الفصلُ العاشر

195 15 17
                                    

أستلقيتُ على سريريّ مُثقلاً بسؤالٍ دوخَ أفكاري و أسقمَ جسديّ، مرَ عليّ الليلُ كدهرٍ مليءٍ بالسنين، دقائقٌ كالعُمرٍ مديد..
.

أمضيتُ ثلاثةَ أيام أترددُ على التلة، أُراقب إختفاء الشفق وحيداً، بقيتُ كصرصورِ يعزفُ لحن وحدةِ الليل، أُنادي وأنادي وما مِن مُستجيب، فقدت التلةُ دِفئها، وكأنها كانت تُطفيّ سِحراً عليها..
.

إلهي! حينَ أُصارحُ نفسيّ فـأنا حقاً لا آتي إلى هُنا إلا لأراها.. جمالُها كـبريقِ النجوم، عيناها كـقمرٍ مُكتملٍ ببدره،..
.

أمضيتُ ما بقيَّ من عُطلتي حبيسَ الفِراش، أخرجُ منه لـحاجةٍ و أعودُ لـحضنِه حينَ الفراغ، فراغٌ إستوطن صدري، شتانَ بينَ ماضي أيامي و حاضر ما أعيش، كنتُ أظن بأن تجارِب الألم قد خَطَتْ حروفها الأخيرةَ في سطورِ حياتي، ألا إنَّ القدرُ مُلاعب، فجأةً أكونُ بعيداً عن إعصاره وفي ومضت أسكنُ قلبه العاصف.. يالَّـها من حياة!
.

عدتُ إلى دواميّ عليلَ النفس ضائجَ الفِكر، أقفُ في محاضراتي وألقيّ بكلماتٍ فارغة، كلماتٍ تشقُ طريقها للخروج دون أمريّ، ألاحظَ الجميعُ ما بيّ؟!، هل أبدو مرهقاً؟!.. أسئلةً لاحت في خاطري حينَ إستوقفني الشاب_ سُهيل _ كانت ملامح القلق باديةً عليه..
.

- هل هناك خطبٌ ما؟!
سأل وهو يدققُ ببصره عليّ
- لا .. لا! لا عليك..
جملةُ واحِدة ألقيتُها وخطوت عنه مُبتعِداً..
.

- لم يكن طبيعياً، الشحوبُ بادٍ عليه، عيناه تشتكي أرق الليل، أمّا أفكاره كما بدا لي مُشتتٌ عن الواقِع..
حدثني عقلي عن ماهيةَ عِلته..
.

سرتُ نحوَ مُحاضرتيّ الأخرى، أجلسُ على مقعدي وبالي مشغولٌ به، يُحدثني قلبي بأن راحةَ بالِه تكمنُ معي، أينَ وكيف ولمَ... لا أعلم، أشعر بذلك وعليّ النجدة..
.

سارحٌ بين أفكاري، عدتُ إلى منزلي وألقيتُ بنفسي، أفكر بما قد أساعِده، لمَ أشعر بأن جبلاً قد وقع في قلبي، أ لهذا الحد عليّ مُساعدته يا إلهي..
.

- بُني!  بدل ملابِسك وتعالَّ لتناول الطعام!
صوتُ أمي مناديةً بتر خيوطَ أفكاري..
إستحممت وبدلتُ ملابسي في عجل، فقبلَ كلِ شيء عليّ إسكات معدتي العزيزة..
.

أتناول طعامي بصمت، أشعر بتحديقها نحويّ، تركتُ الملعقة جانباً ونطقت:
- هل هناك شيءٌ ما؟!
- أنا أريد سؤالك ذلك!.. ما خطُبك بنيّ!؟
تحدثت أمي مُعاتِبة
أجبتُ في عَجب:
- ما خطبيّ!!
- أنتَ صامتٌ اليوم على غيرِ عادة.. أهنالكَ ما أزعجك!؟
تساءلت بحِيرةٍ من صمتي
- لا أنا فقط أُفكر...
قُلتُها وأنا أعبثُ بالملعقة..
- حسناً إذاً...
قالتها وقد عادت إلى تناول طعامها..
ما هذا!!  هل تُحاول تجاهُليّ بعد أن علمت بأنَّ هنالكَ ما يشغلني!!!
- ألن تسألِ عمّا أُفكرُ به!!؟
- بُنيّ أنا حاضرةٌ هنا في المنزل دائماً.. متى ما أردتَ الحديث فأنيّ أُنصِت...
حسناً، تلكَ الحيلة أعرفُها جيداً، خُطةٌ إستدراج!!
ولكن ربما تملك ما يُساعدني... لعلَّ!!
.

- أمي!
- ماذا تُريد؟
- كنتُ أفكر في السيد جانيل..
- لماذا؟!.. ماذا بِه!؟
- لا أعلم حقاً، بدا لي غريباً عن ما كان، أشعر بأنه يذبل، وكأنه مريض!
- أوه! حقاً!!.. مسكين لابد من أنَّ داء الوحدة قد أصابه..
- أتذكر حينَ أتى لـلعشاء في تلك الليلة، قبل أن يُغادِر سألني عن ما إذا كانت لي شقيقةٌ صغرى، وحينَ أجبتُه بـلا توقف عن الحديث وودعني وخطى في طريقه..
غصتُ في أفكاري مُسترجعاً لتلكَ الأحداث..
- لـرُبما يتحدث عن تلكَ الفتاة...
همست بخفوتٍ مُحدثةً ذاتها..
- ماذا قُلتِ لم أسمعك!؟
نظرتُ إليها والإستفهام يملأ رأسيَّ من همسها..
- أ ظنه يتحدث عن " سـديـم "..
- من؟!!
قلتُها بعجب
- سـديـم.. طفلةٌ تأتي إليّ دائما حينَ أكون بمفردي و نتحدثُ سوياً..
- أوه حقاً!! ، لم تُخبرينيّ عنها؟!
إستقامت حاملةً معها الأطباق لأتبعها بدوري مُتجهين للمطبخ..
أكملت قائلةً:
- لم أحدثكَ عنها لأنك لا تسألُني كيف أقضي يومي دونكَ و والدُك، هي أنيسيَّ الوحيد..
- أوه حقاً! .. أختفينا نحن..
- لا و لكنكما تُهملاننيّ!
إبتدأتُ مشاجرةً صغيرة بيني و بينها كنتُ فيها مُدافعاً عن والديّ حيناً و مُهاجماً مُسترجعاً لحقوقي حيناً آخر لينتهي بيَّ خاسراً أُقبِلُ جبينها وأُقنِعُها بإختلاف أرائنا و زيادة أشغالنا عنها.. "حبيبةٌ غالية من يقوى على غضبها عليه؟ "، لستُ بـأنا!!
.

إستلقيتُ على فِراشي أُفكر فيما أخبَرتني عنه والدتي
_ سـديـم _ تلك، تأتي إلى هنا حينَ لا نكون موجودين، غريبةٌ هيَّ..
.

غفى مُتعلقاً بأفكاره، محتاراً في أمرها، لم تخطُر له سوى فكرةٌ واحدة ليتأكد من شكوكِه...
.

مضت ليلةٌ أخرى من ليالي لـندن، مدينةُ الضباب و الغيوم، مدينةٌ يشتاقُ سُكانها إلى أشعة الشمس، تلألأ النجوم وتألُقِ القمر في ليلةٍ ظلماء، بات الجميع، وبات من هو مسكينٌ على فِراش الألم، وحلق الحالِم بينَ غيومِ الأمل، وبقيَّ العُشاقُ حبيسين ليلةٍ أخرى من ليالي الأرق..

  يا ليالي أروي لي عن دمعٍ حبيس
  يا سجناً سُجنتُ فيه دونَ ذنب
  يا مساءً أرسيتَ عليَّ بفِكرٍ مزيدِ..

ساعاتٌ مرت والمدينة مقسمةٌ إلى أجزاء، هناكَ الصامتُ منها وهناكَ الصاخِب، إنقشع الليل و أشرقت الشمسُ بنورها، فجرٌ جديد يحمل معه العديد من الحكايا والقِصص، السعيدةٌ منها و البائِسة، لمعانُ الأشِعة حينَ تخترق بضوئها شفافية النوافِذ...
.

  يا نهاراً شققتَ السماء بأملِك
  يا شمسٌ حاكت رواياتٍ زهيدة
  يا نور أعكس لي ما خلف ظُلماك...

.

شد همته و نهضَ من على فِراش الكسل، وعد نفسه بأن يلقاها مهما طالَ الأمد، لن يبقى سجينَ الظنون، مُكتفَ الأذرُع، يفكي حُزناً على فُراق ما فات، ما هو واقِعٌ عليه إيجاده، تآكلَ ماضيه ولكن الحاضر قائم عليه إسنادُه، وعن المجهول سأصمت و أنتظر، فليسَ لي حقٌ بالقول كذا وكذا..
.

إرتدى أبهى ما في خزانته و أبسط ما يمكن ليزيد من أناقتِه، أ أُحدثكم عن تلك الساعةِ أم أصمتُ أيضا!؟..
.

سأقول! هيَّ مِجرد هديةٍ، تلقاها من عزيزة، قِدمها كـقِدم ماضيه، أمّا مكانتها فهيَ تُساوي دُنياهُ و ما فيها.. الماضي جزءٌ من حاضرٌ يصنعُ المستقبل..
.

وكـمـا يُـقـال:
" مـن لا مـاضـيَّ لـه لا حـاضِـرَّ لـه، ومـن لا حـاضـر لـه لا مـسـتـقـبـل يُـؤويـه "

.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
_________________________________________
...يُتبع

| حينَ يختفي الشفق | { مُكتَمِلة } ✔Tahanan ng mga kuwento. Tumuklas ngayon