الفصلُ الأول

2.6K 61 64
                                    

كعادتي في خريفِ تشرين أتكِئُ على مقعَدٍ خشبيّ،  تحيطُ بيّ أمواجُ البحرِ المُتلاطِم، كان هادئاً على غيرِ عادة، أتأملُ غروب الشمسِ بأفكارٍ هائجة، لم أُلقِ بالاً في حياتي لِما سيحدثُ بين أياميّ ..
.

إعتدتُ أن أعيش يومي مستمتعاً بكلِ الساعاتِ والدقائق و حتى الثوانِ، لم أترُك قلبي طريحَ فِراشِ الهموم، إعتدتُ على إعطائه جُرعاتٍ من كوكايين الحياة، بعضاً من كِلا جانبيّ الحياة، لم أجعلهُ يوماً ينظرُ بإتجاه جانبٍ واحد.. إعتدتُ على تقليب صفحات عُمري بين لونين لا ثالِثاً لهُما..
تارةً في نعيم لونٍ أبيض، و آخر في جحيمٍ أسود..
.

حتى أصبحتُ مُعتاداً زهيداً غيرَ مُكترثٍ بمشاكلِ و همومِ الحياة.. رُغمَ أنّي في نهايةَ عَقديَّ الثالث إلا أن حياتي لا تزال خاليةً من أي حواجزَ و مسؤوليات.. أعقلُ من أن أكونَ مُحتفظاً بطيشِ الشباب، وأصغرُ من أن أُنجيبَ جيلاً يحفظُني من متاع المَشيخ حينَ الكِبر..
.

المالُ و البنون، زِينةَ النِساء و بهرجتهنّ، لم أكترث يوم لهذا الجانب الدنيوي و لم أكن ذلك الرزين المُحافظ..
.

أعلمُ بأنّ من حوليّ دائمونَ الظن بيّ، إلا أنني رجلٌ يسيرُ مُتكأً بظل جُدرانِ الشوارع، شوارعُ مليئةً بالأسرار، شوارعٌ لا تنام، شوارعُ مدينةِ " لندن "، كنتُ محظوظاً كِفاية للعيشِ في هذه المدينة بعد أن تركتُ ماضي مسجوناً في جدرانِ الذاكره...
.

أرخيتُ رأسيّ على المقعد، وقلتُ مُعتذراً لِما أمامي:
- آسفٌ يا سماء فبحرُكِ هادئٌ و مُحيطُ عقليّ عاصف، فعذريني فقد فاتني تألقُكَ بشفقِ المساء..
نهض من مِقعده خاراً من قِواه، مُستنزفُ الأفكار..
قادته قدماه نحوَ مقعدٍ آخر لإنتظار حافلته فقد حانَ وقتُ الإنصراف..
.

امضى ليلةً هادئة مقلباً أنظاره بين كلماتٍ محجوزةٍ في سطورِ مخفيةً على الورق، غفى غيرَ مُدركٍ بأن ساعات الليلِ قد شارفت على الإنتهاء..
.

أستيقظ في الصباح بكسلٍ مُعتاد، يكرهُ أيام دوامِه كبروفِسورٍ جامعيّ، بدل ملابسه في عجل، حشرَ بعض من الأوراقِ الأبحاث المرصودةِ بالعلامات في حقيبةِ يده بينما يرتشفُ ما بقيَّ من قهوةِ صباحه، مُستعيداً من خِلالها على قِواه...
.

سرحَ خُصلاتِ شعره قبل أن يغادر منزله راكضاً إلى موقِف الحافلة قبل أن تفوته، إستطاع إيقافها قبل أن تمضي في درب عملها المعتاد، جلس في مقعدٍ مُطلٍ على سيدةٍ طاعنةٍ في سِنها..
.

رتب الأوراقَ جيداً ومن ثَم أغلقَ الحقيبة مُجدداً، دقائقُ وقد إمتلئت الحافلةُ برُكابِها، تصاعد أنفاسِهم المتخالطة جعله يتمنى إستعادةَ سيارتِه بأسرع وقت...
.

ينتقِلُ ببصره بين ملامِحِ الأشخاص، كل تفاصيلهم تحكي عن بدايات يومهم، فمنهم من هو غارقٌ في أوهامِه مبتسمٌ كالأبله، وآخر ينظرُ إلى الساعة في مِعصمه بين الفينةِ والأخرى، وهنالك فتاة تُبحلق على شاشةِ هاتفها بينما تضعُ السمعات في أُذنيها..
.

- يبتسم بسببِ حُبٍ أسعدهُ هذا النهار . . يبدو بأنه ينتظر مولوداً قد أتى فجأةً . . لابُد من أن فنانها المُفضل أطلق ألبُومه الجديد ...
تحدثت السيدةُ بجانبه بصوتٍ لا يسمعُه غيرهُ و سِواها..
- أما أنا فأرى خِلافِك ..
إسترسل قوله لتنظُر إليه..
أشاحت ببصرها عنه بعد لحظةٍ مضت سائلةً إياه الشرح..
قال وهو يعيدُ إلقاء نظرة على كلِ واحِدٍ منهم ..
- أما عنه فيبتسم لأنه يفكرُ بردةٍ فعلٍ تخيلها لمن يُمسك ما في يده لأجلها
أشار بعينيه نحو الصندوقِ في يده لتنظُر إليه بدورها وقد بدأت إبتسامتُها تصغر..
أكمل..
- وبالنسبةِ للمُحدقِ في ساعةِ يده فهو بالطبع قد تأخر عن إجتماعِ عمل..
أشار بعينيه مجدداً نحو الأوراق البارزة من حقيبته..
نظر إليها وقد إجتاحت وجهه إبتسامةُ نصر..
أردفت بدورها مُتسائلةً عن أمرِ الفتاة..
- أوه تلك .. هه لم أستطع فهم ما تفعله لذا أتفقُ معكِ على أنها سعيدةٌ بألبومِ فنانها..
أنهى حديثه رافعاً كتفاه دليلاً لعدم معرفته..
.

توقفت الحافلة وقد كان وقت المُغادرة، إستقامَ واقِفاً جاراً قدماه نحو الخروج..
-  And you seem like you lost the paths of life
« وأنت يبدو بأنكَ أضعتَ دروبَ الحياة »

قالتها بصوتٍ هامس لم تلتقطهُ أذناه حين نظر إليها وقد همَّ بالرحيل بعيداً عن موقف الحافلة لتنطلق مُكملةً من دونِه..
.

تقدمَ بخطواتِه مُلقياً التحية على الطلاب المتطوعين لمساعدة عُمالِ النظافةِ في جمعِ أوراقِ الخريف المُتناثِرة، تخطاهُم بعد جولةٍ من السؤالِ عن الحالِ و آخرِ الأخبار مُتجها إلى مكتبه داخِلَ المبنى..
.

يسيرُ بين الطلابِ غيرَ مُكترثٍ بهمساتِهم عنه، مبتسِم الوجه ثابتَ الخُطى..
أخيراً أرخى جسده على مِقعَده المُريح..
- في الوقت..
قالها مُحدثاً نفسه..
.

وضع حقيبته وأخرج منها بحوث الطلاب، فتح كمبيوتره كي يقوم بحفظ بعض المُستندات التي قام بتعديلها في الآونة الأخيرة ولكن عيناه رأت فجأة ورقة مطوية مكتوبٌ عليها حروفُ أسمه بخطٍ غجري مائل 
« Mr. Janelle » ..
تفوحُ منها رائحةُ عطرٍ إنثويةٍ قوية 
تنهد بمللٍ من هذا الطُرق المستفِزه، إلتقطها وألقى بها في حاوية المهملات بجانبه..
.

إنتهى من العمل وتنظيم مستندات الطلاب ، قرر بعدها التوجه إلى محاضرته قبل أن يتأخر عنها أكثر..
.

يسيرُ في الرُدهةِ حاشراً جسده بين أفواجَ الطلاب دائمون الحِراك، أخيراً وصل إلى قاعة مُحاضرته، ألقى نظرةً سريعة على الساعةِ في معصمه، تنفسه مُدخِلاً المزيدَ من الأكسجين إلى رئتيه، خطى للأمام داخلاً بعد أن إرتسمت على محياه إبتسامةُ برودٍ ساحرة...
.

صمت الجميع حينَ دخول ذلك الرجل، رجلٌ تفيضُ منه علاماتُ الرجولة، ذا تقاسيم قاسية، هِرْطَالُ الجسد، ذا هيبةٍ صارخة، أنيقُ أَسر قلوبَ الكثيرات دون أن تهِزهُ إحداهن، رجلٌ تفيضُ ملامِحُه عروبةً و أصالة، حينَ يتحدث يتمنى العديد بألا ينتهي، رغم غيرةَ بعض الطُلابِ منه إلا أنهم لا ينكرون ذلك الإحترام الذي يُبديهِ للجميع.. صوتُه هادئٌ عميق؛ يتساءلون الكثير ممّن سمعوه يُلقي الشِعر ما إن كان أتَ من غيرِ عصر..
.

- Professor! « !بروفيسور »
صوتٌ ما قاطعهُ قبلَ أن يُلقِ التحية..
نظر إلى صاحب الصوت رافِعاً إحدى حاجبيه مُتعجباً..
أردفَ قائلاً بـ ...
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
_________________________________________
...يُتبع

بُحيرةٌ مُختلفةٌ ذات ألوان تتوسطوها دوامةٌ تبتلعُ كل ما يُضيء..
فما هي؟!

| حينَ يختفي الشفق | { مُكتَمِلة } ✔Donde viven las historias. Descúbrelo ahora