطة و سنغادر من هنا آسفين ..... )
بدت ثريا غير مستوعبة و كأنها ستذهب لتأكد من وجودها في سريرها بالفعل ....
لكن قاصي تكلم أخيرا قائلا بصلابة
( لا تذهبي رجاءا ........ لقد هربت من البيت و أعدناها قبل أن تحدث كارثة .... )
اتسعت عينا ثريا بفزع و هي تقول غير مصدقة .. و قد بدأت تفيق أخيرا
( هربت ؟!!! ...... كنتِ تنوين تركي يا تيماء ؟!! ...... )
التفتت تيماء ترفع وجهها الى قاصي .. ثم همست بغضب من بين أسنانها
" أيها الواشي ... البغيض .... النذل .... "
أخفض قاصي وجهه اليها وهو يهمس بغيظ
" لفي لسانك و أغلقى فمك عليه كي لا أقصه لكِ ....... فأنا سأقود السيارة لمدة ست ساعات اليوم بسببك ذهابا و عودة .... "
رمقته تيماء بعينين تشتعلان قبل أن تندفع دافعة أمها و هي تتجاوزها للداخل ...
بينما تبعتها عينا ثريا بقلق و عدم فهم .. قبل أن تستدير الى قاصي لتقول
( عفوا ... لكن من انت .... شكلك ليس غريبا عندي .... لكن ..... )
قال قاصي بهدوء
( أنا قاصي الحكيم ....... أعمل لدى السيد سالم و منذ فترة ليست ببعيدة كلفني بإنهاء أي اجرائات خاصة بكما نيابة عنه ..... )
رفعت ثريا ذقنها و هي تقول متذكرة
( آآه نعم ...... الشعر ليس غريبا علي ....... )
قال قاصي عاقدا حاجبيه
( ما قصتكما مع الشعر ؟؟ .......... )
زفر بنفاذ صبر قبل أن يقول بجدية
( سيدة ثريا .... احتاج لأن أتكلم معكِ قليلا ... )
ردت ثريا بتوتر مترددة
( آآه .... تفضل ..... ادخل ...... )
كانت تيماء حينها تقف في الممر مستندة بكفيها للجدار و هي تنوي سماع ما سيقوله لأمها ....
نظرت اليه بعين واحدة من خلف الجدار و هو يجلس بهيمنة أمام امها .... كان فعلا مريب الشكل ووجوده يجعل كل ما حوله يتضائل مقارنة بشكله اللذي يحفر في الذاكرة ....
رأته يستند بمرفقيه الى ركبتيه وهو يميل الى الأمام ... مخفضا رأسه عدة لحظات مفكرا ... قبل أن يرفعها قائلا بجدية
( سيدة ثريا .... تعليمات السيد سالم كانت واضحة في الا تحاول كلاكما التواصل معه على أن تكون كافة طلباتكما مجابة ..... )
انقبضت أصابع تيماء فوق الجدار الأبيض ... حتى كادت أظافرها أن تحفر به .....
بينما عيناها تراقبان ملامح والدتها التي تحولت الى الشحوب و هي تبتلع ريقها و حلقها يتحرك بطريقة مثيرة للشفقة ... أثارت النفور بنفسها ....
ثم قالت بتوتر
( و هذا ما نفذناه ..... فماذا يريد بعد ؟؟ ....... )
تنهد قاصي ثم قال
( هذا ما لم تنفذه تيماء .... لقد هربت من حاملة معها بعض أغراضها ... تنتوي الإنتقال للبقاء معه .... )
اتسعت عينا ثريا بذعر و هي تستمع اليه ... بينما تهدلت شفتيها بشكل أكثر نفورا و يدها ترتفع الى صدرها .... قبل أن تقول أخيرا بهلع
( و هل نجحت في الوصول اليه ؟!! ...... ماهذا السؤال .. طبعا نجحت في الوصول اليه بدليل أنك هنا ... ياللكارثة !!! ... )
شهقت بصوتٍ وصل الى أذن تيماء قبل أن تهتف مذعورة
( هل هدد بقطع دعمه لنا ؟!! ...... هل قطعه بالفعل ؟!! ...... )
ارتجفت شفتي تيماء و هي ترى أمها في هذا الموقف المخزي .... و التقطت عيناها نظرة قاصي المستنكرة المذهولة قبل أن يقول بشدة غاضبة
( سيدة ثريا ... ابنتك هربت اليوم في الصباح الباكر .... و استقلت الحافلة وحدها و سافرت من مدينة لأخرى ... و معها عنوان رجل غريب ..... أتدركين مدى خطورة ذلك ؟!! .... )
احتدت عينا ثريا و هي تقول بشك
( عفوا .... لكن هل لديك شكوى من طريقة رعايتي لطفلتي ؟!! ... هل هذا ما فهمته للتو أم انني مخطئة ؟!! ... )
صمتت قليلا ثم قالت بقلق مرتعد
( هل هذا رأي سالم بعد أن رأى تيماء ؟!! .... أنني لا أجيد العناية بها لذلك سيقطع الدعم المادي عنا ؟!! ... )
ضاقت عينا قاصي أكثر و قد بدا و كأنه فقد مهارة الكلام فجأة .... فتراجع للخلف يستند بظهره ...
ناظرا الى ثريا نظرة شاردة ... لم تخطئها عيني تيماء المتفرستين به من خلف الجدار ...
لكن فجأة وجدت العينين الناريتين تنظران اليها مباشرة ...
و كأنه رفع عينيه الى عينيها بقصد ... حينها تراجعت للخلف حتى اصطدمت بالجدار المقابل ... قبل أن تهرع مبتعد عن مرمى نظراته ....
لكن صوت ثريا لا يزال يصلها واضحا و هي تتابع أسئلتها المذعورة
( أخبرني بالله عليك ..... ماذا كان قرار سالم ؟!! .... لماذا أنت صامت بهذا الشكل ؟! .... )
فقال قاصي بعد فترة طويلة دمرت أعصابها
( قرار السيد سالم هو أن يمنحك فرصة أخيرة .... على أن يتأكد تمام التأكيد أن ابنته لن تكرر ما فعلته و تعرض نفسها للخطر مجددا ..... )
هتفت ثريا بصوتٍ وصل الى تيماء واضحا ....
( لن يحدث ...... لن يحدث مجددا , يمكنك أن تأكد له ذلك ..... )
ساد صمت طويل .... لم تستطع تيماء أن تعرف معه بماذا يفكر هذا القاصي ....
لكنها سمعت صوته يتكلم مجددا ....
( لكن لماذا هربت ؟!! ....... هل هناك ما ضايقها ؟؟ ...... )
قالت ثريا بصوت قلق
( لقد تشاجرنا بالأمس مجرد شجارا عاديا ......نسيت شيئا تريده ... أنت تعرف الأطفال ...... )
حينها قال قاصي بصوتٍ صلب
( ربما لم تعد طفلة ......... و هذا ما عليكِ الإنتباه اليه ..... )
سمعت تيماء صوت ثريا يهتف فجأة باستياء
( من أنت لتعلمني طريقة التعامل مع طفلتي ؟ .... كم عمرك أصلا يا فتى ؟!! .... )
حينها قصف صوت قاصي يقول بنبرة بدت لأذنيها مخيفة
( و كم عمرك أنتِ ؟ .......... )
ساد الصمت مجددا .... و قد طال هذه المرة قبل أن تقفز تيماء لصوت أمها يهتف بقوة بتوتر شنيع
( هل كلفك سالم بمراقبة طريقة تعاملي مع تيماء ؟؟ ...... )
أرهفت تيماء السمع بعينين متسعتين ... قبل أن يصلها الجواب الصارم
( نعم ..... بطريق غير مباشر , لكن ربما لن تقابليني مجددا .... )
ازداد اتساع عيني تيماء ... لقد كان يكذب ؟!!! ....
ليس هذا هو ما أراده سالم !! .... لقد أمره حرفيا برميها لأقرب حافلة !! ...... لماذا يفعل ذلك ؟!! ...
حينها هتفت ثريا بصوتٍ أعلى كي يصل الى تيماء
( تيمااااء .... أعدي الشاي ..... )
تأففت تيماء و هي تذهب الى المطبخ مرغمة ... و بدأت بملىء الغلاية الكهربائية بالماء .. ثم وقفت تنتظر و هي تضع كفيها على السطح الرخامي بينما عينيها شاردتين تفكران .... هل ينوى مراقبتهما فعلا ؟!!
من قرار عقله الخاص ؟!! .... أو ربما تكون له مصلحة في أن يوقف والدها المال الذي يرسله الى أمها ...
فقد يعمل كواشي حقير .. جبان .... و تكون حينها هي السبب في أذية والدتها ...
صحيح أنها لم تعد ترغب في الحياة معها ... الا أنها لا تريد أذيتها ....
صمعت صوت صفير الماء الساخن ... فحضرت الأكواب قبل أن ترفع الغلاية الثقيلة ... لكن بركة من الماء في الأرض ... على ما يبدو ان ثريا قد خلفتها دون أن تهتم و تمسحها جعلت قدميها تنزلق قليلا ليسقط الماء الساخن على ذراعها كله ....
صرخت تيماء بصوتٍ عالٍ من شدة الألم ..... لكنها أسرعت الى صنبور الماء لتضع ساعدها تحته ...
بينما اندفع صوت أقدام قوية خلفها بسرعة ... لتسمع صوته من خلفها يقول بقلق
( ماذا حدث ؟؟ ......... )
لا تزال تيماء تتذكر تلك اللحظة حتى الآن ... تلك اللحظة التي لم ترغب في الإستدارة اليه و بقت متسمرة مكانها و معصمها تحت الماء ....
صوت ثريا كان يعلو من خلفه و هي تسألها كذلك عما أصابها بقلق ....
لكنها لم تسمع سوى قاصي ... ذلك الذي شهد اهانتها و نبذها من والدها .... لذا كانت كرامتها الفتية كانت مدمرة في تلك اللحظة ....
و لا تزال تتذكر اقترابه منها أكثر وهو يقول بخفوت
( أرني معصمك ......... )
لكنها لم ترد عليه .... فوجدت اليد الخشنة السمراء تمتد من خلفها لتلتف حول معصمها الأبيض الرقيق ...
لتقلبه الى باطنه .....
لا تزال حتى تلك اللحظة تتذكر أول مشاعر أنثوية انتابتها في حياتها كلها ...
هل يمكن لأي شابة ان تتذكر اللحظة الأولى التي تحولت بها الى أنثى !! .... تشك في ذلك ....
لكنها تتذكر تلك اللحظة حية حتى اليوم .... وهو يديرها اليه , فرفعت اليه عينيها الفيروزيتين المغروقتين بالبكاء ....
لتتسمر عيناه عليهما ... و معصمها بيده .......
تكاد عيناها ترسمان الذكرى لفمه الفاغر و الذي بدا و كأنه يتنفس بقوة ....
و لا تزال تتذكر توسلها الباكي الهامس للمرة الأولى بحياتها لمخلوق
( أرجوك لا تؤذي أمي ....... و لا تعمل جاسوس لدى أبي ...... )
الآن و بعد عشر سنوات ......
ها هي تجلس في المقعد الوثير العتيق ... و يداها مستريحتان على ذراعيه ....
رأسها المتراجعة للخلف سارحة في بحر الذكريات و عينيها المغمضتين ترسمان الصور .....

" ذكرى أخرى لها و هي تنظر في المرآة ... تغني و تتمايل مبتسمة ... بينما هو خلفها ....
يتمايل معها ... و عيناه على عينيها في المرآة .... جمرتين لم تهدآ يوما و لم يخبو وهجهما .... "

انتفضت تيماء تستقيم في جلستها و أصابعها تشتد على ذراعي المقعد ....
تنظر حولها عائدة الى الزمن الحالي .... بينما صدرها يعلو و ينخفض بقوة .... فابتلعت ريقها و هي تهمس
" تمالكي نفسك يا تيماء ....... ساعات من الزمن و ترحلين للأبد , .... فقط اصمدي في مواجهة تلك الساعات .... مهما بلغت صعوبتها .... اصمدي ..... "
انقبض كفها في قبضة مضمومة فوق ذراع المقعد .... تضرب عليه بخفوت و هي تتابع الهمس
" ما الذي تفعله هنا يا قاصي ؟!! ..... و اين حياتك ؟!! ..... مرت السنوات و انتهى بك الحال و أنت لا تزال عبدا لهذه العائلة .... كيف عدت و تنازلت ... "
اظلمت عيناها و هي تواجه نفسها بشراسة
" هل تشفقين عليه ؟!! ..... أم تشعرين بالخيبة لخنوعه بعد ما أصابك ؟؟ ... كنت تودين أسره دائما في صورة ذلك المدافع الشرس عنك و الذي قد يفديكِ بحياته لو تطلب الأمر .... أم أنكِ تلعنين ذلك الخنوع الذي كان السبب في رؤيتك له مجددا بعد كل تلك السنوات ليزلزل كيانك من جديد ... و كأن شيئا لم تفعليه ... و كأن ما بنيته خلال السنوات الماضية لم يكن سوى وهم ..... "
عادت لتغمض عينيها و هي تسمع صوته صارخا بقوة من الماضي
" سأقتلك يا سالم ....... أقسم أن أقتلك.... الا هي ....الا هي .... . "
فتحت عينيها متأوهة و هي تنهض من المقعد ... تدور حول نفسها و كأنها تبحث عن مهرب وهمي .... هامسة بجنون يائس
" لا يعقل أن يكون هنا بالفعل ..... الا هو .... الا هو ..... "
.................................................. .................................................. ..................
جلس بمكتبه الأنيق براحةٍ بعد يوم طويلٍ متعب .....
ممسكا أخيرا بالكوب الذي أعده من القهوة الجاهزة وهو يغمض عينيه مرتاحا .... مشمرا كمي قميصه الأبيض الناصع ... و الذي قام بتغييره للتو كي يحظى بالإنتعاش .....
حيث أن له طقوس خاصة في الراحة بعد التعب حتى و إن لم ينتهي يوم عمله بعد ....
قرب الكوب من شفتيه هامسا مبتسما برضا
( وحيدا .... مرتاحا ..... و مع كوب القهوة الأول منذ الصباح ..... )
فتح باب مكتبه فجأة مع صوت جماهير محتشدة غاضبة ... مما جعل ذراعه ينتفض و انسكبت نصف القهوة على سطح المكتب و ... و قميصه الناصع !! ...
( ما يحدث نحن نرفضه رفضا باتا يا سيد أمجد .......... )
أغمض أمجد عينيه بيأسٍ وهو يقول بصوتٍ خافت ...
( كنت أعرف أن الهدوء ليس من أقداري .......و الراحة ليست من نصيبي .... حسبي الله و نعم الوكيل .. )
ألتقط عدة محارم ورقية ليمسح بها سطح المكتب ببطىء ...
قبل أن يرفع عينيه الى مجموعة الموظفين اللذين اقتحموا مكتبه دون اذن .....
أخذ يتفحصهم واحدا تلو الآخر ....
نعم ... إنهم مجموعة الشباب الرافضين دائما و المطالبين بحقوق الباقين .... و اللذين يحبهم بصراحة و يحب فورة الحماس لديهم .... الا أنهم باتو يمثلون الصداع الأقوى بيومه المضني .....
حسنا ... أمجد الحسيني معروف في الشركة بأنه حبيب الجميع .... و المتواضع كليا مع كل الموظفين من أصغرهم منصبا و حتى الرأس الأكبر في الشركة ....
لقد كان الدخول اليه سهلا و مباشرا .... على عكس الجميع ....
لكن هذا ليس معناه الدخول دون حتى طرق الباب .... لكنه أجل ملاحظته وهو يرى على ملامحهم احساسا هاجعا بالظلم ... اذن فالموضوع خطير ....
أخفض عينيه وهو يتابع مسح السطح تماما حتى زالت القطرة الأخيرة قبل أن يقول بهدوء
( حسنا ..... من اخترتم ليتكلم نيابة عنكم ؟؟ ...... )
تقدمت أقصرهم و أنحفهم و أعلاهم صوتا .... تلك الجنية الصغيرة " أسماء " ....
على الرغم من أن حجمها يكاد أن يكون ربع أقلهم حجما ... الا انها دائما المتحدثة الرسمية بالنيابة عنهم ...
تنهد أمجد وهو يقول
( طبعا ....... و من كنت أنتظر غيرك ..... تفضلي يا أسماء , أسمعك ...... )
اندفعت أسماء تقول بصوتٍ عالٍ
( هل بلغك من سيكون المدير الجديد لقسم التوريد يا سيد أمجد ؟؟!!!! ....... )
قال أمجد وهو يضع نظارته فوق عينيه ثم ينظر اليها
( لا ..... لم أعرف بعد نظرا لأن العمل خارج الشركة شغلني أكثر في الفترة الأخيرة خاصة و أن الشؤون الإدارية ليست المحبذة لدي .... لكن من الواضح من ملامحكم أن الخيار لم يعجبكم ..... )
تقدمت أسماء حتى وصلت الى سطح المكتب ووضعت كفيها عليه و هي تنحني الى أمجد بعينين تستعران غضبا ...
( ابنة السيد سالم ......ابنة السيد سالم الرافعي .... هل تصدق ذلك يا سيد أمجد ؟!! ...... بأي حق ؟!! ... لمجرد أنها ابنة صاحب الشركة ؟!! ....... إنها لم تعمل هنا يوما ؟!! .... فكيف تكون مديرة لأحد الأقسام ؟!! ... و تنتزع ترقية الأستاذ كامل ؟!! .... إنه الأكبر سنا ... و خبرته و كفائته و سنوات عمله في الشركة تؤهله لهذا المنصب و الجميع كان يتوقع له هذه الترقية كأمر مفروغ منه ...... فكيف يحدث ذلك ؟!!! .... )
كان أمجد يستمع اليها باهتمام ... مدققا بكل كلمة ..... و يده تمس لحيته الشقراء الداكنة ... قبل أن يقول بجدية ...
( لحظة واحدة كي أفهم ....... من هي ابنة السيد سالم الرافعي ؟!! ....... لم أراها أو أسمع أنه له ابنة من الأساس ؟!! ..... )
هتفت أسماء وهي تضرب على سطح المكتب بقبضتها حتى اضطر أمجد أن يرفع الكوب كي لا تتناثر باقي محتوايته مجددا ....
( هذا لأنها لم تعمل هنا من الأساس ..... هل تسمعني يا سيد أمجد ؟؟ ..... )
قال أمجد بهدوء
( اسمعك يا أسماء .... أقسم بالله أسمعك , هلا أخفضت صوتك رجاءا ... على الأقل من باب الإحترام لفارق العمر ..... )
احمر وجهها بشدة ... و ارتبكت قائلة
( أنا آسفة سيد أمجد ..... لم أقصد أن أحتد عليك , فأنت لست المقصود ..... )
قال أمجد متظاهرا بالراحة
( الحمد لله أنني براءة ............. )
ابتسمت أسماء رغما عنها ...... فابتسم أمجد هوالآخر ليقول
( حسنا لنبدأ من جديد ...... ابنة السيد سالم المجهولة .... ستأتي من اللا مكان حيث ستتسلم ادارة أحد الفروع هنا ...... لكن هذا ليس منطقيا ؟!! .... أن تكون بلا خبرة و تحط علينا فجأة .... هل يعرفها أحد أو سمع عنها أي معلومات ؟!! ...... )
قال راشد وهو أحد الواقفين المستائين
( لقد أتمت دراستها في الخارج ...... و علمت هناك مباشرة ... و قد عادت للتو ....... )
أرجع أمجد ظهره للخلف وهو ينقر على سطح المكتب قائلا
( آه .... اذا فبعض الخبرة موجودة ....... هل يعرف أحدكم المزيد عنها ؟!! ..... كم عمرها ؟!! ..... )
قال راشد مجددا
( ربما في السادسة و العشرين ....... )
ارتفع حاجبي أمجد وهو يقول
( صغيرة السن بالنسبة للمنصب !! ............. )
اندفعت اسماء تقول بغضب و استياء
( ليت السن كان المشكلة الوحيدة ..... لقد أتت الى هنا منذ يومين ..... و لم نكن نعلم بنوايا مجلس الإدارة في تعيينها ..... إنها شديدة الغرور بدرجة تدفع أي شخص كان محبا لعمله يوما .أن يحرق المكان و هي به ..... إنها فاشلة و لا تحمل ذرة من روح الفريق ..... )
أسبل أمجد عينيه قليلا ....
إن كان هناك ما يكرهه في هذه الدنيا فهو الغرور .....
الا أنه قال بحيادية أخيرة
( حسنا لندع صفة الغرور تلك جانبا .... من الظلم الحكم على طبع شخصي لأنسان قابلتموه لمرة واحدة .. )
اندفع عثمان و هو أحد المعترضين حامين الوطيس كذلك
( بل هي شديدة الصلف بالفعل يا سيد أمجد ..... لم يستطع احد البقاء معها لأكثر من ربع ساعة فقط ... فكيف سنعمل معها ؟!! ...... )
" حسنا .... تلك الشابة وٌضِعت في القائمة السوداء تلقائيا دون حتى أن يراها ... و مع ذلك تبقى القائمة السوداء لديه مجرد شعور شخصي يفصله تماما عن العمل .... "
تكلم راشد مجددا و هو أكثرهم حكمة ...
( أنتم تضيعون المهم في الموضوع .... الغرور ليست المشكلة الأساسية يا سيد أمجد .... بل الظلم .... ليس من العدل أن تنال المنصب الذي كنا نتوقعه للسيد كامل .... فهو الأكبر و الأكثر خبرة و الجميع يشهدون له بالكفاءة .... )
رفع أمجد وجهه وهو يقول بهدوء
( أحسنت يا راشد .... هذا هو الأهم في الأمر , ..... حسنا لقد استمعت اليكم حتى النهاية , الآن دعوا الأمر لي و عودوا الى أعمالكم ..... و أعدكم أن أنظر في الأمر ... )
قالت أسماء باستياء
( لو كنت تحضر احدى اجتماعات مجلس الإدارة يا سيد أمجد ....... )
قال أمجد يقاطعها
( أسماء ... توقفي عن الطنين فوق أذني ..... أنا لم أشرب قهوتي من الصباح .... هيا الحقي برفاقك ...... )
غادرت أسماء خلف المجموعة الثائرة ..... مغلقين الباب خلفهم ....
فرفع أمجد الكوب الى شفتيه قائلا بتفكير
( ابنة سالم الرافعي ...... اذن حرب جديدة مع المزيد من الطفيليات المتبجحة .... )
لم تصل أي قهوة الى فمه فأخفض وجهه الى الكوب الفارغ ... ثم قميصه المتسخ ... قبل أن يقول بصوتٍ قاتم
( رائع .......... )
وضع الكوب جانبا ... ثم التقط أحد أوراقه المتكومة ليبدأ العمل من جديد قائلا بامتعاض
( حسنا ...... لم يعلمني أحد باسمك بعد يا ابنة سالم الرافعي ....... ترى من تكونين .... شاكينار ... ماهينار ... ماهيتاب ..... )
بدأ يركز بأوراقه .... لكنه قال مبتسما أثناء العمل
( ألمظ يليق بكِ ........ كنت أظن أن مثيلاتك انقرضن منذ زمن )
.................................................. .................................................. .................
دخل الى مقهى العمل متعبا ..... متجها الى طاولته الخاصة التي اعتاد الجلوس عليها دائما ...
الا أنه توقف مكانه و زالت ابتسامته وهو يجدها تجلس الى طاولته ....
ممسكة بكوب به شراب ساخن ..... تنظر شاردة من النافذة بجوارها دون أن تلمحه ... و البخار الدافىء يلامس وجهها ....
زم شفتيه قليلا ... قبل أن يأخذ نفسا هادئا و يتجه اليها ببطىء .... و ما ان وصل الى الطاولة حتى قال بهدوء دون أن يجلس
( الطاولات كثيرة العدد .... فلماذا العناد ؟!! ..... )
انتفضت قليلا من شرودها و هي تنظر اليه رافعة وجهها الجذاب اليه ..... و طالت نظرتها لحظتين قبل أن تبتسم قائلة بهدوء
( لم أجدها مسجلة باسمك رسميا ..... الطاولات متاحة للجميع ..... )
قال أمجد وهو ينظر اليها من علو ... واضعا يديه في جيبي بنطاله
( لماذا يصعب عليكِ ترك طاولتي لي يا غدير ...... )
ارتجفت شفتيها قليلا قبل أن تقول بخفوت
( أردت الحديث قليلا ..... هل تبخل علي به ؟؟ ...... )
ظل أمجد واقفا مكانه ينظر اليها بصمت ... و بملامح هادئة لم تظهر شيئا , قبل أن يتقدم خطوة و يسحب الكرسي أمام عينيها المنتظرتين ... ثم جلس بثقة وهو يرفع يده الى النادل ليحضر له قهوته التركية الخاصة ....
نظر اليها مجددا ثم قال بهدوء
( تبدين كمن تلقى صدمة ........... )
عضت على شفتيها المطليتين بلونٍ أرجواني يناسبها .... مخفضة وجهها و هي تراقب سطح شرابها الساخن ... بينما انسابت خصلة من شعرها البني الداكن على وجنتها تخفي بعضا من ملامحها عنه ....
قالت اخيرا بصوتٍ شديد الخفوت و الهدوء الخالي من الحياة
( يمكنك قول ذلك ........ )
ظل أمجد ينظر اليها عدة لحظات قبل أن يقول
( كنت تريدين الكلام .... فلماذا أنتِ صامتة الآن ؟....... )
رفعت وجهها اليه .... و عيناها تحومان من حوله الى ان نظر للنافذة و قال بصوتٍ جامد
( الجو بارد اليوم ........ )
لاحقت غدير نظرته الى النافذة ... ثم قالت بفتور
( نعم ...... جدا ........ )
ساد صمت قصير قبل أن تنظر اليه لتقول بخفوت
( لماذا لا ترتدي كنزة ؟؟ ...... الا تشعر ترتعد مثل باقي البشر ؟؟ ..... )
نظر اليها ثم قال بهدوء
( لا أظنك كنت تريدين الكلام عن كوني بلا كنزة !! ....... )
عقدت حاجبيها و هي تبتسم ابتسامة زائفة .. خالية من المرح قائلة بلطف
( لا ..... لكن بقعة القهوة تفسد أناقتك المعروفة ..... )
أخفض أمجد عينيه تلقائيا ينظر الى بقعة القهوة ... قبل أن يعاود النظر اليها قائلا بابتسامة
( التغيير مطلوب ...... لقد كانت هذه البقعة نتيجة لصدمة كتلك الصدمة على وجهك الآن ...... )
ارتفع حاجبيها بحيرة و هي تقول بخفوت
( حقا ؟!! ...... أشك أن تكون نفس صدمتي ....... )
أمال أمجد رأسه قليلا وهو ينظر اليها ... مستريحا في مقعده ... و يديه في جيبي بنطاله .... ثم قال بهدوء
( اذن لما لا تختصرين الطريق و تقصين علي الأمر و تدعين الحكم لي ..... )
أرتجفت أصابعها قليلا حول الكوب و هي تنظر لحافته مجددا .... بينما كان خاتم زواجها يلمع باصبعها بكل بهاء ... لكنها كانت شاردة عنه للمرة الأولى ....
لطالما أحبت النظر الى خاتم زواجها بفخرٍ خفي ... لم تكن تظن ان أحد من الممكن أن يلمحه , لكن عينيها كانتا تبرقان به كلما رمقت الخاتم ....
لكنها الآن متابعدة و شاردة تماما .... الى أن قالت أخيرا بصوتٍ شاحب
( صديقتي ...... أقصد .... تلك التي كانت صديقتي يوما ..... سنتواجه أنا و هي قريبا .... )
ساد صمت طويل .... قبل أن يقول أمجد بصوت خافت بارد مستنتجا الجواب
( تلك التي تركها خطيبها لأجلك ؟؟ ........ )
ارتفعت عينيها الى عينيه لتقول بجمود و عيناها تتصلبان
( لم يتركها من أجلي ....... لم يحدث هذا ...... )
ضيق أمجد عينيه وهو يتظاهر بالتفكير ... ثم قال أخيرا بصوتٍ متسائل
( عذرا ..... لكن ألم ترتبطي بشخصٍ خاطب قبل أن يخلع خاتمه ؟!! ....... )
هتفت غدير بقوة
( الحياة بينهما كان محكوما عليها بالفشل قبل أن تبدأ ..... أنت لا تعلم الكثير من التفاصيل , بل في الواقع أنت لا تعرف أي تفاصيل .... )
صمتت فجأة و هي ترى النادل يقترب ليضع القهوة أمام أمجد الصامت قبل أن يقول بهدوء
( شكرا لك ........... )
انصرف النادل بينما بقى كلاهما صامتا و كأن الأجواء قد اشتعلت من حولهما فجأة دون الحاجة للكلام ...
ثم قال أمجد أخيرا بهدوء
( غدير ..... ألست مقتنعة بحياتك التي اخترتها بنفسك ؟؟ .... فماذا يهمك من المواجهة اذن ... الا لو كنتِ تشعرين بال..... الخزي .... )
ارتفع وجهها منتفضا شاحبا اليه .... و قالت بصوتٍ واه
( خزي يا أمجد ؟!! ...... هل هذه نظرتك لي ؟؟!! ..... )
قال أمجد وهو ينظر الى عينيها
( أنا لا أملك أي نظرة لكِ يا غدير .... ظننت يوما أنني أفعل , لكنني أيقنت فيما بعد أنني لست كذلك ..... الأهم هو نظرتك أنت لنفسك .... و لو كان ضميرك مرتاحا فلا تأبهي للمواجهة , فلقد سبق و مررتٍ بالأصعب ..... و طعنتها .... )
فغرت غدير شفتيها بصدمة .... ثم قالت بصوتٍ يرتعش قليلا
( لم أعهدك قاسيا هكذا من قبل يا أمجد ....... )
ابتسم بسخرية قبل أن يقول
( أشياء كثيرة تتغير مع الوقت ...... لكن أنتِ على ما يبدو لا تتغيرين , ترفضين حتى الإعتراف ,,, و اقصى ما تستطيعين فعله هو الجلوس في الركن مرتجفة خوفا من مواجهةٍ .... سبق و حدثت .... )
مدت غدير كفيها على الطاولة بينهما و هي تهمس بحدة شرسة
( الإعتراف بماذا ؟؟ ....... بماذا علي الإعتراف ؟!! ...... )
قال أمجد بقسوة
( أنكِ اخترت القبول برجلٍ يحمل خاتم خطبة صديقتك ..... )
قالت بحدة يائسة
( لقد أحبني ........ هذا ما حدث , فهل كنت تريده أن يكمل زواجه بها وهو يحب أخرى من باب الواجب فقط ؟!!! ..... )
رفع عينيه اليها مباشرة قبل أن يقول
( و ماذا عنكِ ؟!! ...... هل أحببته ؟!! ....... )
بهتت ملامح غدير فجأة و كأنه غافلها بسرعةٍ لم تتداركها .... و ابتلعت ريقها بتوتر قبل أن يقول أمجد بهدوء
( لم أسمعك مرة تنطقين بحبه ..... )
قالت غدير بخفوت مرتعش
( طبعا احبه ...... فلماذا تزوجته اذن إن لم أكن أحبه ؟!! ...... )
قال أمجد ببساطة
( ليس هذا الإنطباع الذي منحتني اياه ......... )
اهتزت حدقتي عينيها بقوة .... و ارتجفت شفتيها .... كلامه المختصر يحتمل عدة معاني , ليست مؤهلة كي تواجهها حاليا ....
بينما المعنى الصريح كان ظاهرا بعينيه .... دون أن يحيدا عن عينيها .....
أما هي فمن حادت بعينيها عن عينيه و هي تنظر الى حافة كوبها التي بردت و مات البخار بها .....
أسنانها تعض على شفتها بتوتر ... جعل أمجد يشفق عليها رغم عنه ...
لطالما كانت غدير تثير به غريزة الرعاية .... أو ربما الشفقة .... فقد قصت عليه حياتها الصعبة بكل تفاصيلها .....
حياتها تجبر من يحياها على أن يكون مهتزا و غير مستقر ....
و قد بدت متعلقة به في البداية لدرجة قد تثير الإختناق .... لكنه كان يستمع اليها بصبر ... الى أن تحول الصبر الى اهتمام بالتدريج ....و أحب هذا الشعور ...... .....
أحب البريق في عينيها كلما تكلمت معه طويلا .....
لكنه اكتشف أن هذا البريق كان مؤقتا و ضعيفا كقشة طيرتها أول نسمة هواء .....
لم يكن بحاجة الى استنتاج سبب تباعدها عنه فجأة ..... رجل جديد ظهر بحياتها ......
لكن الصدمة حين رآهما ذات يوم ... و علم أنه يضع باصبعه خاتم خطبة ....
و فيما بعد علم أن خطيبته التي كانت يوما ......
كانت أغلى صديقة لها أو ربما الوحيدة .... و على الرغم من ذلك فقد استثنتها تماما من كل الحكايات التي قصتها عليه ....
تجاهلت ذكرها من بين كل تفاصيل حياتها التي اسمعته اياها ... و كأنها كانت تتمنى استئصالها من حياتها بأكملها .....
حينها قرر الخروج فورا من تلك الدائرة السوداوية ..... و الفرار بأقل درجة خسائر ممكنة ...
لقد تزوجت الفتاة التي أوهمته يوما أنه الرجل الوحيد ........ نقطة آخر السطر .
قصة قصيرة ساخرة ....
رفع أمجد عينيه اليها أخيرا ثم قال بهدوء
( ألم تشفقي عليها ولو للحظة قبل الموافقة على الزواج منه ؟!! ........ )
رفعت غدير عينيها الزائغتين اليه .... قبل أن تهمس مرتجفة
( أنت لا تعرفها ..... كلمة الشفقة لا تقترن بها ..... لقد كانت تمتلك كل شيء ... كل شيء .... و تشعر من حولها بأنها تتمنن عليهم .....هذا ليس ذم بها .... لكن هذا هو طبعها , نتيجة نشأتها ... )
ضيق أمجد عينيه وهو يقول بخفوت
( كيف كانت صديقتك و أنت تتكلمين عنها بهذا الشكل ؟!! ....... )
لعقت شفتيها المرتجفتين قبل أن تهمس بخفوت بعد فترة طويلة
( كنا أعز الصديقات ..... منذ سنوات طويلة جدا .....و لسنوات أطول . )
قال أمجد باهتمام
( و لماذا لم تذكرين اسمها بأي حديث تم بيننا يوما ؟!! ..... لقد استئصلتها تماما .... و كأنك كنتِ تريدين اخفائها عن حياتك .... )
أخذ اصبعها المرتجف يلاعب حافة الكوب قبل أن تقول بخفوت مشتد ... حاد
( لأنني كنت قد تعبت ...... تعبت من ...... كونها هي .... بشخصها .... بزهوها بنفسها .... تعبت من كبريائها و احساسي بأنني نكرة بجوارها ..... لقد منحتها الكثير , أكثر مما منحته هي لي .... و لم أكن بحاجة للكلام عنها أكثر ..... )
عقد أمجد حاجبيه وهو يقول بجمود حائر
( تبدين كمن يكرهها ............ )
رفعت غدير عينيها اليه لتقول بقوة
( أنا لم أكرهها أبدا ....... لقد كانت صديقتي الوحيدة ..... لكن القدر كان له قرار آخر ..... و تقاطعت طرقنا .... )
ساد صمت مشحون .... بينما كلاهما يتأملان القطرات الصغيرة من الأمطار و التي بدأت في تبليل زجاج نافذة المقهى ....
ثم التفت اليها أمجد ليقول بهدوء
( كيف كانت ردة فعلها حين تركها خطيبها لأجلك ؟؟ ......... )
استدارت اليه تقول بحدة من بين أسنانها
( لم يتر........... )
قاطعها أمجد بمنتهى الهدوء
( كيف كانت ردة فعلها تجاهك ؟؟ .......... )
لاحظ بريق من القسوة بعينيها ..... و شفتيها تحولتا الى خطٍ مستقيم صلب ....
و كأنه يرى تحولها الى شخص آخر ......
فعقد حاجبيه ... قبل أن يذهل بمرآها و هي تبتسم فجأة ببرود لتقول
( تصرفت كما هي ..... كطبعها ....... )
قال أمجد بحذر
( صفعتك مثلا ؟!! ....... استأجرت من أصابك بعاهة ..... تسببت لكِ بفضيحة ؟!! .... )
كانت عيناها بعيدتين عنه ... ناظرتين لكوبها البارد .... و ساد صمت طويل قبل أن تقول بفتور ميت
( لا أزال أتذكر هذا اليوم و كأنه كان بالأمس ...... كنا معا أنا و أشرف في انتظارها .... و كنت أصرخ به أنه إن لم يعترف لها بحبه لي فليعتبر أنها النهاية ..... حينها وصلت و لاحظت توتر الجو من حولنا .....
تقترب منا بخيلاء ..... و ابتسامتها الواثقة تجذب نظر كل من ينظر اليها ..... ابتسامة ثقة و كأن لا أحد في هذا العالم قادر على ايذائها ..... أنفها مرفوع دائما .... و لم تقلق يوما من تقاربنا أنا و اشرف .... و كأنني أبخس من أن تعتبرني أمرأة تخشى على خطيبها مني ولو للحظة .....
لا أزال أتذكر نبرة سؤالها الهادىء و هي تنقل عينيها الباسمتين بيننا ... " ماذا بكما ؟!! هل كنتما تتشاجران ؟!! ...... " ....)
صمتت ترتجف بقوة .... أمام ناظريه و شفتيها ترتعشان .... قبل أن تقول بهدوء ميت متابعة
( حينها اندفع أشرف للمرة الأولى بحياته .... و قال دون مقدمات " مسك.... أنا أحب غديرو قد حدث هذا رغم عنا .... دون قرار منا أو نية " )
ضيق أمجد عينيه وهو يقول بخفوت
( مسك ! ........... )
أغمضت عينيها و هي تطبق على شفتيها المرتجفتين في صمت طويل ..... ثم همست بصوت مختنق
( لا أتذكر كم مر من الوقت ....... كان صمت طويل ... أخذ يخنقني ببطىء شديد منتظرة انفجارها ... انهيارها ... أي تصرف آدمي يجعلني أشفق عليها ..... الا أنها رفعت ذقنها أكثر و قالت بصوتٍ لن أنساه
" مبارك لكما ...... " ثم خلعت خاتم الخطبة ووضعته أمامنا بكل ترفع ..... )
رفعت غدير عينيها المغروقتين بالدموع الى أمجد الذي كان ينظر اليها نظرة غريبة .... بها ... بها ...
بها شيء كالإعجاب !!! ... لم تفهمها .....
لكنها همست متابعة
( لم تصرخ .... لم تبكي .... لم تذرف دمعة واحدة ..... بل حتى أنها لم تسأل كيف حدث ذلك .... ثم نهضت من مكانها بهدوء و أناقة لتغادر .... لكنها توقفت بعد خطوتين لتستدير و تعود الينا قائلة بابتسامة لن أنساها أبدا
" كدت أن أنسى ..... لقد نلتِ الوظيفة بالشركة بعد توصية أبي ..... و كنت أعدها كمفاجأة لكِ ..... " )
صمتت غدير تماما و هي تنظر الى أمجد بعينين متشوشتي الرؤية من الدموع التي تغرقهما .....
مدخرة لنفسها التفاصيل الأهم !!!! ... و التي لا داعي لذكرها ....
حين طال بهما الصمت .... قالت أخيرا بصوتٍ مرتجف
( هل عرفت الآن أن الشفقة كلمة ليست موجودة بقاموسها ....... )
ظل أمجد صامتا قليلا ... قبل أن ينهض ببطىء أمام عينيها الضائعتين ..... ثم قال بصوتٍ غريب وهو ينظر لها من علو
( عرفت أنكِ كنت مرتبطة به .... قبل حتى عملك هنا .... هذه معلومة جديدة تماما , و هذا كافٍ بالنسبة لي ..... )
نظر الى قهوته قبل أن يرفع عينين ساخرتين الي عينيها المصدومتين قائلا
( لقد بردت القهوة ...... لا نصيب لي بها ....... )
ابتعد بخطواتٍ واثقة أمام نظراتها المفجوعة ...... و قلبها الصارخ بخيانة ...
" عد أرجوك ..... " 

طائف في رحلة ابديةWhere stories live. Discover now