الفصلُ الثاني

949 39 52
                                    

أردفَ قائلاً بحِدة:
- Out! « !أُخرج »
تحدث الطالِب مُعلقاً..
- لكنّي لم أفعل شيء!!
نظر إليه بصرامةٍ بينما يُعيد تكرار ما قاله بغضبٍ بادٍ..
أخذ أغراضه مُتوجها نحو المخرج بينما يلقي بعض النظرات المُستحقرة له..
بدأ جانيل بشرح بعد أن ألقَ التحيةَ على طُلابه، كان الجميع يُنصت إليه بإهتمام و أيضا حتى لا يحصل لهم ما حصل للتو مع زميلهم..
.

ساعتانِ إنقضت من أعمارهم مستمعين إليه دون أن يقطع حديثه أحد حتى و إن لم يستطع فهم نقطةٍ ما، فهو لا يزال يمتلك خُصلة الغضب السريع والتي يتجنبُها كل من حوله إستفزازها..
.

إنتهى اخيراً، غادرَ الجميع من أمامهُ مسرعين عدا البعض ممن تحلى بالجرأةِ لسؤاله عن بعض النقاط الغير مفهومه،... نصفُ ساعةِ مضت بينما يشرح لهم بهدوء تعويضاً لهم ليستطيعوا الإستيعاب أكثر..
.

حينَ إنتهى أخيراً، إستدعى الطالب المطرود، توجه معه إلى مكتبه..
قالَ له بحاجبين مُقطبين:
- تحدث!
كان التوتر طاغياً على معالمه حينَ خرجت الكلمات منه مهتزة غيرَ واضحة..
- أ . . أردتُ قول--لل..
أرخى رأسه بإتكائٍ على باطن يديه وهو يتصفح معالم وجه من أمامه بعمق ..
أردف قائلاً له بعد دقائق تفكيرٍ وصمت..
- حينَ تريد التحدث معي في أمرٍ ما فأنا هنا في أي وقت...
إبتسم له باعثاً بموجةِ إطمئنانٍ إلى قلبه..
إرتخت أعصاب الآخر ليهِمهمَّ بشكره..
أردف قائلاً بعد أن إنتهى الآخر من حديثه..
- ولكن إن قاطعتني مرةً أخرى أثناء تواجدي في القاعة فأعلم بأنك ستسقط في مادتي وتضطر لإعادة عامك من جديد.. مفهوم !!
قالها مُهدداً مُحركاً سبابته أمام وجه الآخر..
- مـ .. مفهوم..
قالها بعجلٍ لينصرف من أمامه بسرعة...

.

مرت الساعاتُ يومِه ببطءٍ مُعتاد، تحركت قدماه عائدةٍ به إلى دفئِ منزله الفارغ، يسيرُ بين الشوارع الملطخةَ بلونِ الاوراق الأشجار، أشجارٌ تعرت من غطائِها..
.

لم يُرد صعود الحافلة، أكمل طريقه مُتأملاً كل شجرةٍ يمر منها، توقفت قدماه حين لمح منزله، تأمل السكون المحيط به، رغم طول السنوات التي عاشَ بها وحيداً منفرداً بنفسه، إلا أنه غيرَ نادمٍ على ذلك بل هو ينظر إلى إنجازاتِه الأخرى..
.

رغم أنه لم يهتم إلى جانبه العاطفي إلى أنه أهتم أكثر بجانبه العملي والعلمي، كان يُحرز الكثير من النقاط في ذلك، يفعل المستحيل لكي يحظى بالمكانةِ التي يريدها..
.

دخل منزله بعد فترةِ تأملٍ قصيرة، أراحَ جسده أسفل المياه الدافئة، بدلَ ملابسه إلى أخرى مُريحةً ومناسبه، أنيقٌ في إختيار الألوان، كنزةٌ صوفية رمادية عليها بعض الأشكال الهندسية المتناسقة و بنطالٌ بلون كحلِ السماء الليلية، توجه إلى حيثُ يقودهُ عقله الثاني، إلى حيثُ الطعام، أعد لنفسه وجبةً خفيفة بالإضافة إلى كوبٍ من الشكولاتة الساخنة، مُتربعٌ على الأريكة بجانب النافذة، يتناول ما في طبقه ويحتسي من شرابه، يراقب هدوء محيطه بينما يستمع إلى بعض الموسيقى الهادئة، صنع جواً مناسباً لتحرر أفكاره..
.

كان وقتُ الغروب قد إقترب، وقت ظهور لوحة المساء المتغيره، أنتهى من غسل أطباقه، صعد السلالِم متجها إلى سطح المنزل حيثُ إعتاد مراقبة الشفق المُرتسم...
.

مُتكئٌ على حافة السطح، عيناه تُراقب نبض لوحةِ الخالق، إخترق مسامعه صوت الآذان العذب، أغمض عيناه بإستمتاع متلذذاً بعذوبة صوت المؤذن، فتحها مجدداً على تلك اللوحةِ الدامية..
-تذكرتُ قول مطرانٍ فيكَ يا مساء:

يـا لـلـغـروبِ ومـا بـهِ مـن عـبـرةٍ **
لـلـمُـسـتَـهـام وعِـبـرةٍ لـلـرّائـي!
مـرت خـلال غـمـامـتـيـن تـحـدُّراً **
وتـقـطّـرت كـالـدّمـعـةِ الـحـمـراءِ

.

مضى نازلاً إلى الأسفل، توجه للخروج بعد أن أطفأ كافةَ الأنوار، توجه في دربه نحو إقامة الصلاة فرغمَ كلَ شيء يبقى ذلك الرجل مُسلما حاله كجميع العباد، عليهِ واجبات يجب قضاءها لم ينسى ذكر دعاءه قبل التوجه للمسجد..
.

كالعادة كان المسجد يرددُ صدى صوتٍ ترتيلٍ عذبٍ كالسلسبيل، مجرد الدخول إليه وتطهير نفسه لإقامة فرضه يجعل قلبه متناغم مع الكون وعقله يستريحُ عن التفكير العقيم، تسري في جسده قشعريرةٌ مريحة، طمأنينةٌ و سكون..
.

خاشعاً مُتذللاً مع المصلين، يصطف حاشراً نفسه في ذلك السطرُ اليتيم، مؤلمٌ أن ترى المسجد يتيماً من عِباد الله الذين آمنوا، ولكن الأمل باقٍ رغم كل الصعاب فليسَ هنالك عبدٌ تركهُ الرحمن دون رعاية، مضت ركعاته الثلاث ولا يزال متناغم مع أصواتُ الآيات القرآنية...
.

توجه حاملاً بين يديه مصحفا بنية ترتيل آياتِ الرحمن، لحظةُ قراءته لأولى أيات سورة المُلك حتى إجتاحَ قلبه حلاوة الترتيل...
﴿ تباركَ الذِي بيدهِ المُلْكُ وهوَ على كُلِ شيءٍ قَدِير {١} الذِي خَلَقَ المُوْتَ والحِيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عملاً وهوَ العَزِيزُ الغفُور
.

بعد ساعةِ ترتيلٍ و إنغماسٍ في لذةٍ القرآن توجه لإقامة فرض العِشاء، ركوعٌ سجود و تشهد مضت دقائق وهم على حالة خشوعٍ تام، جلسوا بعدها ليستمعوا لخطبةٍ قصيرةٍ ألقاها الإمام على مسامعهم، الجميعُ ينصتون بجوارحهم واعياً مُتأملين للمعاني المبطنة فيها..
.

إنتهوا بعد مضي عشرون دقيقة، سلم كل مصليٍ على أخيه مودعاً له ومعتذاً بمتاع الدُنى، غادر جانيل الأخير كعادته فهو كان يجد في بيت الله مخبأه من العالم المحيط، سار بترنحٍ نحو المخرج مغلقاً خلفه الأضواء والأبواب..
.

يرتدي حذاءه بأقلَ من مهله فلا يوجد من ينتظره في ذلك المنزل، إستقام متجهاً إلى درب العودة، أوقف سيره ضحكةُ طفلةٍ إرتد صداها في أذنيه، تلفت ذات اليمن و ذات الشمال ولكنه لم يبصر أي طفلةٍ تلهوا بجِوار مبنى المسجد..
.

تحرك مُكملاً طريقه، ولكنَ شيئاً ما جعله يلتفت لإلقاء نظرةً أخيرة قبل المضي في دربه، نظر إلى حيث يكمن المسجد الصامت، كانت هنالك طفلةً تنتصب واقفةً أمامَ المبنى تنظر إليه مبتسمة، لوحت له مودعة، ركضت مختفية وراء المبنى..
.

كان حائراً في أمرها، طفلةٌ وحيدة في هذا الليل، قطب حاجبيه بتفكير..
- تُرى....
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
_________________________________________
...يُتبع

| حينَ يختفي الشفق | { مُكتَمِلة } ✔حيث تعيش القصص. اكتشف الآن