الفصل الرابع والاربعون

112K 2.2K 147
                                    


" سألاحق أمجد حتى آخر يوم في عمري .... حصلت على قلبه مرة و لن يكون هذا مستحيلا أن أحصل عليه مجددا .... سبق و تركك رجل و اختراني و لن يكون مستحيلا أن يتكرر الأمر ... استوعبي كلامي جيدا لأنني لن ألقيه جزافا ...."

كانت تلك الكلمات تبدو كلحنٍ رتيب , يأبى أن يغادر أذنيها ... و كأنه تعويذة سوداء ألقيت عليها , ....
رفعت مسك وجهها عن كوب الشاي الذي كانت تعده بشرود و تقلبه طويلا على الرغم من أنها لم تضع أي سكر من الأساس ...
محدقة في جدران المطبخ بصمت , بملامح باهتة .... و عينين شديدتي العمق ....
ثم لم تلبث أن همست بصوتٍ غريب
( ليذهب ..... إن أراد فليذهب , سيكون هذا هو عقابه الأفضل على الإطلاق ..... بل و سأرسل له أجمل بطاقة تهنئة بنفسي .... بخطي ... لست أنا من تحارب لإستعادة ...... رجل .... )
( هل تحدثين نفسك ؟! .... همممم ..... )
انتفضت مسك حين سمعت هذا الصوت الرجولي من خلفها و كما فعل ليلة أمس كان قد تسلل من خلفها , ليحيط خصرها بذراعيه وهو يداعب عنقها بشفتيه .....
لم تكن قد شعرت بإستيقاظه , أو دخوله حافي القدمين الى المطبخ .... فأطاحت يدها بكوب الشاي خلال إجفالها ليسقط على الأرض بجوار قدميها الحافيتين كذلك , متهشما الى شظايا ...
هتف بها أمجد محذرا بقلق
( احذري .................. )
الا أنها كانت تتحرك بعشوائية و هي تقول ببرود
( لقد أجفلتني ...... ابتعد لأنظف ال ....... )
الا أن كفي أمجد أمسكتا بكتفيها ليبعدها بالقوة وهو يقول حازما .....
( ابتعدي عن الزجاج و الشاي الساخن ..... ستؤذين قدميكِ ...... )
نظرت اليه نظرة طويلة , خالية الشعور وهو يجلسها على أحد الكراسي الطويلة ...... غافلا عن شرودها الباهت به .... بينما اهتم هو بمسح الأرض و تجميع قطع الزجاج المكسور ,......
أخذت مسك في تلك الأثناء تتأمله بنفس العينين العميقتين .... تنظر الى هاتين الذراعين اللتين ضمتاها طوال الليل الى صدره ....
كانت كلما تتذمر و تحاول الإستدارة بعيدا عنه كي تنساق الى نومٍ عميق ... كان يشدد من ضمها اليه رافضا وهو يهمس في أذنها بصوتٍ خشن شديد الخفوت
( لا ...... ستبقين هنا ........ )
حتى يئست من إصراره و تغلب النعاس عليها , لكن و قبل أن يغلبها تماما .... شعرت بأصابعه و هي تداعب شعرها حول وجهها ..... و بشفتيه تنخفضان حتى لامستا جبهتها وهو يهمس و كأنه يهمس لنفسه
" هذا الشعر يفتنني ........ كيف لحفنة من الشعر الناعم أن تأسرني بهذا الشكل ؟! .... ربما لأنه ليس مجرد شعر عادي , بل هو ........"
بعدها لا تتذكر بقية كلماته .... لأنها كانت قد ذهبت الى عالم ٍ بعيد مريح .... بعد ساعاتٍ من التوتر العصبي و النفسي .... ثم العاطفي معه ......
أما الآن و هي تنظر اليه , فكانت تشتم نفسها على النوم قبل أن تسمع ما كان يقول .......
ضيقت عينيها و هي تتأمل فكه الذي فتنت به مؤخرا ... ثم هزت رأسها و هي تسأل نفسها بغباء
" أي فك الذي تفكرين به الآن ؟! .... الرجل على وشك تركك لأجل امرأة أخرى و ها أنت تتغزلين في فكه ذي اللحية الشقراء و غمازة سخيفة !! .... "
كان أمجد قد انتهى مما يفعل , ثم استدار اليها , الا أنه توقف مكانه وهو ينظر الى ملامحها بدهشة ....
كانت حيث تركها , الا أن شكلها كان غريبا ... بأصابع قدميها الملتفة حول القضيب المستدير للكرسي الذي تجلس عليه , و ملامح وجهها العابسة المتجهمة و التي تنظر اليه كمن تريد أن تضربه بأقذر شيء تصل اليه أصابعها ....
رفع أمجد حاجبه وهو يسألها قائلا
( ترى أي طريقة تشغل بالك حاليا , كي تنتقمين بها مني ؟! ...... )
أجفلت مسك مجددا على صوته الهادىء ... الا أنها سيطرت على ملامحها و سألته بعد لحظاتٍ ببرود
( هل فعلت شيئا يستحق أن أنتقم منك لأجله ؟! .......... )
تحرك أمجد ليستند الى طاولة المطبخ أمامها وهو يكتف ذراعيه ... ينظر اليها بدقة , ثم قال أخيرا بجدية
( ربما بدئا من افسادي لتلك الأمسية العاطفية التي سبق و أعددتِها لي .... الا أنني قابلتها بقسوة .... )
شعرت مسك بشيء ما أوجع قلبها .... تلك الذكرى تؤلمها ...
من بين كل التفاهات في العالم , تظل معاملته لها تلك الليلة و الكلام الذي رماها به , كسلاحٍ حفر بها شيء لن تنساه مطلقا ....
الا انها تمكنت من الإبتسام بسخريةٍ و هي تسأله بلامبالاة قائلة
( ألا زال هذا الأمر يشغللك ؟! ........... )
لم يتراجع بسبب طريقتها الساخرة الباردة .... الا أنه أجابها مباشرة وهو ينظر الى عينيها
( لقد بكيتِ .......... )
أظلمت عينا مسك و قست ملامحها ..... الا أنها رفعت ذقنها و نظرت اليه قائلة بهدوء
( هذا يظهر لنا , الى أي حد يمكنك أن تكون فظا , عديم الأخلاق و التهذيب .... أرجو أن تكون قد سعدت بهذه الدموع التي لطالما تمنيتها ..... )
لم يرد أمجد على الفور ... الا أن بعض الشحوب طفا على ملامحه , ثم اختفى سريعا .... فقال بخفوتٍ أجش
( ليست تلك الدموع التي أتمنى رؤيتها ... سبق و أخبرتك بذلك ... )
استطاعت مسك اجبار نفسها على ارجاع رأسها للخلف لتضحك عاليا .... ضحكة تبدو ساخرة في ظاهرة , الا أنها جوفاء .... تخفي بعض الألم ....
ثم سألته بقسوة
( و تمتلك الجرأة على تصنيف دموعي ؟!! .......... الا تظن نفسك تتمادى قليلا يا حسيني ؟! ... )
أجاب سؤالها بسؤالٍ مباشر وهو يتجه اليها حتى وقف أمامها مباشرة , ليمسك بذقنها يرفع وجهها اليه
( لماذا لم تهجريني ؟!! ............ )
تصلبت ملامح مسك , و شحبت .... ثم شعرت ببرودة تسري في عمودها الفقري , قبل أن تتحول الى سخونة و تعرق .... كل هذا خلال لحظات ... كانت تجلس فيها امامه , وذقنها في كفه الدافىء ...
بينما عينيها و كأنه ربطهما به للأبد .....
عقدت مسك حاجبيها و ضحكت بعصبية .... و هزت رأسها قائلة بتوتر
( ماذا ؟! .............. )
قال أمجد دون أن يبتسم أو يتراجع
( لماذا لم تهجريني بعد ما فعلته ؟! ..... كان هذا أقل ما أتوقعه من مسك الرافعي عقابا لي على معاملتي لكِ بتلك الطريقة ...... )
بدت مسك تتنفس بسرعةٍ أكبر .... الا أنها تماسكت و سألته ببرودٍ قاسٍ
( هل هذا ما تتمناه ؟!! ........... )
رفع أمجد حاجبيه و قال بفظاظةٍ وقحة
( ربما تجيبك ليلة أمس مثلا عن سؤالك الغبي هذا ..... الآن دورك في الإجابة , لماذا لم تهجريني ؟! .... )
ظلت النظرات بينهما تتواجه في حربٍ صامتة متحدية , الى أن قالت بإختصار
( لم أعتد إعلان الفشل سريعا , لمجرد أن أحدهم تصرف بطريقة رجعيةٍ متخلفة ....... )
ارتفع حاجبي أمجد ببطىء , و لمعت عيناه , مما جعل أعماقها ترتبك و تتشابك و تتعقد .... الا أنه قال بعد فترة طويلة بصوتٍ بطىء يحمل بعض الرضا ....
( حقا !! ....... علي القول أن هذا كان منتهى الكرم منكِ حبيبتي ...... لقد ظننت بعد خروجي من البيت تلك الليلة , أنكِ ستلحقين بي و لن تعودي مطلقا ....... )
لا تعلم ما الذي هزها أكثر .....
كلمة حبيبتي التي خرجت من فمه بعفوية و كأنهما حبيبين منذ زمنٍ طويل .... أم تلك النبرة في صوته و كأنه يحدد شيء ما , هي ترفض الإعتراف به ...
أرادت الصراخ به كي لا يتأمل كثيرا ..... الا أن الكلمات وقفت في حلقها و رفضت الخروج بينما هي تنظر اليه ... وهو ينظر اليها , قبل أن يهز رأسه قائلا بصوتٍ متأوه
( ياللهي .... كم سأشتاق اليك !! ....... )
ضربتها العبارة المبحوحة في مقتل ... للحظات شعرت بأنها تهتز و تكاد أن تسقط من فوق الكرسي المرتفع ...
لكنها أمسكت بحافتي المقعد تحت ساقيها و هي تنظر اليه بنظراتٍ لا معنى لها , ثم سألته بنبرة مبهمة
( س .... تشتاق الي ؟!! .......... )
أومأ أمجد برأسه قبل أن يترك وجهها قبل أن يمسك بخصرها يسحبها اليه حتى أوقفها على قدميها ثم ضمها بشدةٍ متأوها بصوتٍ متشدق مداعب حتى رفعها عن الأرض وهو يقول بصوتٍ مدفون في عنقها
( كيف لي أن أتركك بهذه السرعة ؟! ......... )
اتسعت عينا مسك و هي تتشبث بذراعيه المحيطتين بها و هي تشعر بالعالم يدور من حولها
بماذا يهذي ؟! ..... كيف ... و لماذا ..... هل ...
هناك شيء خاطىء .... لذا أبعدت وجهها عنه و نظرت اليه طويلا قبل أن تسأله بصوتٍ مهتز النبرات
( لست ...... لست أفهم ......... )
تنهد أمجد بصوتٍ قاتم وهو ينظر الى عينيها دون أن ينزلها أرضا ... بل ظلت معلقة بين ذراعيه ....
ثم قال بصوتٍ ثقيل آسف
( أنا مضطر للسفر لمدة أسبوع ...... مهمة تخص العمل , ..... )
رمشت مسك بعينيها و هي تفلت نفسا مضطربا من بين شفتيها الباهتتين ... بينما بقت ملامحها على نفس الثبات و الهدوء .... و ما أن وجدت صوتها حتى قالت بخفوت و هي ترفع شعرها عن عينيها بحركةٍ واهية
( لم تخبرني عن تلك السفرة من قبل ! ....... )
أنزلها أمجد أرضا ... الا أنه أبقاها بين ذراعيه , ثم قال بصوتٍ أجش
( الأيام الأخيرة كانت مرتبكة بيننا ... الكثير من الأحداث و المشاكل , لم أرد أن تظني بأنني سأبتعد بسبب غضبي منكِ ..... لذا انتظرت الى أن تحل المشكلة بيننا ... )
كانت مسك تنظر الى ملامحه القريبة منها و هي تحاول استيعاب كلامه ... مع تلك النبضات المضطربة التي اختلت فجأة منذ لحظات .... الا أنها تمكنت من القول بنبرة غريبة
( و هل حُلت المشكلة بيننا ؟! .......... )
بادلها النظر بدقة , ثم سألها بجدية قائلا
( أنتِ أخبريني ............. )
ساد الصمت بينهما و كل منهما ينظر الى الآخر .... و خلال تلك اللحظات الغريبة , ضربتها الحقيقة الصادمة ...
لقد نست أشرف تماما خلال الساعات الماضية .... نست تشفيها منه , و نظراته المراقبة المتحسرة لها عن بعد .... بدا و كأنه قد تبخر تماما من ذاكرتها , .... بعد اتصال غدير ....
تبخر خلافها مع أمجد , و تبخر أشرف بوجوده الباهت و بقت عبارتها .......

طائف في رحلة ابديةWhere stories live. Discover now