الفصلُ الثامن

202 18 37
                                    

تُشعرني بالذنب، ما هذا كله، أشعر الآن بأنني إرتكبتُ خطيئة في حقهم، إلهي فـالتُعني على ما أنا مُقبلاً عليه...
.

- إذاً هل لي أن أوصلك اليوم؟!
- أممممـ.. يبدو بأنك تملكُ فضولاً حولَ مسكنيّ..
- رُبـمـا..
- هات يدك إذاً..
نهضتُ مستقماً من ركوعيّ، مددتُ يديّ إليها...
- هــاكِ...
أمسكتُ بيدها، سرتُ وطريقها، كنتُ أراقبُ معالِم الدرب لأحفظه عن ظهرِ قلب، سلكنا طريقاً أقل ما يُقال عنه غريب، الكثيرُ الكثير من الأشجار تحيطُ به..
.

حينَ كنتُ أتبعُها بهدوء سمعتُها تُدندن كلماتٍ لأغنية ما، سألتُها بفضولٍ عمّا تُدندنه:
- أيةُ أغنيةً هذه؟!
نظرت نحوي بعد أن توقفت عن الغناء، تحدثت وهي تُأرجح أيدينا في الهواء..
- إنها أغنية « Orange »..
- أغنية « Orange »!
قلتُها بتعجُبٍ بادٍ..
ردت بضحكة:
- أجل .. ألم تستمع إليها؟! .. إنها رائعةٌ جداً..
- للحق!  لم أستمع إليها من قبل..
- أ أُسمِعُكَ إياها؟!
- من فضلك إفعلِ..
بدوتُ متشوقاً للغايةِ رغم محاولة إخفاء ذلك الحماس..
.

مشينا مع هذا العبئ الذي نحملهُ في الخُطى
  الضحك على لا شيء
  كما لو أننا ننظر بعيداً لنفسِ الحُلم
  إذا إستمعت بعناية
  أستطيع سماعه إلى الآن
  صـوتـك!
  يُلطخ هذه المدينة بـاللونِ البرتقالي.. *
.

كان صوتها عذبٌ متناغم كسيلانِ المياه، لم أسمع في حياتي صوتا ينسابُ في المساع هكذا، شعرتُ بأن قلبي من ينصت لا أُذنيّ، توقف لساني وعجز عن التعبير حينَ سألتني عن ما إذا أعجبتني أم لا، كنتُ أُبحِر بعيداً عن هذا الواقع، سألتها بأن تُتابع الغناء فقد كان شوقي لسماع المزيد يفضحني..
- أيُمكنكِ المتابعة، صوتكِ أعجزَ سمعيّ..

إحمرت وجنتاها!، لم أعتقد يوماً بأنها تخجل، إعتدتُ على أن ترد عليّ بكلماتٍ دونَ خجل.. هذه المرة لم أسمعها تُجيب، فقط صوتها يغني بينما نسير، أظن بأن عيناها قد فعلت الكثير وإبتسامتها شرحت أكثر مما ينبغي... أشعرُ وكأني والدٌ إلتقى بإبنتِه الضائعة بعد سنين طوال..
.

  يالي من فقير!
  تشقق قلبي ظمأً وشوقاً للمزيد
  كهِلت وعجزت وبدا شيبي
  إنشقَ ظهريّ بعَظَمةِ السنين
  أهلكني الحُلم
  حُلمُ المزيد
  أصبحت الآن فقيد الحياة..
.

كلماتٌ حاكت مبناها في أعماقِه المظلم، بدا له أن السنينَ تجاوزته، وتخلت عنه الأماكِن، وحيدٌ بائس، لم يتقدم حتى بقدارِ شعره..
.

توقفت فجأة عن الغناء، نظرتُ حولي كـمن تلقى صفعةً مُفاجئة، وصلنا أخيراً ، وصلنا إلى بُقعةٍ خاليةٍ من المباني، كان منزلاً يتيم الوحِدة، تُحيطه شُجيرات صغيرة، منزلٌ متواضع، تنفذُ الإضاءة من نوافِده، ظللتُ أتأمله بفضول، شعرتُ بأنه يفيض بذلك الدفئ المفقود _ دفئُ العائلة _ راقبتُها وهي تتجه نحو الباب، دقت ثلاث دقاتٍ مُتناغمة، فتحت لها سيدةٌ كبيرة في السن، إلتفتت للخلف، ألقت نظرةً عليّ ومن ثَم عادت وتحدثت مع السيدة، لوحت مُودعةً لي وأُغلقَ الباب بعدها...
.

مندهشٌ أُحدثُ نفسي...
- غريبةٌ هيَ كما يبدو كـعائلتها!  .. حتى أنها لم تُكلف نفسها بسؤاليّ _ أ أتفضلُ أم لا؟! _ يـا إلهي...
غادرتُ المكان تاركاً فيها حيرتي فـلم تكن لي رغبةٌ في التفكير أكثر..
.

بين ظُلماتِ الطريق واجهتُ بعض العراقيل في إيجاد طريق عودتي..
- كيفَ لها بأن تحفظ خطواتِها بين الظلام!؟..
أخيراً شق النور طريقُه إليّ، بدا الأمرُ كـمعجزةٍ جميلة حينَ أدركتُ الطريق..
.

عدتُ أخيراً إلى منزلي، عكسَ ما رأيت، كانَ خالياً من أيةُ حيوات، يستقبِلُني ببروده، حتى الحديقةُ تشتكي من التقصير، يجبُ عليَّ الآن ترتيبُ ذنبَ مكتبتي، وغداً قبل الذهاب عليَّ الإعتناء بجمالِ حديقتيّ..
- لـرُبما أستطيعُ الإتصال بأي شركةٍ تُرتبها لي، فـفي بُكرةِ النهار أشدُ البرد... لـرُبما سـأسألُه بأن يأتي قبيل إنتصافِ النهار... سـأُقرر حين أنتهي من عمل الكُتب..
.

حامِلاً معي أدواتُ التنظيف، أقفُ أُراقِبُ صمت الباب، تُحدثُنيّ أصواتُها عن ضرورة الترتيب..
- أُفكرُ حقاً في التبرُعِ بـبعضٍ من الكُتب، حتى أُفسحَ المجال لـغيرِها..
وضعتُ الأغراض جانباً حينَ دخلت، بدأتُ بترتيب الرفوف ونفضَ الغبار عنها، هناك بعضٌ من مساكِن العناكِب حاكتها بين الزوايا، أفسحتُ مجالاً في الرفوف لبعض الكُتب... صنفتُها بالأبجدية، وضعتُ ما أريدُ التبرُعِ به في صندوقٍ متوسط الحجم وأغلقتُه..
.

كانت الساعةُ متأخرةً حينَ إنتهيت، عادت وكأنها جديدة، تأكدتُ من سلامةِ جميع الكُتب، إسترخيتُ على المقعد، بدأتُ أتأملُ الإنجاز العظيم الذي قُمتُ بفِعله.. 
.

نهضت، إتجهتُ للخروج، أثناء سيري في الرواق إستقبلتني ذلك الإنعكاس المخيف، نظرتُ إليه بعينين جاحِظتين، يُشبهني لحدٍ كبير ولكنه ليسَ بـأنا..
أتأملُ إنعكاسي عليها، أشعثُ الشعر، يغطيه الغبار والأتربة، تلوثت ملابسه بـبقايا شباكِ العنكبوت...
- أبدو مُخيفاً بعد جولةٍ التنظيف.. فضحتنيّ يا مرآتي..
خطوتُ إلى غرفتي، أخذتُ بعض الملابس النظيفة، توجهتُ للإستحمام وإستعادةُ شكليَّ السابق، أسفل المياه الدافئة لاحَ لي منظرُها البريء حينَ ودعتني..
- أ تُراها تلكَ السيدةُ أحد أقاربها!؟ لـرُبما كانت والِدتها.. رُبـــمـــا ومن يعلم..
.

إنتهى من تنظيف نفسه، إرتدى ما أختاره من الملابس نظيفة ووضع الأخرى في سلةِ غسيله، إستلقى على فِراشه بعد أن أطعمَ معِدته بما وجده، غاصَ في أفكارِه فـهذا اليوم كانَ مليئاً بالأحداث...
.

أصبحَ الآن يعرفُ أينَ تُقيم « عابِرةَ النجوم » _كما أسماها_، أخيراً حصلَ على معلومةٍ تُظهِر له بأنها تُشاركه في ذاتِ الحياة، كان سعيداً لأنه إستطاعَ رسمَ ملامِحها في خياله بعد أن كان الأمرُ أشبه بـالمستحيلِ سابقاً، نامَ وإبتسامته لاتزالُ تُزين ثغره، نامَ وهو مُصممُ على معرفة المزيد والمزيد عن حياتِها، لـرُبما يزورها فجأةً حينَ لا تتوقعه فهذا قد يكشفُ له ما إن كانت تكذب حيالَ مسكنِها أم لا !! نامَ وأذناه تُدندن كلماتِ تلك الأغنية، شعرَ بأن تتحدث عنه، أليسَ اللون البرتقالي من جمعهم، ذلك المنظر الخلاب الذي تُحِكُه السماءُ وغيومِها، بديعُ خلقِ الله، يسلخُ الليلَ من النهار، إعجازٌ لا يُنكر، سُبحانه وتعالى عن جميع المخلوقات، وهبها ذلك الصوت العذب، كرمها به...
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
_________________________________________
...يُتبع

* ( أغنيةُ النهاية من أنمي كذبتُكَ في إبريل  )

| حينَ يختفي الشفق | { مُكتَمِلة } ✔Where stories live. Discover now