الفصلُ السابع

236 16 18
                                    

ظلت تُلاعِب الفتاة وتتعمدُ إصدار الضجيج حوله، ولكنه بقيَّ لا مُبالٍ باردٌ مُتجاهِل، شعرت بدمائها تتصاعد، لم يُعاملها من قبل أيُ أحدٍ بهذا الأسلوب المستفز..
.

تساءلت في ذاتها للحظة..
- لمَ أنا ثائرة! .. وكأنني أهتمُ لأمره أو شيءٌ من هذا القبيل.. لا لا!! مُستحيل..!
وقفت فجأة، ضربت الطاولةَ بيديّها محاولةً جذب إنتباهه..
صرخت فيه قائلةً:..
- ماذا الآن!؟
رفع عيناه نحوها، بدت لهُ ثائرةً هائجة، إتكأ على مقعده وقال بهدوءٍ بارد:
- ما بكِ يا فتاة!؟
- لا شيء
قالتها ومن ثَم غادرت من أمامه ومن المقهى كاملاً..
لأولِ مرةٍ في حياته يحصلُ هذا معه، هل تلومهُ على عدم مبالاتِه بها!؟.. بدا له الأمرَ سخيفاً برُمتِه..
.

- ماذا يحصلُ معها؟!
سألتهُ الجميلة ذاتَ عيونِ القمر..
- لا عِلمَ ليّ!..
قالها مُحتاراً مُتسائلاً...
نظرَ إليها وطرحَ سؤاله..
- منذُ متى وأنتِ هنا؟!
إبتسمت له وأردفت..
- منذُ أن كنتَ مستمتعاً في غوصِك..
- حسناً..
نظرَ خارجاً وأكمل:..
- توقفَ هُطول المطر..
تلألأت عيناها بسعادةٍ وقالت له:...
- إذاً ما رأيُكَ برؤيةِ قوس المطر من تلك التلة؟!
قطبَ حاجبيه بينما يفكرُ بعمق:
- الطريقُ من هُنا إليها طويل.. حينَ نصل لربما يكون قد تلاشى..
- ربما ولكني سأذهب إن أردتَ البقاء..
تركتُه الأخرى وغادرت المقهى بدورِها باحثةً عن جمالِ قوسِ المطر..
.

أمضى قليلاً من الوقت في التفكير، نهض من على المقعد، دفع حسابه وغادر..
عائداً إلى منزله مشياً على الخُطى، كان الأفكارُ تُراقصُ كيانه، يُحدثُ نفسه عن تلك الصغيرة ويتساءل عن أمرها.. كلغزٍ لاحَ له في الأرجاء..
.

مضى والطريق، أنستهُ الأفكارُ المتشابكة زمن الخُطى، يفتحُ بابَ منزلِه ويدخل إليه بمللٍ كالعادة، توجه نحو مكتبته الصغيرة، حيثُ تضجُ بالعديد من الكُتب المكدسة، كان قد وعدَ الرفوف بتنظيفها ولكنه نسيّ أو بالأحرى تناسى وماطل المهمة..
.

توقفَ لحظاً مُتأملاً تلكَ القطرات المتجمةُ على نافذته، تساءل في ذاته عنها:
- أتُراها وحيدةً تُراقِبُ الألوان أم أنها عادت إلى مأوها حيثُ الأمان..
بدونِ أن يُدرك بدأت الأفكارُ تعصفُ به..
وضعته في قلبِ عاصفةٍ هوجاء بين عُرضِ البحر، وكأنه ظمأ لرؤيتها كتائةٍ في وسطِ البيداء عيناه تترجى حنانَ عطاءِ السماء..
.

غادرَ المنزل بطغيانِ أفكار، حاضرُ الوجودِ غائبُ الإدراك، يسرعُ في خُطاه نحو تلةٍ قبلَ حلولٍ ظلامِ المساء..
.

إنقياضٌ إنبساط عضلةُ قلبه تضخُ الدماءَ بلا حِساب، عيناهُ تبحثانِ وتبحثان، وصل هناك إليه، مُتربعةٌ مُتأمله، إستدارت بأنظارِها إليه، أشارت لهُ بيدها داعيةً له الجلوس، توجهَ إليها جلسَ بجانِبها، كانَ يراقبُ الغروب وفؤادهُ مستريح، تساءل في ذاتهِ بعتب عن حيرةٍ أخسرتُه فصاحةُ الرد:
- لمَ كنتُ كاحمقٍ قلق!؟..
قاطعة تفيكره صوتها المُتسائل:
- غريبٌ كيف جئت إليّ؟!
- لم أتي إليكِ ولكنِ إشتقتُ الغروب..
قالها مُستنكِراً أفعاله..
- هل لحقتِ بقوسِ المطر!؟
إنطلقت منها تنهيدةٌ طويلة دون أي رد..
- آه حسناً علمتُ بأن ذلك سيحصل..
إبتسامةُ مكر إعتلت وجهه..
- وكأنكَ أتيتَ لتسخر..
قالتها ماحيةً إياها من عليه..
- كما قلتُ سابقاً أتيتُ للغروب
أزاح عيناهُ عنها وألصقها بذلك الشفق..
- إذاً راقب بصمت..
كان فؤادها يحترق حينَ أدرك ماهيةَ وجودِه..
.

  يالَّ خجلِ المساء ..
  كإمرأةٍ تغنى بها أعظمُ الشعراء ..
  فاتنةٌ أنتِ بإحمرارك ..
  جميلةٌ حينَ تخجلين ..
  آسرةٌ أنتِ يا سماء ..
  وكأنكِ عُريتِ من شمسٍ ساترة ..
  تستقبلينَ القمر ببهائك ..
  جميلةٌ أنتِ يا سماء ..

.

دقائقٌ مرت، إختفى فيها خجلُ المساء، ألقيتُ إليه بنظرةٍ فاحصة قبل أن أُبادرَ بالرحيل، شعرتُ أنه غائص بأفكاره لم أُرد تشتيتها عليه، سريتُ بضعَ خطواتٍ دونَ عِلمه، ولكنَ قدمايَّ توقفتا عن الحِراك حينَ أمسكَ بطرفِ ثوبي ومنعني عن المُضي، سألتُه وعلاماتُ الإستفهامِ تعلوني:
- ما أنتَ بفاعل؟! دعني أمضي في خُطاي..
وقف بجانبي وقد بدا بالنسبة إلى حجمي كعملاقٍ أتى من وراءِ الجبال.. فارعُ الطول!
ركع جاثياً على ركبتيه ليُظاهيني بطوله تحدثَ إليّ بعد أن إستنشقَ كماً هائلاً من الهواء وكأنه حبسه بين ضلوعِه.. قال وقد تلألأت عيناه:
- رائحتُكِ كلوطن.. وكأنكِ سرقتِ عبقه وتعطرتِ به، كقطرةٍ هبطت من غيومٍ رمادية..
.

نظرتُ إليه بعمق وتحدثتُ بعد لحظات مرت..
- ألا ترى بأن الحروب رماديةٌ كغيمٍ السماء .. ما أنا إلا بقايا دموعٍ ثقيلة.. مثلي لا يُعدُ وجوده .. وكأني أتيتُ من العدم ولازلتُ فيه.. إنها مُعضلةُ القدر..
تنهد بعد أن إستقرت كلماتي في رأسه وبدا أنها إستوطنته..
- تعلمينَ جيداً بأن دموع السماء تأتي بعدها إبتسامةٌ مليئةٌ بالألوان..
إبتسمَ إليها بدوره وكأنه يذكرها بتلكَ الإشراقة في المقهى قبلَ الخروج..
- تُحسِنُ في إصابةِ أهدافكِ.. تمتلكُ لسنانً رطباً بالمصطلحات..
عقدتُ ذراعيّ بصدري مُدعيةً بعض الغضب..
- على الأقل إستفدتُ من مكتبتي..
- أُراهِن أنها غيرُ مرتبة..
نظرتُ إليه محاولةً قراءة تعابير وجهه..
تحمحمَ قليلاً وكأنه يعترف بأنني أصبتُ قلبَ الهدف، بدا لي بأنه يحاولُ إيجادَ عُذرٍ لائق.. تحدثتُ إليه قبل أن يبدأ بإختلاق كلماتِ الأعذار..
- إختلق عُذراً وسينطبق عليكَ المثلُ الشائع
" عذرٌ أقبحُ من ذنب "
وضعت يده خلف مؤخرةَ رأسه وقالَ مُعترفاً:
- تكاسلتُ عن ذلك .. فهناك العديدُ من الكتب..
قطبتُ حاجبايَّ وقلتُ في عِتاب:
- وأنتَ تُكدسها فوق بعضها .. لا أظن بأن حالَ مكتبتِك يثبتُ بأنها مكتبة .. أظنها تبدو كمستودعٍ قديم، لرُبما هناك بعض الجرذان قرضت بعض أوراقِ الكتُب، أو ربما أسوأ من ذلك، لعلَّ النملَ الأبيض قد إتخذَ منها منزلاً دائماً بعد أن علِمَ كسل مالكِها، لابُد من أنها الآن سعيدةٌ بذلك الكتاب الجديد، أظنك دائمُ الإطعامِ لها .. مسكينةٌ تلك الكُتب، أشفقُ عليها حقاً، كان الأحرى بك أن تتبرع بها لمن يُيردها، تعلم هناك العديدُ من الأطفال يتمنونَ إقتناء كتابٍ واحد.. فقط واحد.. وأنت تُكدسها والغبار.. يالّكَ من مالكٍ جيد، تُحافظ عليها بأفضلِ طريقٍ مُمكنة..
عبِستُ إليه في نهايةِ حديثي بدا حقاً وكأنه تأثير بما قُلته، عليَّ أن أحتفيَّ بنصريَّ العظيم!
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
_________________________________________
...يُتبع

| حينَ يختفي الشفق | { مُكتَمِلة } ✔Where stories live. Discover now