الفصلُ الرابع

464 22 82
                                    

إنتصفَ النهار، بدأ تعالي ضجيجُ الطلاب، الكلُ جائعٌ عداه، يشعرُ بملل ويفكر في سيارته، أراد معرفة ما إن تعافت أم لا تزال...
.

تنصلَ من مكتبه، سار مبتعداً عن جمهرةِ حشودِ الطلاب الجائعة، عبرَ من بينهم دونَ أن يعرفوه، توجه إليها، قاد مبتعداً عن مكانِ الجميع، توجه إلى حيثُ تختفي الأصوات، إلى حيثُ الصمتُ الهادئ..
.
نزلَ من عليها، في مكانٍ لا توجدُ فيه أنفاسٌ سوى أنفاسِه، إفترشَ الأرضَ مُريحاً عليها تعب كاهِليّه، ينظرُ إلى السماء المتلبدة، يرى كيف تتسلل أشعة الشمس نافذةً من خلالها وكأنها تُلوحُ له..
.

أغمضَ عينيه وبدأ في إستنشاقِ عذوبِةِ الهواء..
- أشتمُ رائحةَ المطر! . . أتُراها ستمطر؟!
تساءلَ في ذاتِه بعد أن شعر بأن رائحةَ الرطوبة تُخالِطُ الهواء، وكأن التُربة بدأت تُطلقُ عبقها..
غفى دونَ عِلم، شعر بأنه واقعٌ في حضنٍ دافئ، وكأن الأمان عانقه دونَ البقية، إستسلمَ لذلك الشعور، كان مُحتاجاً إلى عاطفةٍ فائضة تحتويه، لأولِ مرة تيقن بأنه حصل على ما يريد.. إكتفى بالإستمتاع وغابَ في أعماقِ سراب النوم..
.

بدأت البرودة تتسلل إليه، يحاول إيجاد لحافٍ يغطيه، متقلباً بين حشائش مبللةٍ رطبة، فتح عيناه، إلتقت به السماء، كانت حمراء رمادية، إستقامَ جالساً ينظرُ إلى ساعةِ يده، تأخر الوقت، إنتهى النهار وهو فاقدٌ يومه، كانت الصدمة تأكلُ خلاياه، نفض عن نفسه غبار الذنب، أقنع نفسه بحاجته للراحةِ ممن حوله، أو بالأحرى من نفسه فلا أحد يُحيطُ به..
.

نهض من مكانه، عاد في دربه إلى المنزل، صلى في منزله فقد فاتته صلوات النهار، شعرَ بأنه لا يستطيع البقاء فيه، إرتدى ملابساً مُريحة، أخرجَ دراجته من القبو، قرر أن يمدد جسده قليلاً مبتعداً عن اجواء الملل..
.

يقودها في الطريق غيرَ عالمٍ أينَ سيصل، كانت أفكاره مضطربة تُحدثهُ بما كان يقنعه صديقه، لقد تمكنت منه الوحدة، توقف في منتصف الطريق فجأة، نفض عنه تلك الأفكار المزعجة، قرر أن يعود سيراً ودراجته إلى المنزل..
.

كانَ الباب على مَرءاً من عينيّه، لم يُرد الدخول، لم يعلم ماذا سيفعل إن دخل، إضجع جالساً على الرصيف أمام منزله، ينظر إلى ما حوله بشرود، إرتفعت عينيّه إلى السماء، كانت الغيوم شبه منسحبة، قليلٌ من النجومِ تظهر، وهلالٌ جميلٌ من القمر، إبتسم على لوحةِ السماء..
.

شعرَ بأحدهم يهزُ كتفه، نظر إلى جانبه، رأى طفلةً صغيرة بجانبه، تحدثت إليه قائلةً:
- أتُحبُ الليل!؟..
كان صوتها رقيقٌ جداً لدرجةٍ جعلته يتساءل من أين هبطت عليه..
- لا، لأنه طويلٌ ومرهق..
أجابها بعد لحظةِ صمت قصيرة..
جلست بجانبه، بدأت ترسم على الأرض، نجومٌ متناثرة، الكثيرُ من النجوم.. سألتُها بفضول..
- أينَ القمر!؟
رفعت رأسها ناظرةُ إليه بإبتسامة.. إستقامت واقفة، إبتعدت عنهُ بهدوء سارت في طريقها إلى أن إختفت في سراب الليل..
فكرَ في غرابةِ أمرها...
- فتاةٌ غريبة..
.

نظر مُتأملاً لوحتها، الكثيرُ من النجوم هنا وهناك، نهض متوجهاً إلى داخل منزله بعد أن وجد بأن الأمر داخله وخارجه سواء، أضاء الأنوار حوله، إرتمى على الأريكة بفوضوية، راحت أفكاره تُداعِبُ ذكرى رائحةُ المطر في ذلك المكان، يفكرُ في كمِ المشاعر المريحة التي إجتاحتُه حينها، الأمر أراحه كثيراً، لأولِ مرةٍ منذ زمن شعر بأنه في الوطن..
.

تذكر كيف كان يلهو في الشارع مع أقرانه، كيف كان يحبُ الرسمَ على الجدران المُتهالكة في بلدته، كيف أن المكان رغم إنعدام أمانه إلا أنه أعطاه الكثيرَ من المتاع ليحيى على ذكراها، متاعٌ ثقيلة إمتلأت بها روحه، تلك الروح التي تفيض بعبقِ عروبتها المُندثر، كان أمره في بناء عالمٍ آمن هو حلمه، ولكنه الآن يحتفظ بذكرى سنينه في عالم روحه المنغلق..
.

فلم تعد عبق الأصالة تُحيط ما حوله، كان شخص يعيش حياة أقل من خطوط التواضع، إن كان يعثر على قوتِ النهار يحمد الله على ذلك فقلما  كان الطعام متاحٌ حوله، كماضٍ أليم إلا أنه سعيدٌ بما عاشه فتجاربه جعلت عوده يقوى أكثر ويكون مستعداً للمضي بين خير الناس و أشرهم..
.

نهض من  تلك الأريكة، إتجه إلى فراشِ المنام بعد أن قامَ بروتينٍ معتاد، إندثر أسفل لحافه، أغمضَ عينيه بشدة باحثاً عن حافلةِ عالمِ الأحلام، رغم السكون حوله إلا أن ضجيج عقله صاخب، شعر بأن الصداع يفتكُ به، تناول حبة مهدئ، إسترخى ناظراً إلى سقف حجرته..
.

كان الأرقُ ملازماً له، إستقام جالساً وقد أسند ظهره إلى الحائط خلفه، أخرجَ دفتراً كاد أن ينسى بأنه يمتلكه، حمل القلم، بدأ يخط بعضَ الكلمات المتناثر علها تُريحه...
بكَ يا زمن..
قد عدتُ إلى حيثُ الألم..
أحيى في عالمٍ نبضَ من بينِ العدم...
بين وحيٍ وقلم، رسمتُ بقايا عَلم..
علمٌ إحتواني..
علمٌ أواني..
علمٌ رباني..
في لحظةِ هجرٍ تركته..
تركتُه نازفاً مُحترقاً..
قد قادتني سفينةُ الحياة..
أبعدتني عن سُقمِ الألم..
عشتُ وبقيتَ عني..
فقدتُ الأمن والوطن..
..
دمعت عيناه، شعر بنزيف قلبه، ضخ عقله ذكرياتٌ من الألم، أعقابُ حربٍ ملأت دنياه بدخانٍ من صواريخٍ وقنابلَ متفرقه.. بدأ الحنين يطوقه، كيفَ إستطاع شطبَ ونكرانَ الزمن، تحولت دنياه، كان شرطُ حياته النسيان، ولكن الليل لا يتركه، قد يهلكه النهار بأعماله ولكنَ الليل يسردُ عليه ذنباً يحتاجُ منه غفرانٌ لا ينتهي...
.

بينَ مدٍ وجز، في عاصفةٍ من الذكريات، أمطرت عليه الدموع، غفى بعد حربٍ من أحزانِ الواقع، أختار أن يبقى بعيداً، يبقى إلى حيثُ النجاة، لم ينسَ ذكرى عتيقةٍ مثقلة.. فهو مشيعُ الجنائز في مقابر الوطن.. وأسفل كل صخرةٍ من قبور الحياة ماتت ذكرى وعاش مهزلتها في دنياه.. فذكرى الوطن لا تموت وإن دُفنت، كلٌ يعلمُ إنتمائه وإن طالَ الإنكار سيعودُ معترفاً..
.

هكذا غفى حُطام ذكرياتِه المائل في عقله الباطن...
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
_________________________________________
...يُتبع

| حينَ يختفي الشفق | { مُكتَمِلة } ✔Nơi câu chuyện tồn tại. Hãy khám phá bây giờ