تعاويذ القدر

9.6K 490 287
                                    

اجاب دون تردُّد:
- لأنّ هذا حقّكِ، انتِ لم تسرقيه، أعلمُ تمامًا انّ ابي هو السبب بكُلّ ما تُعانيه من صِعاب وانا ايضًا اشتركتُ بجريمته عندما وافقتهُ بالتخلّي عنكُم، وقد إستحقّ ما فعلتيه به وبي، هذه الشرِكة هي اساس العائلة وبإمتلاككِ لها ستستطيعين السيطرة على السوق وإنشاء إسمكِ الخاص، هذا زيادةً على الميراث الشرعي الذي سينال اوس اكثره.

أشاحت ببصرها عنهُ ليُضيف ويداهُ تحتضِن يداها:
- لم افعل هذا طلبًا للغُفران فعِقابي لن يزول وإن سامحتِنِي؛ يكفي انّ صورة والدتكِ -وهي تترجّاني بعدم تركِها- تنخُرُ بذاكِرتي لتعيش على فتات روحي، انا لا اُريدُ مِنكِ سوى الإستِماع إليّ، ولكن ليس الآن، انتِ بحاجة للراحة.

نهض لتشعُر بالفراغ بين يديها وعيناها ترصدان تحرُكاته، لم تستطِع الأيام سلبهُ قامته المهيبة، ولا تِلك الجاذِبيّة الفطريّة إلاّ ان عيناهُ هي ما اكل عليها الدهرُ وشرِب، بلمعتهما الرماديّة المُميّزة إتشح الحُزُن وكأنّهُ يلتحِف من مشاعِر اكثر ألمًا وأقسى تحمُلا. شعره القصير تناثرت خُصلاته الفضيّة بعشوائيةٍ مُغرية وقد بدى جليًّا كيف كان وسيمًا بشبابه كما هو الآن، وان تلك الخمسة وخمسون سنةً لم تنجح بإزالة هالة الملاحة التي تُحيطُ به، ولم تستغرِب كيف لوالدتها الخجولة ان تقع على وجهها في حُبّ هذا الرجُل.

اعاد نظره إليها لتهرُب من عينيه كعادتها، الى ان شعرت بقُماشة الثوب القُطنيّ الزهريّ الباهِت توضع بجانبها وهو يهمِسُ بإبتِسامة:
- إرتدي هذا، سيُناسِبكِ بالتأكيد؛ فقد كان الثوب المُفضّل لوالدتكِ.

مرّت انامِلها على قُماشته الناعِمة وقرّبتهُ لأنفها مُستنشِقة رائحة ورد الليمون الذي إختلط مع شذى انفاس والدتها، فسقطت دمعتان من عينيها ليقترِب منها مُربّتًا على خُصلاتها المُتهدّلة على وجنتيها النديّتين ليقول بشرودٍ حزين:
- لا أعلمُ إن كانت رائحتها عالِقة بثوبها طوال هذه السنين ام انّني أتوهّم.

رفعت وجهها إليه وهمست بعينان مُحمرّتان:
- لماذا تركتها إن كُنتَ تُحبّها إلى هذه الدرجة؟
زفر بضيق ونظرته النادِمة ببريقها الصادِق تجتاح اسوار قلبها الهشّ دون مُقاومة وقال بعد صمتٍ قصير:
- تركتها لذات السبب الذي ستترُكين كِنان لأجله.

اغمضت عيناها بإنهاك وقلبها يخفِقُ برُعب من مُجرّد التفكير بترك كِنان إلاّ انّ والدها اجبر نفسهُ على المواصلة قائلًا بحُزنٍ مرير:
- كانت والِدتكِ صبّارًا بأرضٍ قاحِلة، ولم أكُن سوى بذرة أرزٍ مُخضّبٍ بالطمي، وكان من المُستحيل ان تُقلتَلع جذور أحدٍ مِنّا ليُلقى مع الآخر.

او كان هذا ما ظننتهُ وانا أُبرّرُ أسباب إنفِصالنا مُتمنّيًّا ان يُخفّف هذا الحديثُ من حُرقة فؤادي ولكن للأسف ذكرياتي معكُم لم تُبارِح صحوي ومنامي وكأنّها تحالفت ضدّ ثباتي لتُجرّعني مرارة -الندم- الشيء الوحيد الذي آمنتُ به بعد فُراق والِدتكِ.

سُكّر غامِقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن